الأحد 21 شوّال 1446 هـ | 20-04-2025 م

A a

«حَمَلْتُ على فرسٍ في سبيلِ اللَّه، فأضاعهُ الذي كان عندهُ، فأَرَدْتُ أنْ أَشْتَرِيَهُ وظَنَنْتُ أنَّه يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ، فسألت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «لا تَشْتَرِي، ولا تَعُدْ في صدقتك، وإنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ، فإنَّ العائدَ في صدقَتهِ كالعائدِ في قَيْئِهِ».


رواه البخاري برقم: (1490) واللفظ له، ومسلم برقم: (1620)، من حديث عمر -رضي الله عنه-.
وفي لفظ للبخاري برقم: (2623)، ومسلم برقم: (1620): «كالكلبِ يَعُودُ في قَيْئِهِ»


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«حَمَلْتُ»:
حَمل يحملُ حُمْلاناً ... شيئًا يركبون عليه. لسان العرب، لابن منظور(11/ 181).

«فأَضاعهُ»:
ضاعَ الشيء يضيع ضِيَاعاً، وضَيَاعًا: بكسرِ الضَّاد، وفتحها أي: هلك ... والإِضاعةُ والتَّضْييعُ بمعنى. مختار الصحاح، للرازي(ص: 403)

«‌قَيْئِه»:
قاء الرَّجل ما أَكله قيئًا: من باب باع، ثم أُطلق المصدر على الطعام المقذوف. المصباح المنير، للفيومي(2/ 522).


شرح الحديث


قوله: «حملتُ على فرسٍ في سبيل الله»:
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«حملتُ» لها مفعول محذوف، تقديره: حملتُ رجلًا على فرس. فتح ذي الجلال والإكرام (4/ 316).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«على فرس في سبيل الله» أي: جعلته حمولة من لم تكن له حمولة من المجاهدين؛ ملَّكه إياه. إرشاد الساري (3/ 74).
وقال النووي -رحمه الله-:
«حملتُ على فرس» معناه: تصدقتُ به، ووهبته لمن يقاتل عليه في سبيل الله. شرح صحيح مسلم (11/ 62).
وقال الباجي -رحمه الله-:
والحمل عليها في سبيل الله على وجهين:
أحدهما: أن يعلم من فيه النجدة والفروسية فيهبه له ويملكه إياه؛ لما يعلم من نجدته ونكايته للعدو، فهذا يملكه الموهوب له ويتصرف فيه بما شاء من بيع وغيره.
والوجه الثاني -وهو الأظهر: أن يكون دفعه إلى من يعلم من حاله مواظبة الجهاد في سبيل الله على سبيل التحبيس له في هذا الوجه، فهذا ليس للموهوب له أن يبيعه؛ لأنه موقوف في هذا الوجه، فليس له إزالته عنه مع السلامة (وهذا الوجه الثاني ليس هو المراد في هذا الحديث إلا على وجهٍ ضعيف). المنتقى شرح الموطأ (2/ 179).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
فأما إن حمله عليه على أنه حبس لا يُبَاْعُ ولا يُوْهَبُ، فذلك لا يُشترى أبدًا، وإن كان صدقة، ففي كتاب ابن عبد الحكيم: لا يُشترى أبدًا، وقال بعده: تركه أفضل، وهو صريح، فذهب مالك والشافعي والليث -رحمهم الله-، وكذلك لم يفسخوا البيع.
وقال في كتاب محمد (محمد بن إبراهيم بن المواز وكتابه الموَّازية): وإذا حمل على الفرس لا للسبيل ولا للمسكنة فلا بأس أن يشتريه.
الثانية: إذا ثبت هذا التقسيم، فقوله: «حمل على فرس» لا يدري أيها هو من هذه الوجوه، ويختلف الحكم باختلاف الوجوه، فأما إذا قال: هو حبس فلا سبيل إليه لأحد، وأما إذا قال: هو لك في سبيل الله، فقال مالك -رحمه الله-: له بيعه، ولو أسقط كلمة (لك) لركبه ورده (يعني: يكون موقوفًا عنده لحمل الغزاة عليه).
وقال الشافعي وأبو حنيفة: هو ملك له، وإذا قال: إذا بلغت به رأس مغزاك فهو لك، فاتفقوا على أنه لا يجوز؛ إلا الليث؛ لأنه وإن كان مخاطرة، فليس في بيع.
وكان ابن عمر يقول: إذا بلغتَ وادي القرى فشأنك به، وفي ذلك كله خلاف، ولم يُعلَم كيفية فعل عمر، فلا يُعلم على أي شيء يرجع جوابه، فمن الناس من قال: إذا حمله عليه في سبيل الله فلا يباع أبدًا، وهذا خطأ، مخالف للحديث، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- منع منه عمر خاصة، ولعله بعلة تختص به دون سائر الناس، وهو أنَّه عود في الصدقة، ومنهم من قال: إنْ كان الحمل صدقة لم يجز؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تشتره، فإن العائد في صدقته، كالكلب يعود في قيئه»، وإن كانت هبة جاز، كما في كتاب محمد، وأما رواية من رأى على الكراهية، فهو تعليل، النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «كالكلب يعود في قيئه»؛ فبين أنه قبيح يُنَزَّهُ عنه مثله، لا أنه حرام...، فلو كان حبسًا لجاز بيعه إذا ضاع، بحيث لا يصلح لسبيل الله، كما قال عبد الملك، وقال ابن القاسم: لا يباع، وقوله صحيح؛ لأنه إذا لم يصلح للكَرِّ والفَرِّ، صلح للحمل، وكلٌّ في سبيل الله. عارضة الأحوذي (3/ 175).
وقال العراقي -رحمه الله- متعقبًا ابن العربي:
أشار بما نقله عن كتاب محمد (محمد بن إبراهيم بن المواز وكتابه الموَّازية) إلى الهبة التي ليست صدقة، وحاصل كلامه الجزم بمنع البيع بتقدير الوقف، وبجوازه بتقدير الهبة، والخلاف بتقدير الصدقة...، وفي هذا الإطلاق الذي حكاه عن بعض الناس منع البيع، ولو كان هبة لكنه خطأه كما عرفت، ثم أنَّه صرح في الحديث بأنه صدقة، فانتفى احتمال الهبة الخالية عن الصدقة.
والراجح من هذه الاحتمالات في هذه الواقعة: أنه تمليك بقصد ثواب الآخرة، فهو هبة، وهو صدقة، وبذلك جزم النووي في شرح مسلم...، وقال والدي -رحمه الله- في شرح الترمذي: الظاهر أن عمر لم يجعله حبسًا مطلقًا، أي: على جميع الغزاة من غير تعيين واحد، ولا حبسه على من حمله عليه؛ لأنه لو وقع ذلك لامتنع بيعه، وإنما منعه من شرائه فقط، ولم يمنعه من بيعه لغيره، فدل على أنه كان ملكًا لمن حمله عليه، انتهى. طرح التثريب (4/ 87).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
أفاد ابن سعد في الطبقات: أنَّ اسم هذا الفرس: الورد، وأنه كان لتميم الداري، فأهداه للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فأعطاه لعمر، ولم أقف على اسم الرجل الذي حمله عليه. فتح الباري (3/ 353).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «في سبيل الله» ظاهره: أنه حمله عليه حمل تمليك ليجاهد به؛ إذ لو كان حمل تحبيس لم يجز بيعه، وقيل: بلغ إلى حالة لا يمكن الانتفاع به فيما حبس فيه، وهو مفتقر إلى ثبوت ذلك، ويدل على أنه تمليك قوله: «العائد في هبته»، ولو كان حبسًا لقال: في حبسه أو وقفه، وعلى هذا: فالمراد بسبيل الله: الجهاد لا الوقف، فلا حجة فيه لمن أجاز بيع الموقوف إذا بلغ غاية لا يتصور الانتفاع به فيما وقف له. فتح الباري (5/ 236).
وقال الفاكهاني -رحمه الله-:
الأظهرُ من الحديث: أنَّ هذا الحملَ هبة وتمليك له؛ ليجاهد عليه، لا يحبسه عليه، وإن كان محتملًا كما قيل، لكنه احتمالٌ مرجوح، والذي يدلُّ على الأول: أن الذي أُعطيهُ أرادَ بيعَه، فلم يُنكر عليه ذلك، ولو كان حبسًا، لم يبع إلا أن يُحمل على أنه انتهى إلى حالة عدمِ الانتفاعِ به فيما حُبس عليه، لكن ليسَ في اللفظ ما يُشعر به. رياض الأفهام (4/ 452).

قوله: «فأضاعه الذي كان عنده»:
قال الباجي -رحمه الله-:
«أضاعه» يحتمل أمرين:
أحدهما: أنه أضاعه من الإضاعة بأن لم يحسن القيام عليه، ويبعد مثل هذا في أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أن يوجب هذا عذر.
ويحتمل: أن يريد به صيَّره ضائعًا من الهُزال؛ لفرط مباشرة الجهاد به، ولإتعابه له في سبيل الله تعالى. المنتقى شرح الموطأ (2/ 179).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فأضاعه» أي: لم يحسن القيام عليه، وقصر في مؤونته وخدمته، وقيل: أي: لم يعرف مقداره، فأراد بيعه بدون قيمته، وقيل: معناه: استعمله في غير ما جعل له، والأول أظهر، ويؤيده رواية مسلم من طريق روح بن القاسم عن زيد بن أسلم: «فوجده قد أضاعه، وكان قليل المال»؛ فأشار إلى علة ذلك، وإلى العذر المذكور في إرادة بيعه. فتح الباري (5/ 236).
وقال الباجي -رحمه الله-:
وضياع الخيل الموقفة على وجهين:
أحدهما: أنْ يُرجى صلاحه والانتفاع به في الجهاد، كالضعف والمرض المرجو برؤه، فهذا لا خلاف أن يستباح له بيعه.
الثاني: الكَلَب والهرم والمرض الذي لا ترجى إفاقته، فهذا اختلف أصحابنا (يعني: المالكية) فيه، فقال ابن القاسم: إذا عدم الانتفاع به في الوجه الذي وقف له، ولم يرج برؤه، جاز بيعه، ووضع ثمنه في ذلك الوجه.
وقال ابن الماجشون: لا يجوز بيعه...وجه قول مالك: أنه لما عدم الانتفاع بعينه، وأمكن الانتفاع بثمنه نقل إليه؛ لأنه لا بدل منه.
ووجه قول ابن الماجشون: أنه مخرج على سبيل الحبس، فلم يجز بيعه، كالأصول الثابتة. المنتقى شرح الموطأ (2/ 179).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
إنما سَاغ للرجل بيعه؛ لأنه حصل فيه هزالٌ عجز لأجله عن اللحاق بالخيل، وضعف عن ذلك، وانتهى إلى حالة عدم الانتفاع به. وأجاز ذلك ابن القاسم، ويدل على أنه حمل تمليك قوله: «ولا تعد في صدقتك»، ولو كان حبسًا لَعلَّله به دون الهبة ونحوها. فتح الباري (3/353).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «فأضاعه صاحبه» أي: فرَّط فيه، ولم يُحسن القيام عليه، وهذا الذي قُلناه أولى من قول من قال: إنه حبس في سبيل الله، وبيعه إنما كان لما أضاعه صاحبه صار بحيث لا يصلح للجهاد، وهذا هو الذي صار إليه مالك تفريعًا على القول بجواز تحبيس الحيوان أنه يُباع إذا هَرم، ويستبدل بثمنه في ذلك الوجه الْمُحَبَّس فيه، أو يعين بثمنه فيه.
والقول الأول أظهر؛ لما ذكرناه، ولأنه لو كان ذلك لسأل عن هذا الفرس هل تغير عن حاله أم لا؟ ولنظر في أمره. المفهم (4/ 578-579).

قوله: «فأردتُ أن أشتريه، وظننتُ أنه يبيعه برخص»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«فأردتُ أن أشتريه» وظن أن استعادته بالشراء لا يكون رجوعًا في الهبة، فلا يتناول ما ورد فيه. دليل الفالحين (8/ 450).
وقال الباجي -رحمه الله-:
قوله: «فأردتُ أن أشتريه منه، وظننتُ أنه بائعه برخص» يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أنه كان وهبه إياه، فأراد أن يشتريه منه، وأن يسترخصه لضياعه.
ويحتمل أيضًا: أن يكون حبسًا، فظن أن شراءه جائز، وبيع الذي كان في يده له مباح حتى منعه من ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ويحتمل: أنه بلغ من الضياع مبلغًا يعدم الانتفاع به في الوجه الذي حبسه فيه، فرأى أن ذلك يبيح له شراءه. المنتقى شرح الموطأ (2/ 179).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
إنما ظن ذلك؛ لأنه هو الذي كان أعطاه إياه، فتعلَّق خاطره بأنه يسامحه في ترك جزء من الثمن، وحينئذٍ يكون ذلك رجوعًا في عين ما تصدق به في سبيل الله؛ ولما فهم النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا نهاه عن ابتياعه، وسمى ذلك عَوْدًا، فقال: لا تبتعه، ولا تعد في صدقتك. المفهم (4/ 579).

قوله: «فسألتُ النبي -صلى الله عليه وسلم-»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فسألتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك» أي: عن حكم شرائه. البحر المحيط الثجاج (28/ 256).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
كأنه -رضي الله عنه- تردَّدَ في جواز شرائه بعد أن أخرجه في سبيل الله. فتح ذي الجلال والإكرام (4/ 316).

قوله: «فقال: لا تشتره، ولا تَعُد في صدقتك، وإن أعطاكَهُ بدرهم»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«لا تشتره» بهاء الضمير، أو السكت. مرقاة المفاتيح (4/ 1359).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
سَمَّى الشراء عودًا في الصدقة؛ لأن العادة جرت بالمسامحة من البائع في مثل ذلك للمشتري، فأطلق على القَدْر الذي يُسامح به رجوعًا، وأشار إلى الرُّخص بقوله: «وإن أَعْطَاكَهُ بدرهم». فتح الباري (5/ 236).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«ولا» ناهية أيضًا «تعد» بضم العين: مضارع عاد إلى الشيء: إذا رجع إليه. البحر المحيط الثجاج (28/ 256).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«ولا تَعُدْ في صدقتك» أي: لا تَعُد في صدقتك بطريق الابتياع، ولا غيره، فهو من عطف العام على الخاص. إرشاد الساري (3/ 75).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
«ولا تَعُد» من العود، أي: إذا تصدقتَ بشيء فاقطع طعمك منه، ولا ترغب فيه؛ ولهذا كان ابن عمر إذا اشترى شيئًا كان تصدق به، اشتراه ليتصدق به ثانيًا لا لينتفع به. الكواكب الدراري (8/ 35).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
«وإن أَعطاكَه بدرهم» أورد ابن المنير عليه سؤالًا: وهو أنَّ الإغياء في النهي عادته أن يكون بالأخف أو الأدنى، كقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} الإسراء: 23، ولا خفاء بأن إعطاءه إياه بدرهم أقرب إلى الرجوع في الصدقة مما إذا باعه بقيمته، وكلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الحجة في الفصاحة.
وأجاب: بأن المراد: لا تغلب الدنيا على الآخرة، وإن وفرها معطيها، فإذا زهده فيها وهي موفورة، فلأن يزهده فيها وهي مقترة أولى وأحرى، فهذا على وفق العادة. مصابيح الجامع (4/ 8).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«وإن أعطاكه بدرهم» متعلق بقوله: «لا تشتره» أي: لا ترغب فيه البتة، ولا تنظر إلى رخصه، ولكن انظر إلى أَنه صدقتك. إرشاد الساري (3/ 75).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
قوله: «وإن أعطاكَه بدرهم» هو مبالغة في تنقيصه، وهو الحامل له على شرائه. نيل الأوطار (4/ 208).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ومعلوم أنه لو طلب عليه ثمنًا كثيرًا ما اشتراه عمر، لكن يقول: لا تشتره بأي حال من الأحوال. فتح ذي الجلال والإكرام (4/ 316).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
يستفاد من قوله: «وإن أعطاكه بدرهم» أن البائع كان قد ملكه ولو كان مُحَبَّسًا كما ادَّعاه مَنْ تقدم ذكره، وجاز بيعه؛ لكونه صار لا ينتفع به فيما حبس له لما كان له أن يبيعه إلا بالقيمة الوافرة، ولا كان له أن يسامح منها بشيء، ولو كان المشتري هو الْمُحَبِّس -والله أعلم-. فتح الباري (5/ 236).
وقال العراقي -رحمه الله-:
استدل بقوله في رواية الشيخين: «وإن أعطاكه بدرهم» على أنه يجوز لصاحب السلعة أن يبيعها بغبن فاحش ولا رجوع له في ذلك، وبهذا قال جمهور العلماء.
وقال البغداديون من المالكية: متى انتهى الغبن للثلث فله الرجوع في البيع، وجعلوا قوله في هذا الحديث: «وإن أعطاكه بدرهم» ضرب مثل لا حقيقة، وقال الجمهور: لا مانع من الحقيقة، فلا يعدل عنها بغير دليل -والله أعلم-. طرح التثريب (4/ 89).
وقال النووي -رحمه الله-:
هذا نهي تنزيه لا تحريم، فيكره لمن تصدق بشيء أو أخرجه في زكاة أو كفارة أو نذر ونحو ذلك من القُربات- أن يشتريه ممن دفعه هو إليه، أو يهبه أو يتملكه باختياره منه، فأما إذا ورثه منه فلا كراهة فيه. شرح صحيح مسلم (11/ 62).

قوله: «فإن العائد في صدقته ‌كالعائد ‌في ‌قيْئِه»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه» الفاء للتعليل...، وفي رواية للشيخين: «كالكلب يعود في قيئه» فَشُبِّهَ بأخسِّ الحيوان في أخَسِّ أحواله، تصويرًا للتهجين، وتنفيرًا منه. إرشاد الساري (3/ 75).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «كالعائد» الغرض من التشبيه تقبيح صورة ذلك الفعل، أي: كما أنه يقبح أن يقيء ثم يأكل، كذلك يقبح أن يتصدق بشيء، ثم يجره إلى نفسه بوجه من الوجوه. الكواكب الدراري (8/ 35).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
قوله: «فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه» إيماء وإشارة إلى أنَّ الآخذ منه يُستحى منه، فيجانبه، فيكون كالراجع في ذلك القذر؛ وذلك صفة الكلب. الأزهار مخطوط لوح (214).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
كَرِهَ أكثر العلماء شراء الرجل صدقته؛ لحديث عمر في الفرس، وهو قول مالك والليث والكوفيين والشافعي، وسواء عندهم صدقة الفرض أو التطوع، فإن اشترى أحد صدقته لم يفسخ بيعه، والأولى به التَّنَزُّه عنها، وكذلك قولهم فيما يخرجه المكفر عن كفارة اليمين مثل الصدقة سواء. شرح صحيح البخاري (3/ 537).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
اختلف في هذا النهي هل يحمل على ظاهره من التحريم؟ ولأنه يفهم من تشبيهه بالكلب التحريم؛ كما قال تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} الأعراف: 176، أو على الكراهة؛ لأن تشبيهه بالقيء إنما يدل على الاستقذار والعيافة؛ للنُّفْرَة الموجودة من ذلك، لا أنه يحرم العود في القيء، إلا أن يتغير للنجاسة، فحينئذٍ يحرم؛ لكونه نجاسة لا لكونه قيئًا، والأول في كتاب ابن المواز (وهو: محمد بن إبراهيم)، وقال به الداودي، والثاني عليه أكثر الناس.
قلتُ: ويحتاج موضع الخلاف إلى تنقيح، فنقول: أما الصدقة في السبيل أو على المسكين أو على ذي الرحم إذا وصلت للمتصدَّق عليه، فلا يحل له الرجوع فيها بغير عوض قولًا واحدًا؛ لأنه قد أخرجها عن ماله على وجه القربة لله تعالى، واستحقها المتصدق عليه، وملكها بالصدقة والحوز، فالرجوع فيها أو في بعضها حرام، وأما الرجوع فيها بالشراء الذي لا يحط عنه من ثمنها شيء فمكروه؛ لأنه قد استردَّ عينًا أخرجها لله تعالى.
والأولى حمل النهي الواقع في الحديث المذكور عن الابتياع على التحريم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- فهم عن عمر ما كان وقع له من أنه يبيعه منه بحطيطة من الثمن، وهذا رجوع في بعض عين الصدقة، إلا أن الكراهية هي المشهورة في المذهب في هذه المسألة، وكأنهم رأوا أن هذه عطية مبتدأة من المتصدق عليه أو الموهوب له؛ لأنها عن طيب نفس منه، فكان ذلك للمتصدق أو الواهب ملكًا جديدًا بطريق آخر، وهذا كما قال -صلى الله عليه وسلم- لمن وهب أمة لأمِّه فماتت أمُّه، فسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «وجب أجرك، وردَّها عليك الميراث»، غير أنه لا يليق بمكارم الأخلاق أن يعود في شيء خرج عنه على وجه المعروف، ولا بأهل الدين أن يرجعوا في شيء خرجوا عنه لله تعالى بوجه، فكان مكروهًا من هذا الوجه، وهذا نحو مما قررناه في قضية تحرج المهاجرين من المقام بمكة.
قلتُ: والظاهر من ألفاظ الحديث ومساقه: التحريم، فاجمع ألفاظه وتدبر معانيها يَلُح (يعني: يظهر) لك ذلك -إن شاء الله تعالى-. المفهم (4/ 579-580).
وقال النووي -رحمه الله-:
هذا ظاهر في تحريم الرجوع في الهبة والصدقة بعد إقباضهما، وهو محمول على هبة الأجنبي، أما إذا وهب لولده وإن سفل فله الرجوع فيه، كما صرح به في حديث النعمان بن بشير، ولا رجوع في هبة الإخوة والأعمام وغيرهم من ذوي الأرحام، هذا مذهب الشافعي، وبه قال مالك والأوزاعي، وقال أبو حنيفة وآخرون: يرجع كل واهب إلا الولد، وكل ذي رحم محرم. شرح صحيح مسلم (11/ 64-65).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
وفي ذلك (يعني التمثيل بالقيء): دليل على المنع من الرجوع في الصدقة؛ لما اشتمل عليه من التنفير الشديد من حيث شبه الراجع بالكلب، وشبه المرجُوع فيه بالقيء، وشبه الرجوع في الصدقة برجوع الكلب في قيئه. مصابيح الجامع (4/ 8-9).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قلتُ: ويدل للتحريم جعْلُهُ كالعائد في قيئه، وهو محرم قطعًا، فكذا ما شبه به. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 433).
وقال الباجي -رحمه الله-:
فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه يريد أنه من القبح والكراهية بمنزلة العائد في أكل ما قد قاء بعد أن قبح وتغير عن حال الطعام إلى حال القيء، وكذلك المتصدق قد أخرج في صدقته أوساخ ماله وما يدنسه، فلا يرتجعه إلى ملكه بعد أن تغير بصدقته، ويغيرها في ماله لمعنى الفساد فيه، فإن ذلك من أفعال الكلب وأخلاقه التي ينفرد بها، ويكره من أجلها. المنتقى شرح الموطأ (2/ 179).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
القول الراجح عندي: هو ما ذهب إليه بعض العلماء من تحريم الرجوع في الصدقة؛ لأن الحديث ظاهر في التحريم، والتأويل المذكور بعيد جدًّا منافٍ لسياق الحديث، لا سيما الرواية الثانية (يعني: «ليس لنا مثل السوء»)، وعُرْفُ الشرع في مثل هذه العبارة: الزجر الشديد، كما ورد النهي في الصلاة عن إقعاء الكلب، ونقر الغراب، والتفات الثعلب، ونحو ذلك، ولا يفهم من المقام إلا التحريم، والتأويل البعيد مما لا يلتفت إليه. مرعاة المفاتيح (6/ 396).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وأجمعوا أن من تصدق بصدقة ثم ورثها أنه حلال له، وروى سفيان عن عبد الله بن عطاء، عن ابن بريدة، عن أبيه «أن امرأة جاءت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، إني تصدقتُ على أمي بجارية وإنها ماتت، قال: وجب أجرك، وردها عليك الميراث»؛ فإن قيل: فلم كرهتم شراءه إياها (يعني: الهبة ونحوها)؟!
قيل: لئلا يُحابيه الذي تصدق عليه بها فيصير عائدًا في بعض صدقته؛ لأن العادة أن الذي تصدق عليه بها يسامحه إذا باعها، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في لحم بريرة أنه إذا كانت الجهة التي يأخذ بها الإنسان غير جهة الصدقة جاز ذلك، ومن ملكها بماله لم يأخذها من جهة الصدقة، فدل هذا المعنى أن النهي في حديث عمر في الفرس محمول على وجه التنزه لا على التحريم؛ لأن المتصدَّق عليه بالفرس لَمَّا ملك بيعه من سائر الأجانب وجب أن يملكه من المتصدِّق عليه، دليله: إن وهب له جاز أن يشتريه الواهب. شرح صحيح البخاري (3/ 538).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
قال ابن التين: وشذَّتْ فرقة من أهل الظاهر فكرهت أخذها (الصدقة) بالميراث. التوضيح (10/ 571).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال الطبري: يخص من عموم هذا الحديث: من وهب بشرط الثواب، ومن كان والدًا، والموهوب ولده، والهبة التي لم تُقْبَض، والتي ردها الميراث إلى الواهب؛ لثبوت الأخبار باستثناء كل ذلك، وأما ما عَدا ذلك كالغني يثيب الفقير، ونحو من يصل رحمه، فلا رجوع لهؤلاء.
قال: ومما لا رجوع فيه مطلقًا: الصدقة يراد بها: ثواب الآخرة. فتح الباري (5/ 237).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «مثل الذي يرجع في هبته كمثل الكلب يقيء ثم يعود في قيئه» إن كان المراد بالهبة الصدقة كما قد جاء في الرواية الأخرى، فقد تكلمنا عليها، وإن كان المراد: مطلق الهبة فهي مخصوصة؛ إذ يخرج منها الهبة للثواب، وهبة أحد الأبوين، فأما هبة الثواب فقد قال بها مالك وإسحاق والطبري والشافعي -في أحد قوليه- إذا علم أنه قصد الثواب إما بالتصريح به، وإما بالعادة والقرائن، كهبة الفقير للغني، والرجل للأمير، وبها قال أبو حنيفة إذا شرط الثواب، وكذلك قال الشافعي في القول الآخر.
وقد روي عنهما (يعني: أبا حنيفة والشافعي) وعن أبي ثور منعها مطلقًا، ورأوا أنها من البيع المجهول الثمن والأجل، والأصل في جواز هبة الثواب: ما خرَّجه الدارقطني من حديث ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من وهب هبة فهو أحق بها ما لم يثب منها» قال: رواته كلهم ثقات.
والصواب عن ابن عمر عن عمر قوله، وما خرجه مالك عن عمر أنه قال: من وهب هبة لصلة الرحم أو على وجه الصدقة أنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد بها الثواب، فهو على هبته يرجع فيها ما لم يرض منها، وما خرجه الترمذي من حديث أبي هريرة قال: «أهدى رجل من بني فزارة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ناقة فعوضه منها بعض العوض، فتسخطه»، وفي رواية: «أهدى له بكرة فعوضه ست بكرات، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر: إن رجالًا من العرب يهدي أحدهم الهدية فأعوضه منها بقدر ما عندي، فيظل يتسخط عليَّ! وأيم الله، لا أقبل بعد يومي هذا من رجل من العرب هدية إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي».
وهذا الحديث وإن لم يكن إسناده بالقوي فيعضده كل ما تقدم، وما حكاه مالك من أن هبة الثواب مجتمع عليها عندهم، وكيف لا تجوز وهي معاوضة تشبه البيع في جميع وجوهه إلا وجهًا واحدًا! وهو: أن العوض فيها غير معلوم حالة العقد، وإنما سامح الشرع في هذا القدر لأنهما دخلا في ذلك على وجه المكارمة لا المشاحة، فعفا عن تعيين العوض فيه كما فعل في نكاح التفويض.
وأما هبة الأب لولده فللأب الرجوع فيها، وإلى ذلك ذهب مالك والشافعي وأبو ثور والأوزاعي، وقد اتفق هؤلاء على أن ذلك للأب، وهل يلحق بالأب الأم والجد؟ اختلف في ذلك قول مالك والشافعي، ففي قول: يُقْصَرُ ذلك على الأب، وفي قول آخر: إلحاقهما به، والمشهور من مذهب مالك: إلحاق الأم، ومن مذهب الشافعي: إلحاق الأم والأجداد والجدات مطلقًا، والأصل في هذا الباب: ما خرجه النسائي من حديث ابن عمر وابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا يحل لرجل يعطي عطية يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده، ومثل الذي يعطي عطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب أكل حتى إذا شبع قَاءَ ثم عاد في قيئه»، وهذا حديث صحيح.
وقال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا أن من أعطى ولده عطية ليس بصدقة أن له أن يعتصرها، ما لم يستحدث الولد دينًا، أو ينكح، فليس للأب الاعتصار (الاعتصار عند مالك هو: الرجوع في الهبة).
وسبب اختلافهم في إلحاق غير الأب بالأب هو: أنه هل يتناول الملحق اسم الأبوة أو الوالد أم لا؟ وهل هم في معنى الأب أو يفرق بينهم وبينه؟ فإن للأب من الحق في مال الولد ما ليس لغيره، وله من خصوصية القرب ما ليس لهم.
قلتُ: أما إلحاق الأم فلا إشكال فيه، وقد أوغل الشافعي في استرجاع الأب لما وهب، ولو تعلق بالولد من الدين والتزويج كل طلب، وللأب أن يعتصرها من كل من يقع عليه اسم ولد حقيقة أو مجازًا، مثل ولده لصلبه وولد ولده من أولاد البنين والبنات.
وحملت طائفة حديث النهي عن الارتجاع في الهبة على عمومه، ولم يستثنوا من ذلك ولدًا ولا غيره، وبه قال طاوس وأحمد، والرجوع عندهم في الهبة محرم مطلقًا، والحجة عليهم ما تقدم من الحديث، وعمل أهل المدينة الدالين على استثناء الأب.
وقالت طائفة أخرى: إن المراد بذلك النهي: من وهب لذي رحم أو زوج، فلا يجوز له الرجوع، وإن وهب لغيرهم جاز الرجوع، وهو قول الثوري والنخعي وإسحاق، وقصره أبو حنيفة والكوفيون على كل ذي رحم محرم، فلا رجوع له فيما يهبه لهم، ويرجع فيما وهبه لغيرهم وإن كانوا ذوي رحم.
قلتُ: وهذه تحكُّمات على ذلك العموم، فيا لله من تلك الفهوم! المفهم (4/ 581-583).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معلقًا:
وهو تحقيق نفيس -والله تعالى أعلم بالصواب-. البحر المحيط الثجاج (28/ 262).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
واختلفوا في كراهية شراء صدقة الفرض والتطوع إذا أخرجها من يده.
فقال مالك في الموطأ في رجل تصدق بصدقة فوجدها تباع عند غير الذي تصدق بها عليه: تركها أحب إليَّ.
وكره الليث والشافعي ذلك، فإن اشتراها لم يفسخوا البيع، وكذلك قالوا في شراء ما يخرجه الإنسان في كفارة اليمين، وإنما كرهوا شراءها بهذا الحديث، ولم يفسخوا البيع؛ لأنها راجعة إليه بغير ذلك المعنى، ويشهد لهذا: حديث بريرة في اللحم الذي تصدق عليها به، وإجماعهم: أن من تصدق بصدقة، ثم ورثها أنها حلال له، وقد تقصيت الكلام في هذه. شرح صحيح البخاري (5/ 158).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
قال ابن التين: وليس ذلك (يعني: شراء صدقة الفرض) عند مالك بالحرام البيِّن؛ لأن الحديث إنما جاء في صدقة التطوع، قال في الموطأ: ترك شرائها أحب إليَّ، وهو ما في المدونة أيضًا، والذي فعل ابن عمر من ترك شراء ما تصدق به إلا أن يشتريه؛ ليجعله صدقة، وكان ابن عمر لا ينتفع من شيء تصدق به. التوضيح (10/ 572-573).
وقال النووي -رحمه الله-:
لو انتقل إلى ثالث، ثم اشتراه منه المتصدق فلا كراهة، هذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال جماعة من العلماء: النهي عن شراء صدقته للتحريم -والله أعلم-. شرح صحيح مسلم (11/ 62).
وقال العراقي -رحمه الله-:
فإن قلتَ: ما الجمع بين هذا (يعني: هذا الحديث) وبين حديث: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لرجل اشتراها بماله» الحديث رواه مالك في الموطأ من رواية عطاء بن يسار مرسلًا، ووصله أبو داود بذكر أبي سعيد الخدري فيه.
قلتُ: فيه وجهان:
أحدهما: أن حديث الباب أخص من ذلك الحديث، فيحتمل قوله: «أو لرجل اشتراها بماله» على ما إذا اشتراها غير المتصدق بها، أو اشتراها المتصدق بها من غير من تصدق بها عليه، والمعنى فيه: أنه إذا اشتراها المتصدق بها من المتصدق بها عليه ربما حاباه في ثمنها لِمِنَّتِهِ المتقدمة عليه، فيكون رجوعًا في الصدقة بقدر المحاباة، وقد تقدم أن في الصحيحين في رواية: «وظننتُ أنه يبيعه برخص»؛ فيحتمل: أن يراد بيعه برخص لعمر خاصة لسبق مِنَّتِهِ عليه، كما تقدم، ويحتمل: أن يراد بيعه برخص مطلقًا لكونه أضاعه، فنقص ثمنه للنقص الذي حصل فيه، وقد تقدم أن في الصحيحين أيضًا «فأضاعه الذي كان عنده»، ورجح والدي -رحمه الله- هذا الاحتمال الثاني، فقال: إنه الظاهر، ورجح القاضي عياض أن المراد بإضاعته: أنه لم يحسن القيام عليه، ثم ذكر احتمالًا آخر أن المراد: إضاعته في استعماله فيما حبس له.
ثانيهما: أن النهي في حديث الباب للتنزيه، كما تقدم عن الجمهور، والذي في ذلك الحديث حله، وهو صادق مع الكراهة، وحكى ابن العربي عن قوم أن حديث الباب ناسخ لذلك الحديث، وهو مرود، فإن النسخ لا بد فيه من معرفة التاريخ. طرح التثريب (4/ 88-89).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
وقد قيل: إنه (يعني: هذا الحديث) يعارض هذا الحديث المتقدم من أبي سعيد (يعني: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة») في حل الصدقة لرجل اشتراها بماله، وجمع بينهما بحمل هذا على كراهة التنزيه؛ ولهذا قال المصنف -رحمه الله تعالى- (يعني: ابن تيمية الجد): وحمل قوم هذا على التنزيه، واحتجوا بعموم قوله: «أو رجل اشتراها بماله» في خبر أبي سعيد، ويدل عليه ابتياع ابن عمر وهو راوي الخبر، ولو فهم منه التحريم لما فعله، وتقرب بصدقة تستند إليه، انتهى.
والظاهر: أنه لا معارضة بين هذا وبين حديث أبي سعيد المتقدم؛ لأن هذا في صدقة التطوع، وذاك في صدقة الفريضة، فيكون الشراء جائزًا في صدقة الفريضة؛ لأنه لا يتصور الرجوع فيها حتى يكون الشراء مشبهًا له؛ بخلاف صدقة التطوع، فإنه يتصور الرجوع فيها، فكره ما يشبهه وهو الشراء، نعم يعارض حديث الباب في الظاهر ما أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه: «أن امرأة أتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: كنتُ تصدقتُ على أمي بوليدة، وإنها ماتت وتركت تلك الوليدة، قال: وجب أجرك، ورجعت إليك في الميراث»، ويجمع بجواز تملك الشيء المتصدق به بالميراث؛ لأن ذلك ليس مشبهًا بالرجوع عن الصدقة دون سائر المعاوضات. نيل الأوطار (4/ 209).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقد استشكل ذكر عمر مع ما فيه من إذاعة عمل البر وكتمانه أرجح.
وأجيب: بأنه تعارض عنده المصلحتان الكتمان، وتبليغ الحكم الشرعي، فرجح الثاني، فعمل به.
وتُعُقِّبَ: بأنه كان يمكنه أن يقول: حمل رجل على فرس مثلًا، ولا يقول: حملتُ، فيجمع بين المصلحتين، والظاهر: أن محل رجحان الكتمان إنما هو قبل الفعل وعنده، وأما بعد وقوعه، فلعل الذي أعطيه أذاع ذلك، فانتفى الكتمان، ويضاف إليه أن في إضافته ذلك إلى نفسه تأكيدًا لصحة الحكم المذكور؛ لأن الذي تقع له القصة أجدر بضبطها ممن ليس عنده إلا وقوعها بحضوره، فلما أمن ما يخشى من الإعلان بالقصد صرح بإضافة الحكم إلى نفسه.
ويحتمل: أن يكون محل ترجيح الكتمان لمن يخشى على نفسه من الإعلان العُجب والرياء، أمّا مَن أَمن من ذلك كعمر فلا. فتح الباري (5/ 237).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: إجازة تحبيس الخيل في سبيل الله...
وفيه: إن حمل على فرس في سبيل الله وغزا به فله أن يفعل به بعد ذلك ما يفعل في سائر ماله...
وفيه: أن كل من يجوز تصرفه في ماله وبيعه وشراؤه فجائز له بيع ما شاء من ماله بما شاء من قليل الثمن وكثيره؛ كان مما يتغابن الناس به، أو لم يكن، إذا كان ذلك ماله، ولم يكن وكيلًا ولا وصيًّا. التمهيد (3/ 257-259).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: أنه ملكه الفرس بحمله إياه عليها، وإذا حمل الإنسان على فرس في سبيل الله هكذا مطلقًا، ولم يعينه لغزوة بعينها، فإنه يملكه من يحمل عليه، ولا ينبغي أن يستعمله إلا في سبيل الله.
وفيه أيضًا من الفقه: أنه إذا تصدق الإنسان بصدقة على فقير؛ فاحتاج الفقير إلى أن يبيعها فلا ينبغي للمتصدق أن يشتريها، والسِّر في ذلك أن وضع الصدقة للطهرة؛ لقول الله -عزَّ وجلَّ-: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} التوبة: 103، فهي تطهير للمتصدق في المعنى كالماء الْمُزال به النجاسة في الصورة، فإذا أعاد ما أزال به النجاسة إلى نفسه، صار كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «كالكلب يعود في قيئه»؛ لأن القيء نجس، فإذا ألقى نجاسة عنه، ولكن لِشَرَهِ الكلب (يعني: لحرصه وطمعه) يعود ويأكل قيء نفسه، فنهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المؤمن أن يحمله الشَّرَهُ إلى أن يستعيد ما قد كان طهَّره، وأزال عنه نجاسات ذنوبه، أي: يعود إلى التلوث به. الإفصاح عن معاني الصحاح (1/ 144-145).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وفيه: الحمل على الخيل في سبيل الله.
وفيه: أنه من حمل على فرس في سبيل الله وغزا به فله أن يفعل به بعد ذلك ما يفعل في سائر ماله، ألا ترى أن رسول الله لم ينكر على بائعه بيعه، وإنما أَنكر على عمر شراءه. شرح صحيح البخاري (5/ 157-158).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ويستفاد من التعليل المذكور (يعني: «بائعه برخص») أيضًا: أنه لو وجده مثلًا يباع بأغلى من ثمنه لم يتناوله النهي. فتح الباري (5/ 236).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
في هذا الحديث فوائد كثيرة:
منها: جواز إيقاف الحيوان في سبيل الله؛ لقوله: «حملتُ على فرس في سبيل الله»؛ فإن الظاهر: أنه أوقفه، ويُحتمل أنه (يعني: عمر) -رضي الله عنه- تصدَّق به على الرجل صدقة مطلقة على أنه ملكه...
ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز أن يشتري الإنسان صدقته؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عمر عن شراء هذا الفرس.
ومن فوائده: أن الشراء نوع من الرجوع في الهبة أو الصدقة، وجهه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تعد في صدقتك...» إلخ.
فإن قال قائل: كيف يكون عودًا في الصدقة وهو قد اشتراه بثمن؟ فجوابه: أن العادة في مثل هذا أن المتصدق عليه يعطي المتصدق الشيء بأقل من ثمنه، فإذا نقص الثمن فكأنه عاد ببعض الصدقة...
ومن فوائد الحديث: ورع عمر -رضي الله عنه- حيث توقف في الأمر حتى سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ومنها: أن الله تعالى قد يعطي الإنسان الذي عُرف بالورع كرامة بحيث لا يقدم على شيء فيه حرج وشك، فإن عمر لو أقدم بسرعة على هذا الفعل لوقع في المحظور، لكنه من كرامة الله له أن توقف حتى يسأل -صلى الله عليه وسلم-.
ومنها أيضًا: حرص الصحابة على العلم، ولكن الصحابة يحرصون على العلم ليعملوا به؛ بخلاف ما كان الناس عليه من زمن بعيد، يحرصون على العلم حرصًا نظريًّا فقط لا عمليًّا، فتجده يحرص على العلم ويحقق المسألة، ويعرف الحُكم، لكن لا يعمل بها، فهذه مشكلة، وهي موجودة الآن بكثرة عند الناس، وهذا يكون حُجة عليه. فتح ذي الجلال والإكرام (4/ 317-318).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
فيه: ما كان عليه عمر -رضي الله عنه- من جهاد بالمال، ويقظة وحيطة من الوقوع في الأخطاء الشرعية.
وفيه: جواز استخدام الألفاظ المستقذرة عند إرادة التنفير؛ ليرتدع من تُسَوِّلُ له نفسه الوقوع في الزَّلَلِ، أو الاستهانة بالحُكم الشرعي -والله أعلم-. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (6/ 393).


ابلاغ عن خطا