«يَودُّ أهلُ العافِيةِ يومَ القيامةِ حينَ يُعطى أهلُ البلاءِ الثَّوابَ، لو أنَّ جلودَهم كانت قُرِضَت في الدُّنيا بالمَقاريضِ».
رواه الترمذي برقم: (2402) واللفظ له، والطبراني في الصغير برقم: (241)، والبيهقي في الكبرى برقم: (6553)، من حديث جابر -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (8177)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (3404).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«يَوَدُّ»:
«يَودُّ» الود: يجيءُ بمعنى المحبّة والتَّمني، وهما مُتلازمان. لمعات التنقيح، للدهلوي(4/ 50).
وقال الراغب -رحمه الله-:
الوَدُّ: محبَّةُ الشيءِ، وتمنِّي كونَه، ويُستعمَل في كل واحدٍ من المَعنَيينِ على أن التَّمنِّي يتضمَّنُ معنى الودّ؛ لأن التَّمني هو: تَشَهِّي حُصُول ما تَودُّه. المفردات (ص: 860).
«قُرِّضَتْ»:
بالتخفيف، ويحتمل التَّشديد للمبالغة والتأكيد، أي: قُطِّعَت. مرقاة المفاتيح، للقاري (3/ 1144).
«بالمَقاريض»:
جمعُ المِقراضِ، وهو آلةُ القَطْع. مرقاة المفاتيح، للقاري(1/ 393).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
يقرضه بِالْمَقَارِيضِ، أَي: يقطعهُ بهَا، والمقراض: المقص. مشارق الأنوار على صحاح الآثار(2/ 180).
شرح الحديث
قوله: «يَودُّ أهلُ العافيةِ»:
قال الأردبيلي -رحمه الله-:
«يُوَدُّ» أي: يحب حبًّا شديدًا. الأزهار، مخطوط لوح (193).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«يَودُّ» أي: يتمنَّى «أهل العافية» أي: في الدنيا. مرقاة المفاتيح (3/ 1144).
وقال الفتني -رحمه الله-:
«يَودُّ أهلُ العافيةِ» المودّة: محبة الشيء وتمنِّي كونه له، والأخير هو المراد هنا، أي: يَتمنُّون: ليت جلودنا قُطعَتْ. مجمع بحار الأنوار (5/ 29).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
«يَودُّ» أي: كونهم مُبتلين في الدنيا أشدّ البلاءِ بقرينة، قوله: «لو أن جلودهم...» أي: قائلين أو مُتمنِّينَ. لمعات التنقيح (4/ 50).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
ولا بد لقوله: «يَودُّ» من مفعول، «ولو» أيضًا للتمني، فلا يصلُح أن تكون مفعولًا إلا على التأويل، فنزِّل مع ما بعده منزلتَه، كأنه قيل: يَودُّ أهل العافية ما يُلازمُ لو أن جلودهم كانت مُقرّضةً في الدنيا، وهو الثَّواب المُعطى على الابتلاء، ولو قيل: لو أن جلودنا، لكان التقدير: يَودُّ أهلُ العافية الابتلاءَ في الدُّنيا قائلين: ليت جلودَنا كانت قُرِضت بالمَقاريض فنِلنا الثَّوابَ الْمُعطى على الابتلاء، فاختير في الحديث (الغَيبة) على التَّكلم؛ لأنَّه أقلُّ إحواجًا إلى التقدير، فعلى هذا: مفعول «يَودُّ» محذوف، و«لو» مع ما بعده مقولٌ للقول، وهو حال من فاعل «يَودُّ». الكاشف عن حقائق السنن (4/ 1352).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
قوله: «أهل البلاء» هم الذين كانوا أسوياء في الدنيا، ولم يصبهم البلاء. الأزهار، مخطوط لوح (193).
قوله: «يوم القيامة».
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«يوم القيامة» ظرف «يَودُّ». مرقاة المفاتيح(3/ 1144).
وقال الطبري -رحمه الله-:
«يوم القيامة» يوم قيام الخلائق من قُبورهم لمحشرهم. جامع البيان (2/ 518).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«يوم القيامة»: هو اليوم الذي يُبعث فيه الناس، وسُمِّي يومَ القيامةِ لأمور ثلاثة:
أولًا: لأن الناس يقومون فيه لرب العالمين، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} المطففين: 6.
والثاني: أنه يُقام فيه العدلُ، كما قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} الأنبياء: 47.
والثالث: لأنه يقوم فيه الأشهاد، كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} غافر: 51. تفسير الزمر (ص:342).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
«يوم القيامة» يعني: يوم الجزاء والحِساب، وهذا اليوم له أسماءٌ كثيرةُ: اليومُ الآخرِ، ويوم الحساب، ويوم الحَشْر، ويوم المَعَاد، وأسماءٌ كثيرة؛ وذلك لأنه يتضمَّن هذه الأوصاف التي سُمِّي بها. فتح ذي الجلال والإكرام (4/ 204).
قوله: «حين يُعطى أهلُ البلاءِ الثَّوابَ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«حين يُعطى» على البناء للمفعول، «أهل البلاء الثَّواب» مفعولٌ ثانٍ، أي: كثيرًا، أو بلا حساب؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} الزمر: 10. مرقاة المفاتيح (3/ 1144).
وقال المظهري -رحمه الله-:
يعني: إذا رأى الذين لم يكن لهم في الدنيا بلاءٌ أن الذين كان البلاءُ عليهم كثيرًا، يُعطون ثوابًا كثيرًا. المفاتيح (2/ 410).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
المراد بأهل البلاء هنا: الصابرون؛ لأن الجازع محرومٌ غير مُثَاب. الأزهار، مخطوط لوح (193).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
البلاء خيرٌ محضٌ للعبد، أما في الدنيا فلأنها تنكسر شَرِّيَّتُه النفسانية، وتخلع عنه ثوب الكبرياء، ويلتذُّ بمقدار النعمة التي يعقب البلاء، فلولا المرضُ ما عرفَ مِقدار العافيةِ، ولولا الفقرُ ما عرف مقدار الغِنى، ولولا الخوف ما عرف مقدار الأمن، وكلُّ نعيم في الكون ما عرفت نعمتهُ إلا بضدِّه، كما قيل: وبضدها تتبيَّن الأشياء، وأما في الآخرة فلِما أعد الله لأهل البلاء من المثوبة التي يتمنّى معها أهل العافية لو قرضوا بالْمَقاريض في الدنيا. التنوير (3/ 340-341).
قوله: «لو أنَّ جلودهم كانت قُرِضَتْ في الدُّنيا بالمَقاريض»:
قال الدهلوي -رحمه الله-:
«لو» للتَّمني، ويجوز أن تكون للشَّرطِ، والجزاءُ محذوفٌ، ويُفهم منه أيضًا معنى التَّمني، فافهم. لمعات التنقيح (4/ 50).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«لو أن جلودهم كانت قُرِضت» أي: قُطِّعت «في الدنيا بالمَقاريض» قِطعةً قِطعةً؛ ليجدوا ثوابًا كما وجد أهل البلاء. شرح المصابيح (2/ 326).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«لو أن جلودهم كانت قُرِضت» بالتّخفيف، ويحتمل التّشديد للمبالغة والتأكيد، أي: قُطعَت «في الدنيا» قطعةً قطعةَ «بالمَقاريض» جمع: المقراض؛ ليجدوا ثوابًا كما وجد أهل البلاء. مرقاة المفاتيح (3/ 1144).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«جلودهم قُرِضت بالمَقاريض» أي: يتمنى أهل العافية في الدنيا «يوم القيامة» قائلين: ليت جلودنا كانت قُرِضت بالمَقاريض، فنِلْنَا الثَّوابَ المُعطى على البلاء، فاختير في الحديث الغَيبة على التَّكلم؛ لأنه أقل إحواجًا إلى التّقدير؛ فعلى هذا: مفعول «يَودُّ» محذوف. فيض القدير (5/ 399).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
فمن ابتلي بذهاب بصره أو بفقد جارحةٍ من جوارحه، فليتلقَّ ذلك بالصبر والشكر والاحتساب؛ وليرض باختبار الله له ذلك؛ ليحصل على أفضل العِوَضين، وأعظم النعمتين، وهي الجنة التي من صار إليها فقد ربحت تجارتُه، وكرُمت صفقتُه، ولم يضرّه ما لقي من شدة البلاء فيما قاده إليها. شرح صحيح البخاري (9/ 377-378).
وقال الغزالي -رحمه الله-:
لعلك تقول: هذه الأخبار تدلُّ على أنَّ البلاء خير في الدنيا من النعيم، فهل لنا أنْ نسأل الله البلاء؟
فأقول: لا، وجه ذلك: لِما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنَّه كان يستعيذ في دعائه من بلاء الدنيا وبلاء الآخرة، وكان يقول هو والأنبياء -عليهم السلام-: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} البقرة: 201، وكانوا يستعيذون من شماتة الأعداء وغيرها...، وروى الصديق -رضي الله تعالى عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: «سلوا الله العافية، فما أُعطي أحدٌ أفضل من العافية إلا اليقين»، وأشار باليقين إلى عافية القلب عن مرض الجهل والشك، فعافية القلب أعلى من عافية البدن، وقال الحسن -رحمه الله-: الخير الذي لا شر فيه العافية مع الشكر، فكم من منعم عليه غير شاكر، وقال مطرف بن عبد الله: «لَأَنْ أُعَافى فأشكر، أحب إليَّ من أن أُبتلى فأصبر»، وقال -صلى الله عليه وسلم- في دعائه: «وعافيتك أحب إليَّ»، وهذا أظهر من أنْ يُحْتاج فيه إلى دليل واستشهاد؛ وهذا لأن البلاء صار نعمة باعتبارين:
أحدهما: بالإضافة إلى ما هو أكثر منه، إما في الدنيا، أو في الدين.
والآخر: بالإضافة إلى ما يُرجى من الثواب، فينبغي أنْ نسأل الله تمام النعمة في الدنيا، ودفع ما فوقه من البلاء، ونسأله الثواب في الآخرة على الشكر على نعمته، فإنَّه قادر على أنْ يُعطي على الشكر ما لا يعطيه على الصبر. إحياء علوم الدين (4/ 134).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
فهذا (أي: الحديث) فيه تمني البلاءِ يوم القيامة (يعني: لا في الدنيا) لأجل مزيد ثواب أهله. طريق الهجرتين (ص: 248).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
إنّ الله عنده مِن المنازل العالية في دار كرامتهِ ما لا ينالها إلا أَهل البلاء.
حقوق آل البيت(ص: ٤٥).