أنَّه نَهَى عنْ أَكْلِ لُحومِ الضَّحايا بَعْدَ ثلاثٍ، ثم قال بَعْدُ: «كُلُوا وَتَزَوَّدُوا، وَادَّخِرُوا».
رواه البخاري برقم: (1719)، ومسلم برقم: (1972) واللفظ له، من حديث جابر -رضي الله عنه-.
وفي رواية لأبي داود برقم: (2813)، من حديث نُبَيْشَة -رضي الله عنه-: «إنا كُنا نهيناكم عن لحومها أن تأكلوها فوق ثلاث؛ لكي تَسَعَكُم، فقد جاء الله بالسَّعَة، فكلوا وادَّخِرُوا وأْتَجِرُوا».
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«الضَّحَايَا»:
جمع ضحيَّة، بوزن قبيلة، وفي الضحية ثلاث لغات: أُضحية: بضم الهمزة، وإِضحية: بكسرها، ويُجمعان على أَضاحِيَّ: بتشديد الياء، وأَضْحَاة، وتُجمع على أَضْحَى بوزن أرضى، وبها سُمي يوم الأضحى. الشافي، لابن الأثير(3/ 567 ، 568).
«وَتَزَوَّدُوا»:
الزاد: طعام السفر والحضر، والجمع: أزواد. وتزوَّدَ: اتخذ زادًا. المحكم، لابن سيده (9/ 98).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
التَّزَوُّد: تَفَعُّل من الزاد يُتخذ للسفر والحضر جميعًا، وكل من انتقل معه بخير أو شر مِن عملٍ أو كسبٍ فقد تزوَّدُوا، ومنه قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} البقرة: 197. الشافي (3/ 568).
«وادَّخِرُوا»:
أي: ادَّخروا ما تَزَوَّدُونه فيما تستقبلونه مسافرين أو مجاورين. مرقاة المفاتيح، للقاري (5/ 1824).
وقال بطال الركبي -رحمه الله-:
والادخار أصله: الاذتخار، وهو الافتعال، مِن ذَخَرْتُ الشيء، أي: رفَعْتُه وحفِظْتُه. النظم المستعذب(1/ 152).
شرح الحديث
قوله: «أنه نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث»، وفي رواية أبي داود: «إنا كنا نهيناكم عن لحومها أنْ تأكلوها فوق ثلاث»:
قال المظهري -رحمه الله-:
«الضَّحَايَا» هي ما يُذبح يوم العاشر من ذِي الحجة، وأيام التشريق للقُربان. المفاتيح (2/ 466).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«أنَّه نَهَى عنْ أكلِ لحومِ الضَّحايا بعدَ ثلاثٍ» أي: بعد ثلاث ليال، فتذكير العدد باعتبار الليالي. البحر المحيط الثجاج (33/ 448).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«نهيناكم عن لحومها» أي: الأضاحي أو الهدايا. مرقاة المفاتيح (5/ 1827).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
«بعد ثلاث» من ذبحها. شرح الموطأ (3/ 114).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«ثلاث» أي: ثلاثة أيام. اللامع الصبيح (14/ 26).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«بعد ثلاث» أي: ثلاث ليال. ذخيرة العقبى (34/ 33).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«أنّ تأكلوها فوق ثلاث» أي: وتدَّخروها. بذل المجهود (9/ 568).
وقال الباجي -رحمه الله-:
«نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث» يريد أنه نهى أن يأكل منها ذابحها والمضحي بها بعد ثلاثة أيام، وهي أيام الذبح؛ لأنه لما أباح الذبح في الثلاثة الأيام أباح الأكل فيها من الأضحية، وقصر إباحة الأكل عليها؛ ليتمكن المضحي بأن يؤخر الذبح إلى آخرها، ولا يتعذر عليه الأكل منها، ويحتمل أن يريد إباحة الأكل بعد ثلاثة أيام من وقت ذبح أضحيته، وإن ضحى في آخر أيام الذبح، فأبيح له الأكل منها ثلاثة أيام؛ ليكون ذلك مقدار ما يأكل فيه منها؛ لأن في منعه منها بعد اليوم أو المدة اليسيرة تضييقًا عليه، وفي أكله منها ثلاثة أيام منتفع وسعة، ونهى عن أكلها بعد، والنهي يقتضي التحريم، ثم نُسخ ذلك بإباحة أكله، وتزوِّده وادخاره بعد ثلاثة أيام، وهذا من نَسْخِ السنة بالسنة. المنتقى (3/ 93).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «بعد ثلاث» يحتمل من أول يوم النحر، فلا يتعدى وإن ذبحت في أخراها، ويحتمل أن تكون بعد ثلاث من يوم ذبحها، متى ذبحها من أيام النحر؛ لئلا يضيّق عليهم في أمد ذبحها إن أرادوا التأخير، والأول أظهر إذا لم يعتد ذلك بذبحها، وإن ما أطلقه فهو محمول من يوم قوله.
واستدل بقوله: «بعد ثلاث» بعض مشايخنا على مذهب مالك، أن أيام الذبح ثلاث، خلاف من قال: هي أربع أو أكثر من ذلك. إكمال المعلم (6/ 424).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
اختُلف في أول الثلاثة الأيام التي كان الادخار جائزًا فيها، فقيل: أولها يوم النحر، فمن ضحى فيه جاز له أن يمسك يوم النحر ويومين بعده، ومن ضحى بعده أمسك ما بقي له من الثلاثة الأيام من يوم النحر، وقيل: أولها يوم يضحي، فلو ضحى في آخر أيام النحر لكان له أن يمسك ثلاثة أيام بعده، وهذا الظاهر. المفهم (5/ 376).
وقال الباجي -رحمه الله- أيضًا:
ظاهره: التحريم، وقد يصح حمله على الكراهية بدليل إن وجد، وقد اختلف الناس في تأويله، فتأوَّله قوم على التحريم، وإن النَّسْخَ بإباحته طرأ بعد ذلك، وحمَله قوم على الكراهية، ويحتمل أن تكون الكراهية منسوخة، ويحتمل أن تكون باقية، ويحتمل أن يكون حكم المنع ثبت لعلَّة، وارتفع لعدمها، فيكون ذلك المنع وإن ورد بلفظ العموم محمولًا على الخصوص بدليل. المنتقى (3/ 93).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
اختُلف في الأخذ؛ لهذه الأحاديث، فذهب قوم إلى تحريم إمساكها والأكل منها بعد ثلاث، على ما تقدم عن علي وابن عمر، وأن حكم المنع باقٍ، وذهب آخرون إلى إباحة ذلك، ونسخ النهي جملة، وهو قول الكافة والجمهور، وظاهر الأحاديث، وهذا من نسخ السُّنة بالسُّنة.
وقيل: كان النهي الأول على التحريم، فوردت الإباحة، والإباحة بعد التحريم نسخ، وقيل: ليس بنسخ، وإنما كان تحريمًا لعلَّة، فلمّا ارتفعت ارتفع الحكم، واستدل قائل هذا بما في حديث سلمة، وقد سألوه (أي: النبي -صلى الله عليه وسلم-) عن ذلك، فقال: «إن ذاك عام كان الناس فيه بجهد، فأردت أن يفشوا فيهم»، وعن عائشة وسئلت: أحرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قالت: لا، ولكنه لم يكن ضحَّى منهم إلا قليل، ففعل ذلك ليُطعم من ضحَّى مَن لم يُضَحِّ.
وقيل: بل كان النهي الأول على الكراهة، وعلى هذا فيحتمل أن تكون الكراهة باقية مع الإباحة والجواز، والنهي باقٍ ورد مورد العموم، والمراد به الخصوص؛ للعلة الواردة المذكورة، وأن الحاجة لو نزلت اليوم بقوم دافةٌ (للزم) الناس مواساتهم، وعلى هذا يحتمل مذهب علي وابن عمر، وقيل: يحتمل أن تكون الكراهة منسوخة، وهو أظهر. إكمال المعلم (6/ 424).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وكان -صلى الله عليه وسلم- قد حرَّم عليهم الادخار فوق ثلاث؛ ليتصدقوا على قوم أقدمتهم إلى المدينة المجاعة، ثم أباحهم ما كان محظورًا، وأعْلَمَهم سبب الحظر. كشف المشكل (4/ 241).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
في النهي عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث احتياج الناس وفقرهم، فيُستحب التصدق ولا يُمْسِك، ثم لما وسَّع الله تعالى عليهم ولم يبق الاحتياج، رخص أن يدخروا إلى ما شاءوا. لمعات التنقيح (4/ 219). علة النهي
وقال المظهري -رحمه الله-:
كان رسول الله -عليه السلام- نهاهم عن أن يأكلوا ما بقي من لحوم أضاحيهم بعد ثلاثة أيام، وما بقي بعد ثلاثة أيام في أي وقت شاءوا وجب عليهم التصدق به، فرخص لهم أن يأكلوا ما بقي من لحوم أضاحيهم بعد ثلاثة أيام، ويلزمهم أن يعطوا الفقراء شيئًا منها، ويجوز أن يعطوا الأغنياء والفقراء، ولكن للفقراء أفضل. المفاتيح (2/ 466).
قوله في رواية أبي داود: «لكي تَسَعَكُمْ، فقد جاء الله بالسَّعَة»:
قال ابن الجوزي -رحمه الله-:
أي: لتَعُمَّ الكلَّ، -وكان صلى الله عليه وسلم- قد حرَّم عليهم الادخار فوق ثلاث؛ ليتصدقوا على قوم أَقْدَمَتْهُم إلى المدينة المجاعة، ثم أباحهم ما كان محظورًا، وأعلمهم سبب الحظر. كشف المشكل (4/ 241).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«لكي تَسَعَكُم» أي: لتكفيكم وفقراءكم، «جاء الله بالسَّعة» بفتح السين، ومنه قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} الطلاق: 7، استئناف مبيِّن لتغيير الحكم، أي: أتى الله بالخصب وسعة الخير، وأتى بالرخاء، وكثرة اللحم. مرقاة المفاتيح (5/ 1827).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«لكي تَسَعَكُم» أي: يصيبُ لحومُها كلَّكم، مَن ضَحَّى، ومن لم يُضَحِّ «فقد» كما في نسخة على الحاشية «جاء الله بالسَّعة» في الرزق. بذل المجهود (9/ 568).
قوله: «ثم قال بعد: «كُلُوا وتَزَوَّدُوا وادَّخِرُوا» وفي رواية أبي داود: «فكلوا وادَّخِرُوا وأْتَجِرُوا»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«كلوا» الأمر فيه للاستحباب عند الجمهور، وأوجبه ابن حزم الظاهري، «وتزودوا» أي: خذوا منه زادًا في السفر، وهذا لمن أراد أن يسافر، «وادخروا» بالمهملة، وأصله من ذخر بالمعجمة، دَخَلت عليها تاء الافتعال ثم أُدغمت، ومنه قوله تعالى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} يوسف: 45. ذخيرة العقبى (34/ 26).
وقال الباجي -رحمه الله-:
لفظة «كُلُوا» قد روي ما يقتضي أن معناها: الإباحة، روى ابن المواز عن مالك: لا بأس على الرَّجُل إن لم يأكل من بَدَنَتِهِ، وروي عنه في النوادر أنه قال: وإن تصدَّق بلحم أضحيته كله فهو أعظم لأجره.
وروي ما يدل أنّ هذه اللفظة للندب والاستحباب؛ وذلك أن ابن حبيب روى عن مالك: لو أراد رَجُلٌ أن يتصدق بلحم أضحيته كله؛ لاستغنائه عنه، ولا يأكل منه شيئًا كان مخطئًا، وجه رواية ابن المواز: أنه حيوان يُخرج على وجه القُربة، فلم يؤمر بالأكل منه، أصل ذلك ما نذره أو تصدق به، ووجه رواية ابن حبيب: أنه حيوان يُذبح على وجه القُربة المشروعة، فكان الأكل منه مشروعًا مندوبًا إليه كالهدي.
وقد حكى القاضي أبو محمد (ابن عبد الوهاب بن نصر البغدادي المالكي في كتابه المعونة) عن بعض الناس أنه قال: الأكل منها واجب، وهو قول شاذ بعيد. المنتقى(3/ 94).
وقال ابن الجلاب المالكي -رحمه الله-:
ويأكل المرء من أضحيته، ويُطعم منها، ولا بأس أن يُطعم منها غنيًّا أو فقيرًا، وحرًّا وعبدًا، نيئًا أو مطبوخًا، ويُكره أن يُطعم منها يهوديًّا أو نصرانيًّا، وليس لما يأكله، ولا لما يطعمه حد.
والاختيار: أن يأكل الأقل، ويقسم الأكثر، ولو قيل: يأكل الثلث، ويقسم الثلثين لكان حسنًا، والله أعلم. التفريع (1/ 307، 308).
وقال القاضي عبد الوهاب المالكي -رحمه الله-:
ويُستجب للرجل أنْ يأكل من لحم أضحيته؛ لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} الحج: 68 ، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «فكلوا وادخروا» وليس بواجب؛ خلافًا لقوم؛ اعتبارًا بسائر الذبائح. المعونة على مذهب عالم المدينة (ص: 667).
وقال العيني -رحمه الله-:
ثم الأكل من الأضحية مستحب عند أكثر العلماء، وعند الظاهرية واجب، وحكي ذلك عن أبي حفص الوكيل من أصحاب الشافعي. عمدة القاري (10/ 58).
وقال المازري -رحمه الله-:
جمهور الفقهاء على أنَّ الأكل من الأضحية غير واجب، وشذ بعضهم فأوجب الأكل منها؛ لظاهر هذه الأوامر، والجمهور لما كانت عندهم جاءت بعد الحظر حملت على الإباحة، كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} المائدة: 2، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} الجمعة: 10. المعلم (3/ 97).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
والذي ذهب إليه الشافعي: أنَّه يُستحب للمضحي أن يأكل من أضحيته، وذهب قوم: إلى أنَّ الأكل واجب؛ لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} الحج: 36، وهذا أمر، وهذا يرجع الكلام فيه إلى أن لفظ الأمر هل هو على الوجوب أم لا؟ وفي ذلك خلاف بين الأئمة مذكور في أصول الفقه، والكلام في الأكل في أمرين:
أحدهما: في الجائز.
والثاني: في المستحب.
أما الجواز: فله أن يأكل أكثرها، ويتصدق بجزء منها وإن قلَّ، قال ابن سريج (أبو العباس أحمد بن عمر بن سُريج الشافعي) وابن القاص (أبو العباس أحمد الطبري الشافعي): يجوز له أكل جميعها.
وأما المستحب: فقال في القديم: يأكل النصف، ويتصدق بالنصف، وقال في الجديد: يأكل الثلث، ويتصدق بالثلث، ويهدي الثلث.
وأما الادخار فإنه جائز، وهذا جميعه في الأضحية المسنونة، فأما إذا أوجب ضحية بنذر، فهل يجوز له الأكل منها؟ فيه وجهان. الشافي (3/ 568، 569).
وقال ابن حزم -رحمه الله-:
ويأكل مِن هدي التطوع إذا بلغ محلَّه، ولا بد، كما قُلنا، ولا يحل له أن يأكُل من شيء من الأهداء (جمع هدي) الواجبة إذا بلغت محلها، فإن أكل ضَمِنَ مثل ما أكل فقط، ولا يعطى في جزارة الهدي شيء منه أصلًا، ويتصدق بجلاله وجلوده، ولا بد.
أما التطوع فلقول الله تعالى: {وَالبُدْن جَعَلْنَاهَا لَكُم مِن شَعَائِرِ اللهِ لَكُم فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُروا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافّ فَإِذَا وَجَبَت جُنُوبُهَا فَكُلُوْا مِنْهَا وَأْطْعِمُوا القَانِعَ وَالمُعْترَ} الحج: 36، وأمر الله تعالى فرض. المحلى بالآثار (5/ 312).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
فيه: أن النهي عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث منسوخ بإباحة ذلك. الاستذكار (5/ 233).
وقال يحيى العمراني الشافعي -رحمه الله-:
أما القَدْر الذي يجوز له الأكل منها (الأضحية) ففيه وجهان:
أحدهما: قال أبو العباس ابن سريج وابن القاص: يجوز أنْ يأكل جميعها، واحتجَّا بقول الشافعي في القديم: فإنْ أكل الجميع لم يغرم.
ولأنها ذبيحة يجوز له أكل بعضها، فجاز له أكل جميعها، كذبيحة أهله، وعكسه الهدي في الإحرام.
والثاني: قال عامة أصحابنا: لا يجوز له أكل جميعها؛ لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} الحج: 28، فمنها دليلان:
أحدهما: قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} الحج: 28 و(مِن) للتبعيض.
والثاني: قوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا} الحج: 28، فأمر بالإطعام منها، والأمر يقتضي الوجوب.
ولأن القصد منها إيصال النفع إلى المساكين، وإنما يحصل ذلك لهم بإيصال شيء من اللحم إليهم، فأما بإراقة الدم فقط فلا يحصل فيه إلا تلويث المكان لا غير.
فعند أبوي العباس (ابن سُريج وابن القاص): القُرْبة تحصل بإراقة الدم لا غير. وعند سائر أصحابنا: لا تحصل القُرْبة إلا بإراقة الدم، وتفرقة شيء من اللحم. البيان (4/ 456).
وقال المظهري -رحمه الله-:
اعلم أن الهدي والأضحية إن كانت واجبة لا يجوز لصاحبها أن يأكل منها شيئًا ألبتة، وإن كان تطوعًا بعد ثلاثة أيام، وجاز لهم أن يأكلوا في ثلاثة أيام، ثم رخصّ لهم -عليه السلام- أن يأكلوا من التطوع متى شاءوا، في ثلاثة أيام وبعدها، والواجب عليهم أن يطعموا الفقراء من لحمها أول شيء، والمستحب أن يطعموهم الثلث والنصف. المفاتيح (3/ 320).
قوله: «وتَزَوَّدُوا»
قال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
اتخذوا مِن ضحاياكم زادًا لكم في الحَضر والسَّفر.فتح المنعم(8/٩٣)
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
وهذا الأمرُ مخالفٌ لخبر مسلم: عن علي أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهانا أنْ نأكُل من لحومِ نسكنا بعد ثلاثٍ، وأجاب الجمهور: بأن هذا ناسخ لخبر مُسلم فيجوزُ الأكلُ منها مطلقًا إذا كانت مستحبةً.منحة الباري(4/١٩٢).
وقال الكماخي -رحمه الله-:
«وادَّخروا» أي: هيِّئُوا لحوم الضحايا ذخيرةً للأيام والأشهر. المهيأ (3/ 188).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وادخروا» فإنه لم يبق تحريم ولا كراهة. التنوير (8/ 245).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«وادَّخِروا» ما شئتم منها، أي: اتخذوها قُنية لحوائجكم المستقبلة، فلا منافاة بين الأكل والادخار والتزود. الكوكب الوهاج (20/ 442).
وقال ابن الجلاب المالكي -رحمه الله-:
ولا بأس بادخار لحوم الضحايا ما شاء الإنسان، وما بدا له. التفريع (1/ 307 ، 308).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «وادَّخروا» لا خلاف بين العلماء اليوم أنه على الإباحة أيضًا، منسوخ الحكم الأول من النهي عن الادخار بعد ثلاث. إكمال المعلم (6/ 427).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «وأْتَجِرُوا» أصله ايتجروا على وزن افتعلوا، يريد الصدقة التي يبتغي أجرها وثوابها، ثم قيل: اتَّجروا كما قيل: اتخذت الشيء، وأصله ايتخذته، وهو من الأخذ، كهو من الأجر، وليس من باب التجارة؛ لأن البيع في الضحايا فاسد، إنما تؤكل، ويُتصدق منها. معالم السنن (2/ 232).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
هكذا في حديث نُبَيْشة الخير، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فكلوا وادَّخِروا وأْتَجِرُوا» ومعناه: اتخذوا الأجر فيما تتصدقون به منها. التمهيد (2/ 580).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«وأْتَجِرُوا» أمرٌ من الأجر، أي: اطلبوا به الأجر والثواب، ولو كان من التجارة لكان بتشديد التاء. الكاشف عن حقائق السنن (6/ 2008).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «وأْتَجِرُوا» من الأجر، أي: اقبلوا الأجر، وأَصِيْبُوه، واطلبوه، لا من التجارة، وإلا لكان مشددًا، ولا يصح التجارة في الضحايا. لمعات التنقيح (5/ 394).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: هذا الحديث):
1. منها: بيان الإذن في أكل لحم الأضحية، والادخار بعد ثلاث.
2. ومنها: استحباب الادّخار من لحوم الأضاحيّ.
3. ومنها: جواز الادّخار للقوت خلافًا لمن كرهه...
4. ومنها: ما قال ابن العربيّ: فيه ردّ على المعتزلة الذين يرون أنّ النَّسْخَ لا يكون إلا بالأخفّ للأثقل، وقد كان أكلها مباحًا، ثم حُرّم، ثم أُبيح، وأيّ هذين أخفّ أو أثقل فقد نُسخ أحدهما بالآخَر، وتعقّبه وليّ الدين (العراقي) فقال: تحريمها بعد الإباحة ليس نسخًا؛ لأنه رفع للبراءة الأصليّة، ورفع البراءة الأصليّة ليس بنسخ، على ما تقرّر في الأصول، وإن صحّ ما قاله، فقد وقع النسخ هنا مرّتين؛ وذلك في مواضع محصورة. البحر المحيط الثجاج (33/ 449-450).