الإثنين 24 رمضان 1446 هـ | 24-03-2025 م

A a

«لا ‌تُصاحِبْ ‌إلَّا ‌مُؤمنًا، ولا يأكُل طَعامكَ إلَّا تقِيٌّ».


رواه أحمد برقم: (11337)، وأبو داود برقم: (4832)، والترمذي برقم: (2395)، والدارمي برقم: (2101)، من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (7341)، مشكاة المصابيح برقم: (5018).


شرح مختصر الحديث


.


شرح الحديث


قوله: «لا تُصاحِبْ إلَّا مُؤمنًا»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«لا تُصاحِب» أي: لا تقصد في المصاحبة، «إلا مؤمنًا» أي: كاملًا بل مُكَمّلًا، أو المراد منه: النهي عن مصاحبة الكفار والمنافقين؛ لأن مصاحبتهم مُضرة في الدِّين، فالمراد بالمؤمن: جنس المؤمنين. مرقاة المفاتيح (8/ 3141).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
المؤمن يجوز أن يُراد به: العَامّ، وأن يُراد به: الخاصّ الذي يقابله الفاسق، كقوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} السجدة: 18، فيكون المعنى: لا تصاحِب إلا صالحًا. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3206).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
قلتُ: المراد بالفاسق: الكافر باتفاق المفسرين، ويدلُّ عليه ما بعده من قوله تعالى: {لَا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} السجدة: 18-20، فالفاسق ها هنا معناه: الخارج عن الإيمان، الثابت على الكفر. مرقاة المفاتيح (8/ 3141-3142).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
النهي في قوله: «لا تصاحب إلا مؤمنًا» للحُرمة، فإنَّ المصاحبة مقدمة المودة، وهي مع الكفار حرام، قال الله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَه} المجادلة: 22، وقال: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} الممتحنة: 1، ويحتمل الكراهة؛ حملًا للمؤمن على المؤمن الكامل؛ احترازًا عن المسلم الفاسق والظالم. الأزهار مخطوط لوح (424).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«لا تصاحب إلا مؤمنًا» تقيًّا، فإن صُحبة الكافر والفاسق الذي لا يتقي الله تعالى تغير الطباع، والطّبع يسرق من الطّبع من حيث لا يدري صاحبه، فمُصاحبة الحريص تزيد حرصًا على الدنيا، ومصاحبة الزاهد تُزهِّد، فكذلك يكرهُ صحبة طلاب الدنيا، ويستحب صحبة الراغبين في الآخرة، وكذلك حذَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن مجالسة الموتى وهم الأغنياء، وأعظم بركة صحبة الْمُتَّقي أن ترجو شفاعته يوم القيامة إذا حصلت له النّجاة، كما قال تعالى: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} الشعراء: 100-101؛ ولأنه قد يرى منه خصلة حميدة في مخالطته؛ فتنبعث نفسه إلى العمل بها والتشبه به، وغير ذلك من الفوائد. شرح سنن أبي داود (18/ 523).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
«لا تصحب إلا مؤمنًا» فالعاصي مشؤوم على نفسه وعلى غيره؛ فإنه لا يُؤمَنْ أن ينزل عليه عذابٌ فيعمّ الناس خصوصًا مَن لم ينكر عليه عمله، فالبُعد عنه متعيِّن؛ فإذا كثُر الخبث هلك الناس عمومًا، وكذلك أماكن المعاصي وعقوباتها يتعيَّن البُعد عنها والهرب منها؛ خشية نزول العذاب؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه لمّا مرَّ على ديار ثمود بالحِجر: «لا تدخلوا على هؤلاء المُعذَّبين إلا أن تكونوا باكين؛ خشية أن يصيبكم ما أصابهم»، ولَمّا تاب الذي قتل مائة نفس من بني إسرائيل وسأل العالِم: هل له من توبة؟ قال له: نعم، فأمره أن ينتقل من قرية السوء إلى القرية الصالحة...، هجران أماكن المعاصي وأخواتها من جملة الهجرة المأمور بها؛ فإن «المهاجر مَن هجر ما نهى الله عنه»، قال إبراهيم بن أدهم: «مَن أراد التوبة، فليخرج من المظالم؛ وليَدَعْ مُخالطة من كان يخالطه وإلا لم ينَلْ ما يريد». لطائف المعارف (ص:77).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«لا تصاحب إلا مؤمنًا» وكامل الإيمان أولى؛ لأن الطباع سرَّاقة؛ ولذلك قيل:
ولا يصحب الإنسانُ إلا نظيرَه *** وإن لم يكونوا من قَبيل ولا بلَد.
فصحبة الأخيار تورث الفلاح والنجاح، ومجرَّد النظر إلى أهل الصلاح يؤثِّر صلاحًا، والنظر الى الصور يؤثِّر أخلاقًا وعقائدَ مناسبةً لخُلق المنظور وعقيدته، كدوام النظر إلى المحزون يُحزن، وإلى المسرُور يَسُرّ، والجَمَل الشَّرود يصير ذلولًا بمقارنة الذَّلول، فالمقارنة لها تأثير في الحيوان، بل في النبات والجماد، ففي النفوس أولى، وإنما سُمِّيَ الإنسان إنسانًا؛ لأنه يأنس بما يراهُ من خير وشرٍّ. التيسير (2/ 494).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
«إلا مؤمنًا» أي: لا كافرًا، أو مؤمنًا صالحًا لا فاسقًا، وهو الأنسب بقرينة قوله: «لا يأكل طعامك إلا تقيّ». لمعات التنقيح (8/ 281).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«لا تصاحب إلا مؤمنًا» فيه: نهيٌ عن موالاة الكفار، ومودَّتهم، ومصاحبتهم، قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} المجادلة: 22. دليل الفالحين (3/ 229).

قوله: «ولا يَأكُلْ طعامكَ إلا تَقِيٌّ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ولا يأكُل طعامكَ إلا تقيٌّ» أي: مؤمِن أو متورِّع يصرف قوة الطعام إلى عبادة الله الملك العلام، والنهي وإن نُسِبَ إلى التّقي، ففي الحقيقة مسندٌ إلى صاحب الطعام، فهو من قبيل: لا أَرَيَنَّكَ ها هنا، فالمعنى: لا تُطعِم طعامك إلا تقيًّا، وفي رواية بزيادة: «ولا تأكلْ إلا طعامَ تقيٍّ»؛ فإن طعامه غالبًا يكون حلالًا مؤثرًا في تحصيل العبادة. مرقاة المفاتيح (8/ (٣١٤١).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «ولا يأكل طعامك إلا تقيٌّ» نهيٌ لغير التَّقي أنْ يأكل طعامه، فالمراد: نهيُه عن أن يتعرض لما لا يأكل التقيُّ طعامه من كسب الحرام، وتعاطي ما ينفِر عنه التّقي، والمعنى: لا تصاحب إلا مطيعًا، ولا تخالل إلا تقيًّا. الكاشف عن حقائق السنن(10/ 3206).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
وهو في غاية من البهاء، غير أنه لا يستقيم به وجه الحَصر -والله أعلم-. مرقاة المفاتيح (8/ 3142).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
النهي في قوله: «ولا يأكل طعامك إلا تقيٌّ» للكراهة والتنزيه، فإنَّ الفاجر يعمل به الفجور، كما أنَّ الصالح يعمل به الطاعة. الأزهار مخطوط لوح (424).
وقال الكلاباذي -رحمه الله-:
يجوز أنْ يكون المراد بقوله: «لا يأكل طعامك إلا تَقيّ» يريد به: المواكلة التي توجب الأُلفة، وتؤدِّي إلى الخُلطة، فإن المواكلة أوكد أسباب الأُلفة، وأحكم دواعي الخُلطة، وأوثق عُرى الْمُداخلة والاستئناس، ومخالطة مَن ليس بتقي والاستئناس به والألفة معه تغرُّ الإنسان، وتُخِلُّ بالدِّين، وتُذهب المروءة، وتُوقع في الشبهات، وتُؤدي إلى تناول المحرَّمات، فكأنه -صلى الله عليه وسلم- حذَّر مخالطةَ الأشرار، ونهى عن مصاحبة الفُجَّار؛ لأن مخالطة الفُاجر لا تخلو من فساد يلحقك منه، إما متابعة له فيما يأتيه، فيذهب الدين، وإما مسامحة في الإغضاء عما يوجبه حقُّ الله من أمرٍ بمعروف، أو نهيٍ عن منكر، وإما استخفافًا بفجوره، فإن مَن رأى الشيء كثيرًا، سهُل ذلك في عينه، وصغُر عند نفسه، فإن سلم الإنسان عن هذه الأسباب، ولا يكاد يَسلم إلا مَن عصمه الله، فيخطئه فتنة الغير به، وليس قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يأكل طعامك إلا تقي» -إن شاء الله تعالى- على معنى حِرمان ذلك -إطعامًا ومناولةً- مَن ليس بتقي، فقد أَطعم النبي المشركين، وأعطى المؤلفة قلوبهم المائتين من الإبل، والألوف من الشياه وغيره، وكان يصنع إلى البَرِّ والفاجِر، ويأمر به ... ، ويجوز أن يكون المعنى فيه التحرِّي والقصد، كأنه يقول: لا تتحرَّيَنَّ بإطعامك إلا التقي، ولا تقصدنَّ به إلا البَرّ الذي يتقوَّى به على طاعة الله -تعالى- والعبادة له والشكر له، فتكون معاوِنًا على البِر والتقوى، كما قال الله -تعالى-: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} المائدة: 2، فيقول: لا تقصدنَّ بإطعامك الفاجر الذي يتقوَّى به على فجوره وآثامه، فتكون معاوِنًا على الإثم والعدوان، فمَن تحرَّى في إطعامه، وطلب له، واختار، فليقصد أهل البِرِّ والتقوى، ومَن بذل طعامه وتسخَّى في إطعامه، فليدَع التحرِّي، وليُطعِمه مَن قصده، ولا يحرمه مَن أتاه. بحر الفوائد (ص243-245).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يأكل طعامك إلا تقيّ» إنما أراد به طعام الدعوة دون طعام الحاجة، ألا تراه يقول -تعالى ذكرهُ-: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} الإنسان: 8، ومعلوم أن أَسراهم الكفار دون المؤمنين ودون الأتقياء من المسلمين، وإنما وجهُ الحديث ومعناه: لا تدعُ إلى مؤاكلتك إلا الأتقياء؛ لأن المؤاكلة توجب الألفة وتجمع بين القلوب، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فتوخَّ أن يكون خلطاؤك وذوو الاختصاص بك أهل التقوى». العزلة (ص:47).
وقال أبو طالب المكي -رحمه الله-:
«ولا يأكلْ طعامَك إلا تقيٌّ» لأن التَّقي قد استبرأ لدينه، واجتهد بعلمه، واحتاط لنفسه، فقد سقط عنك البحث والاجتهاد؛ لأنه قد ناب عنك فيه، وقام لك به، فكفاك كلفته، فغنيتَ عن تكلّفه...؛ ولذلك كان المتقدمون يستحبُّون أكل طعام العلماء والصالحين.
وأما مَن لا يحتاط ُلنفسه، ولا يستبرئ لدينه، ولا يتَّقي في مكسبه، حتى لا يبالي من أين أكل؟ ولا من أين اكتسب؟ ولا من أين جاءه الدرهم أبدًا؟ فهذا غير تقيٍّ، فحينئذٍ يلزمك أنت البحث لنفسك والاجتهاد والاحتياط لدينك إذا لم يقم به غيرك. قوت القلوب (2/ 480).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ولا يأكل طعامك إلا تقي» لأنه يتقوى به على الإتيان بالطاعات، وعكسه الفاسق؛ فإنه يتقوى به على خلاف ذلك، وهذا حثٌّ على الأَولى والأرجح وإن جاز خلافه. التحبير (6/ 673).
وقال الغزالي -رحمه الله-:
«ولا يأكل طعامَك إلا تقِيٌّ» وهذا لأن التّقي يستعين به على التقوى؛ فتكون شريكًا في طاعته بإعانتك إياه. إحياء علوم الدين(1/ 219).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«ولا يأكل طعامك إلا تقيٌّ» ليكون ما تُطعِمه إياه عونًا له على الطاعة، وهذا في طعام الإحسان والمواساة والكرم دون طعام المُضطرِّ والجائع والضيف، فعن بعض الأنبياء أنه استضافه نصراني فلم يطعمه؛ لكفرهِ، فلما ولّى عنه النصراني أوحى الله إليه: أنَّ له كذا وكذا يكفر بي، وأنا أطعمه، فهلا أطعمته ساعة واحدة، فدعا النصرانيَّ وأطعمه؛ فسأله النصرانيُّ عن سبب منعه أولًا ودعائه ثانيًا، فذكر له ما أوحى الله إليه، فأسلم، وقد مدح الله إطعام الكافر بقوله:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} الإنسان: 8 ، ومعلوم أن الأسير كافرٌ غير مؤمن ولا تقيّ، وإنما حذَّر من مخالطة غير المتقي ومؤاكلته؛ لأن ذلك يفضي إلى التآلف ومودة القلوب، وغير المتقي لا يؤالف ولا يُتَّخذ جليسًا. شرح سنن أبي داود (18/ 524).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
ينبغي للدّاعي أن يقصد بدعوته الأتقياء دون الفساق، فإطعام التقي إعانة على الطاعة، وإطعام العاصي إعانة له على معصيته.
قال رجلٌ خياط لابن المبارك: أنا أُخيطُ ثيابَ الظَّلمة، وإني أخاف أن أكون من أعوان الظلمة، فقال: لا، إنما أعوان الظلمة مَن يبيع منك الخيط والإبرة، أما أنت فمِن أنفسهم. فتح القريب المجيب (12/ 163).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«ولا يأكل طعامَكَ إلا تقيّ» فيه: الأمر بملازمة الأتقياء، ودوام مخالطتهم، وترك الفُجَّار، فهو نهيٌ له بالمعنى عن إكرام غير التّقي، وإسداء الجميل إليه. دليل الفالحين (3/ 229).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
فالْمُصاحبة والْمُصاهرة والمؤاخاة لا تجوز إلا مع أهل طاعة الله تعالى على مراد الله، ويدل على ذلك الحديث الذي في السنن: «لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي»، وفيها: «المرء على دينِ خليله، فلينظر أَحدكم من يُخالل». مجموع الفتاوى (15/ 327).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
فيه: النهي عن صحبة غير المؤمن؛ لأنه يقودك إلى الشر، ويدعوك إليه. التنوير (11/ 114).
وقال الشيخ فيصل بن مبارك -رحمه الله-:
فيه: النهي عن موالاة الكفار ومودتهم ومصاحبتهم.
وفيه: الأمر بملازمة الأتقياء، ودوام مخالطتهم، وترك مخالطة الفجار، ومؤاكلتهم، وهذا في طعام الدعوة لا إطعام الحاجة. تطريز رياض الصالحين (ص: 249).


ابلاغ عن خطا