ما غِرْتُ على نساءِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، إلا على خديجةَ، وإنَّي لم أُدْرِكْهَا، قالت: وكانَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-إذا ذبحَ الشاةَ، فيقولُ: «أَرْسِلُوا بها إلى أصدقاءِ خديجةَ»، قالت: فأغضبتُهُ يومًا، فقلتُ: خديجةَ؟! فقالَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّي قد رُزِقتُ حُبَّهَا».
رواه مسلم برقم: (2435) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«غِرْتُ»:
بكسر الغين المعجمة، مِن غَارَ يَغَارُ، نحو خاف يخاف، مِن الغَيْرَةِ، والغَيْرَةُ: الحَمِيَّة والأَنَفَةُ، يقال: رجل غَيُورٌ، وامرأة غَيُورٌ، بلا هاء؛ لأن (فعول) يشترك فيه الذكر والأنثى. مرقاة المفاتيح. للقاري (9/ 3990)، والكاشف عن حقائق السنن. للطيبي (12/ 3921).
قال ابن حجر -رحمه الله-:
الغَيْرَةُ في اللغة: تَغَيُّرٌ يحصل من الحَمِيَّةِ والأَنَفَة، وأصلها في الزوجين والأَهْلِيْنَ. فتح الباري (2/ 530).
شرح الحديث
قولها: «ما غِرتُ على نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا على خديجة»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«ما غِرتُ على امرأة ما غِرْتُ على خديجة؛ لِمَا كنت أسمعه يذكرها» أي: يمدحها ويثني عليها، ويذكر فضائلها؛ وذلك لفرط محبته إياها، ولِمَا اتصل له من الخير بسببها، وفي بيتها، ومَن أَحَبَّ شيئًا أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ. المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/ 317).
قولها: «وإني لم أدركها»:
قال العيني -رحمه الله-:
والمعنى: ما رأيتها عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا أدركتها عنده، ورؤيتها إياها كانت ممكنة، وكذلك إدراكها إياها؛ لأنها كانت عند موت خديجة بنت ست سنين، ولكن نفيها الرؤية والإدراك بالقيد المذكور. عمدة القاري (16/ 280).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
«وَإِنِّي لَمْ أُدْرِكْهَا» ورؤية عائشة لخديجة كانت ممكنة، وأما إدراكها لها فلا نزاع فيه؛ لأنه كان لها عند موتها ست سنين، كأنها أرادت بنفي الرؤية والإدراك النفي بقيد اجتماعهما عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، أي: لم أرها وأنا عنده، ولا أدركتها كذلك، وقد وقع في بعض طرقه عند أبي عوانة: «ولقد هَلَكَتْ قبل أن يَتَزَوَّجني». فتح الباري (7/ 137).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«وإني لم أدركها» أي: لم أدرك حياتها زوجةً مشاركةً لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أي: وإن أدْرَكْتُها ووَعَيْتُها زوجةً له قبل أن يتزوجني. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (9/ 372).
قولها: «وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا ذبح الشاة، فيقول: أَرْسِلُوا بها إلى أصدقاء خديجة»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وقولها: «فَيَقُولُ» وفي نسخة: «يقول» بحذف الفاء، وقوله: «أَرْسِلُوا بِهَا» أي: بتلك الشاة، والظاهر أنه -صلى الله عليه وسلم- يُهديها بأكملها، لا يترك شيئًا في بيته، وَيحْتمل: أن تكون الباء بمعنى (من) كما في قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} الإنسان: 6، ويؤيّد هذا الاحتمال: رواية البخاريّ بلفظ: «فيُهْدِي منها ما يَسَعَهُنّ» والله تعالى أعلم. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (39/ 39).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«كان إذا ذبح الشاة» للجنس، قال: «أَرْسِلُوهَا» أَرْسِلُوا بعضها؛ بقرينة المقام، «إلى أصدقاء خديجة»؛ بِرًّا بها بعد وفاتها -رحمها الله-.
وفيه: حُسن العهد، وحفظ الوداد، بحفظ محبي من مات. التنوير شرح الجامع الصغير (8/ 394).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«كَانَ إِذا ذبح الشَّاة يَقُول: أرْسلُوا بهَا» يعني ببعضها «إِلَى أصدقاء خَدِيجَة» زَوجته الدارجة قبله؛ صلَةً منه لها، وحفظًا لعهدها، وتصدُّقًا عَنْهَا. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 249).
قوله: «قالت: فأغضبته يومًا، فقلت: خديجة! فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إني قد رُزِقتُ حبَّها»:
قال ابن الأثير -رحمه الله-:
وفي رواية أخرى: ... قالت: «فأغْضَبْتُه يومًا، فقلت: خديجة عجوز! فقال: إني رُزِقْتُ حُبَّها». جامع الأصول (9/ 122).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وقولها: «فَقُلْتُ: خَدِيجَةَ؟!» بالنصب بفعل مقدَّر، أي: أَتَذْكُرُ خديجة؟!...
وقوله: «إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا» ببناء الفعل للمفعول. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (39/ 39-40).
وقال محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«إني قد رُزِقتُ حبَّها» والجملة عِلَّة لمحذوف تقديره: وإنما أَكْثَرْتُ من ذِكْرها لأني قد أُعطيتُ حبَّها، وطُبِعْتُ عليها؛ لأنها وَاسَتْنِي في مالها ونفسها وأولادها. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (23/ 535).
وقال النووي -رحمه الله-:
«رُزِقْتُ حُبَّها» فيه إشارة إلى أن حبَّها فضيلة حَصَلَتْ. شرح النووي على مسلم (15/ 201).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
وقال: «إني رُزِقْتُ حُبَّها» رواه مسلم، فتأمَّل قوله: «رُزِقْتُ» ولم يقل: أُحِبُّها! نَجِدُ فيه ما فيه من غاية التعظيم ونهاية التفخيم. شرح الزرقاني على المواهب اللدنية (4/ 370).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قال الطبري وغيره: الغَيْرة من النساء مسموح لهن فيها، وغير مُنْكَرٍ من أخلاقهن، ولا مُعَاقَبٌ عليها؛ لما جُبِلْنَ عليه من ذلك، وأنهن لا يملكن أنفسهن عندها؛ ولهذا لم يَزْجُر النبي -عليه الصلاة والسلام- عائشة ولا ردَّ عليها، وقد روي عن النبي -عليه الصلاة والسلام-: «أنَّ الغَيْرَاء لا تدري أعْلَى الوادي مِن أسفَلِه»، وعَذَرَها لِمَا عَلِمَ مِن فِطْرَتها على ذلك، وشدةِ غَيْرَتِهَا. إكمال المعلم (7/ 443).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وكونه -صلى الله عليه وسلم- يُهدي لخلائل خديجة: دليل على كرم خُلُقه، وحُسْن عَهْدِهِ؛ ولذلك كان يرتاح لهَالَةَ بنت خويلد إذا رآها، وينهض إكرامًا لها، وسرورًا بها. المفهم (6/ 317).
وقال النووي-رحمه الله-:
وفي هذا كله: دليل لِحُسْنِ العهد، وحِفْظِ الوُدِّ، ورعاية حُرْمَة الصاحب والعشير في حياته ووفاته، وإكرام أهل ذلك الصاحب. شرح النووي على مسلم (15/ 202).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
فيه: ثبوت الغَيْرَة وأنها غير مُسْتَنْكَر وقوعُها من فاضلات النساء فضلًا عمن دونهن، وأن عائشة كانت تغار من نساء النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكن كانت تغار من خديجة أكثر، وقد بيَّنتْ سبب ذلك وأنه: لكثرة ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم-إياها، ووقع في الرواية التي تلي هذه بِأَبْيَنَ من هذا، حيث قال فيها: «مِن كثرة ذِكْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها».
وأصل غَيْرَةِ المرأة: مِن تَخَيُّلِ محبة غيرها أكثر منها، وكثرة الذِّكْر تدل على كثرة المحبة. فتح الباري (7/ 136)
وقال الشيخ عبد العزيز الراجحي -حفظه الله-:
في هذا الحديث: شيء من مناقب خديجة -رضي الله عنها-، وأن لها من الفضل والسَّبق بالإيمان، والعناية بالنبي -صلى الله عليه وسلم-الشيء الكثير.
وفيه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال عن خديجة -رضي الله عنها-: «إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا»، فسمَّى حُبَّها رزقًا؛ فكونك تُرزَقُ حُبَّ المؤمنين وحُبَّ الصالحين، وحُبَّ الأخيار والأتقياء؛ فهذا دِين، وهذا فضل عظيم، وهذا من عملك الصالح الذي يوفقك الله إليه، فقد رُزق النبي -صلى الله عليه وسلم- حب هذه المؤمنة الصدّيقة التقية التي سبقت للإسلام والإيمان غيرَها، والتي قدَّمت نفسها ومالها للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ونصرة لدِيْنِه. توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (7/ 86).