أَضْجَعَ رجلٌ شاةً يريدُ أنْ يذْبَحُهَا، وهو يَحُدُّ شَفْرَتَهُ، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلَّم-: «أَتُرِيدُ أنْ تُمِيتَهَا موتاتٍ؟! هلَّا حَدَدْتَ شَفْرَتَكَ قبلَ أنْ تُضْجِعَهَا».
رواه الحاكم في المستدرك برقم: (7563)، والطبراني في الأوسط برقم (3590)، والكبير برقم: (11916)، والبيهقي في السنن الكبرى برقم: (19141) وزادا: «وهي تلحظ إليه ببصرها»، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.
صحيح الجامع برقم: (93)، صحيح الترغيب، والترهيب برقم: (1090).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«أَضْجَعَ»:
يُقال: أَضْجَعَهُ فاضْطَجَع: أي: وضَعَ جنْبَهُ على الأرض، وكُل شيء خَفَضْتَه فقد أَضجعته. شمس العلوم، للحميري (6/ 3925).
«يَحُدُّ»:
أي: يَسُنُّ. إعانة الطالبين، الدمياطي (2/ 392)
يُقال: أَحَدَّ السكين وحدَّدها واستحدَّهَا بمعنىً. شرح النووي على مسلم (13/ 107).
«شَفْرَتَهُ»:
أي: سِكِّينَه. التيسير، للمناوي (1/ 257).
وقال الطوفي -رحمه الله-:
الشَّفْرَة: الْمُديَة، وهي السِّكين ونحوه مما يُذبح به، سُمِّيت باسم شفرتها، وهي حَدُّها، تسمية للشيء باسم جُزئه. التعيين في شرح الأربعين (1/ 148).
شرح الحديث
قوله: «أَضْجَعَ رجلٌ شاةً يريدُ أنْ يذْبحُها، وهو يحُدُّ شفْرَتَهُ»:
قال طه عبد الله العفيفي -رحمه الله-:
قوله: «أَضْجَعَ شاةً» أي: أنَامَهَا على جنْبَيْهَا، استعدادًا لذبحها. المائة الثانية من وصايا الرسول (ص: 429).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
الشَّفرة: بفتح المعجمة: السكين العظيمة، وما عظم من الحديد وحُدِّد. سبل السلام (2/ 527).
قوله: «فقال النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «أَتُرِيدُ أنْ تُمِيتَهَا موتاتٍ؟»:
قال عمر النسفي -رحمه الله-:
وإماتَتُهَا موْتَاتٍ هو: إفزاعُ قلبِهَا مرَّاتٍ. طلبة الطلبة (ص: 102).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «أتُريدُ أنْ تُميتها موتاتٍ؟!» يعني معناه: أنَّ هذا يزعجها ويروعها ترويعًا عظيمًا، حتى يكون كالموت، عندما تضجعها وتحدّ السكين فوقها -والعياذ بالله-، هذا ما فيه رحمة. الشرح الصوتي لزاد المستقنع (1/ 7872).
قال العيني -رحمه الله-:
فإنْ قلتَ: كيف يكون ذلك ولا يعلم الحيوان بذبحه؛ لأنه لا عقل له؟
قلتُ: هذا سؤال ساقط، وفيه سُوء أدب؛ لأن الوَهم في ذلك كافٍ وهو موجود فيه، والعقل يحتاج إليه لمعرفة الكليات، وما نحن فيه ليس منها.
وأجاب في المبسوط بأنَّ الحيوان يَعرف ما يُراد منه، كما جاء في الخبر: «أُلْهِمَت البهائم إلا عن أربعة: خالقها ورازقها وضعفها وشقاؤها»، فإذا كانت تَعرف ذلك وهو يحد الشَّفرة عندها كان فيه زيادة ألم غير محتاج إليه؛ ولهذا قيل: يُكره أنْ يَذبح شاة والأخرى تنظر إليها. البناية شرح الهداية (11/ 562).
قوله: «هلَّا حَدَدْتَ شفْرَتَكَ قبل أنْ تُضْجِعها؟»:
قال المرادي -رحمه الله-:
هلَّا: حرف تحضيض، لا يليه إلا فعل، أو معموله...، و(هلَّا) أكثر استعمالًا في التحضيض من (أَلَا)، وتقدَّم ما قاله بعض النحويين من أنَّ هاء (هلَّا) بدل من همزة (أَلَا) والله أعلم. الجنى الداني في حروف المعاني (ص: 613-614).
وقال العكبري -رحمه الله-:
إذا وليها (هلَّا) الماضي كان توبيخًا، وإنْ وليها المستقبل كانت تحضيضًا. إعراب ما يشكل من ألفاظ الحديث (ص: 160).
وقال نور الدين الجامي -رحمه الله-:
إذا دخلتْ (هلَّا) على الماضي (أفادت) التوبيخ واللوم على ترك الفعل، ومعناها في المضارع: الحضّ على الفعل، والطلب له، فهي في المضارع بمعنى الأمر، ولا يكون التحضيض في الماضي الذي قد فات إلا أنَّها تُستعمل كثيرًا في لوم المخاطَب على أنَّه ترك في الماضي شيئًا يمكن تداركه في المستقبل، فكأنَّها من حيث المعنى للتحضيض على فعل مثل ما فات. الفوائد الضيائية شرح كافية ابن الحاجب (ص: 461).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«هلَّا» أداة تحضيض «أَلَا» أداة عرض، والعَرْضُ دون التحضيض، والتحضيض عَرْضٌ بإلحاح. فتح ذي الجلال والإكرام (5/ 406).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
قال الإمام أحمد: تُقاد إلى الذبح قودًا رفيقًا، وتوارى السكين عنها، ولا تظهر السكين إلا عند الذبح، أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك أنْ تُوارى الشفار، وقال: ما أُبهمت عليه البهائم فلم تبهم أنها تعرف ربها، وتعرف أنها تموت، وقال يُروى عن ابن سابط أنه قال: إنَّ البهائم جُبلت على كل شيء، إلا أنَّها تعرف ربها، وتخاف الموت. جامع العلوم والحكم (1/391- 392).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
ينبغي حال حَدِّها (الشفرة) أنْ يواريها عنها (أي: الذبيحة)؛ لأمره -صلى الله عليه وسلم- بذلك، رواه أحمد وابن ماجه...، وروى الخلال والطبراني أنَّه -صلى الله عليه وسلم- مرَّ برجلٍ واضع رِجْلَه على صفحة شاة، وهو يحدُّ شَفرته، وهي تلحَظُ إليه ببصرها، فقال: «أفلا قَبْلَ هذا، أتريد أن تُميتها موتَتَان؟!». الفتح المبين بشرح الأربعين(ص: 345).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وكَرِهَ أبو هريرة أنْ تُحَدَّ الشفرةُ والشاة تنظر إليها، وروي أنه -عليه السلام- رأى رجلًا أضجع شاة، فوضع رِجْلَهُ على عُنقها وهو يحد شفرته، فقال -عليه السلام-: «ويلك، أردتَ أنْ تميتها موتات، هلَّا حددت شفرتك قبل أن تضجعها؟». التوضيح (26/ 485).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله (الحجاوي): «وأنْ يحدَّها والحيوان يُبصره» أي: يحد الآلة، وجُملة «والحيوان يُبصره» هذه جملة حاليَّة، يعني: والحال أنَّه يبصره؛ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- «أَمَرَ أنْ تُحدَّ الشِّفَار، وأنْ تُوارى عن البهائم»، فأمر بأمرين:
الأول: حد الشفرة، يعني: سَنّها.
الثاني: أنْ تُوارى عن البهائم حال حدِّها، وفي غير هذه الحال أيضًا، حتى إذا أتيتَ لتذبحها لا تُظهر لها السكين، بل وارها عنها، إلا عند الذبح، كما نص على ذلك الإمام أحمد -رحمه الله-، وهذا ظاهر الحديث «وأنْ تُوارى» يعني: الشفرة «عن البهائم»؛ لأنها تَعرف ربها -سبحانه وتعالى-، وتسبِّح بحمده، وتَعرف الموت؛ ولهذا تَهْرُب، حتى إنَّ بعض الإبل إذا رأت بعيرًا مذبوحًا هربت، ولا يستطيعون أن يمسكوها، فإذا أتيتَ بالسِّكين، ولا سيما إنْ حددْتَها أمامها، معناه: أنك روَّعتها، وقد رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلًا أضجع شاة وهو يحدُّ الشفرة، فقال له النبي -عليه الصلاة والسلام-: «أتريد أن تُميتها موتات؟!» يعني: أنَّ هذا يزعجها ويروِّعها ترويعًا عظيمًا حتى يكون كالموت.
فإذا كان المكان ضيقًا، ولا أتمكَّن من أنْ أواريها عنها، وأنا محتاج إلى سَنَّها، فأُغطِّي وجهها.
فإنْ قيل: إنَّها قد تسمع، فقد نقول: إنَّ قوله -صلى الله عليه وسلم-: «وأنْ تُوارى عن البهائم» يشمل المواراة البَصَرية والسمعية؛ لأنَّها قد تحسّ بهذا الشيء، فالمهم أنَّه ما أمكنك البُعد عن ترويع البهيمة فهو الأَولى. الشرح الممتع (15/ 93-94).
وقال البجيرمي الشافعي -رحمه الله-:
الإحداد واجب في الكَالَّة (السكين التي تحتاج للحَدِّ)، ومندوب في غيرها، ويندب مواراتها عنها في حال إحدادها، فيُكره أنْ يحدها قبَالَتَها. تحفة الحبيب على شرح الخطيب(5/ 193).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
يجب حدُّ الشَّفرة؛ لأن ذلك أسهل للذبيحة، ومعنى إحدادها: أنْ يمسحها بشيء يجعلها حادة، فإنْ ذبح بشفرة كالَّة -أي: ليست بجيدة- ولكن قطع ما يجب قطعه، فالذبيحة حلال؛ لكنه آثم، حيث لم يحد الشفرة. شرح الأربعين النووية (ص: 192).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
يكره أنْ يُسن السكين والحيوان يُبصره، ورأى عمر رجلًا قد وضع رجله على شاة، وهو يحد السكين، فضربه حتى أفْلَتَ الشاة. المغني (11/ 46).
قال النووي -رحمه الله-:
الأَولى أنْ تُساق (الذبيحة) إلى المذبح برفق، وتُضجع برفق، ويعرض عليها الماء قبل الذبح، ولا يحدّ الشفرة قبالتها، ولا يذبح بعضها قبالة بعض. روضة الطالبين (3/ 207).
وقال المناوي -رحمه الله-:
من الرِّفق بها (الذبيحة) والرحمة بها أنْ لا يذبح أخرى عندها، ولا يحد السكين وهي تنظر، فقد مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحد شفرته وهي تلحظُه فقال: «أفلا قَبْلَ هذا؟ تريد أن تميتها موتات؟» رواه الطبراني وغيره. فيض القدير(6/ 135).
وقال الدمياطي رحمه الله-:
يُكره أنْ يحدها(الشَّفرة) قبالتها، فقد روي أنَّه -صلى الله عليه وسلم- «مرَّ برجل واضع رجله على صفحة شاة، وهو يحد شفرته، وهي تلحظ إليها ببصرها، فقال له: أتريد أن تميتها موتتين؟ هلَّا أحددتَ شفرتك قبل أن تضجعها؟». إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين (2/ 393).
وقال الإمام مالك -رحمه الله-:
عن عاصم بن عبيد الله بن عاصمٍ أنَّ عمر بن الخطاب رأى رجلًا يذبح شاةً، وقد أضجعها، وهو يحد شفرته، فضربه عمر بالدِّرة، قال: فهلَّا فعلتَ ذلك قبل أنْ تذبحها؟! الموطأ برواية ابن زياد (ص: 139).
وقال الصقلي المالكي -رحمه الله-:
وتكون (أيها الذابح) قد حدَّدتَ شفرتك قبل ذلك؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر بحدِّ الشفار، وأنْ تُوارى عن البهائم...الجامع لمسائل المدونة (5/ 794-795).
وقال السرخسي -رحمه الله-:
يكره له أنْ يحد الشفرة بين يديها؛ لما فيه من زيادة إيلام غير محتاج إليه، وضرب عمر -رضي الله عنه- مَن رآه يفعل ذلك بالدِّرة، حتى هرب، وشردت الشاة. المبسوط (11/ 226).
وقال الجندي المالكي -رحمه الله-:
روى الدارقطني عن سالم عن أبيه «أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أنْ تُحد الشِّفار، وأنْ تُوارى عن البهائم، فإذا ذبح أحدكم فليُجْهِزْ».
فأمره -صلى الله عليه وسلم- بحدِّ الشفار، دليل على أنَّ الأَوْلى لمن كان معه الحديد ألا يذبح بغيره. التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب (3/ 231).
وقال النووي -رحمه الله-:
استحباب إضجاع الغنم في الذبح، وأنَّها لا تُذبح قائمة، ولا باركة، بل مُضْجَعة؛ لأنه أرفق بها، وبهذا جاءت الأحاديث، وأجمَع المسلمون عليه، واتفق العلماء، وعمَل المسلمين على أنَّ إضجاعها يكون على جانبها الأيسر؛ لأنه أسهل على الذابح في أخذ السكين باليمين، وإمساك رأسها باليسار. شرح صحيح مسلم (13/ 122).