«كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُقَبِّلُ وهو صائمٌ، ويُباشرُ وهو صائمٌ، ولكنه أَملَكُكُم لِإِربِهِ».
رواه البخاري برقم: (1927)، ومسلم برقم: (1106) واللفظ له، من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«يُقَبِّلُ»:
قال ابن الأثير -رحمه الله-:
التَّقْبِيل: البَوْس. جامع الأصول (6/ 298).
وقال ابن منظور -رحمه الله-:
القُبْلَة: اللَّثْمَة معروفة والجَمْعُ القُبَلُ، وفِعْلُه التّقبيل. لسان العرب، ابن منظور (11/ 544).
«ويُبَاشِرُ»:
بَاشَرَ الرَّجُل المرأة: إذا صارا في ثوب واحد، فباشَرَت بَشْرَتُه بَشْرَتَها. تاج العروس، للزبيدي (10/ 192).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
والمباشرة أراد بها: الملامسة والمداعبة ومقدِّمات الجماع. جامع الأصول (6/ 298).
«لِإِربِهِ»:
الأَرَب: مفتوحة الألف والراء: وهو الوَطَر، وحاجة النفس. غريب الحديث، للخطابي (3/ 223).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
أي: لِحَاجَتِه، تعني: أنه كان غالبًا لهواه. النهاية (1/ 36).
وقال الحميري -رحمه الله-:
الإِرْب: الحاجة، والإِرْبُ: العضو. شمس العلوم (1/ 228).
شرح الحديث
قوله: «كان -رسول الله صلى الله عليه وسلم- يُقَبِّلُ وهو صائِمٌ»:
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قولها: «يقبِّل» يعني: يقبِّل أهله وزوجته «وهو صائم» والتقبيل معروف، وجملة «وهو صائم» في موضع نصب على الحال، وهو عام لصيام الفرض والنفل. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 207).
قال الطحاوي -رحمه الله-:
وقد تواترت هذه الآثار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقبِّل وهو صائم، فدلَّ ذلك أن القُبْلَة غير مُفَطِّرة للصائم...
وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله تعالى-، وقد روي عن المتقدمين في ذلك... عن حكيم بن عقال أنه قال: سألتُ عائشة -رضي الله عنها- ما يحرم عليَّ من امرأتي وأنا صائم؟ قالت فَرْجَهَا، فهذه عائشة -رضي الله عنها- تقول فيما يحرم على الصائم من امرأته، وما يحل له منها ما قد ذكرنا، فدل ذلك على أن القُبلة كانت مباحة عندها للصائم الذي يأمن على نفسه، ومكروهة لغيره؛ ليس لأنها حرام عليه، ولكنه لأنه لا يأمن إذا فَعَلَها من أن تغلبه شهوته حتى يقع فيما يحرم عليه...
فقد بيَّن في هذا الحديث المعنى الذي من أجله كرهها مَن كَرِهَها للصائم، وأنه إنما هو خوفهم عليه منها أن يجرَّه إلى ما هو أكبر منها، فذلك دليل على أنه إذا ارتفع ذلك المعنى الذي من أجله منعوه منها أنها له مباحة. شرح معاني الآثار (2/ 93- 95).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث من الفقه: أن القُبلة للصائم جائزة في رمضان وغيره، شابًّا كان أو شيخًا، على عموم الحديث وظاهره...، ولو ورد الشرع بالفرق بينهما لما سكت عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه المبيِّن عن الله مراده من عباده، وأظن أن الذي فرَّق بين الشيخ والشاب في القُبلة للصائم ذهب إلى قول عائشة في حديثها حديث هذا الباب: «وأَيُّكم أَمْلَكُ لإِرْبِهِ مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟» أي: أَمْلَكُ لنفسه وشهوته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبهذا أيضًا احتج مَن كَرِهَهَا...، كل من كرهها فإنما كرهها خوفًا من أن تُحدث شيئًا يكون رفثًا؛ كإنزال الماء الدافق، أو خروج المذي وشِبْه ذلك مما لا يجوز للصائم، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «من كان صائمًا فلا يرفث»، فدخل فيه رفث القول، وغشيان النساء، وما دعا إلى ذلك وأشباهه...، وكان الشافعي يكرهها لمن حرَّكته بها شهوة، وخاف أن يأتي عليه منها شيء، ولم يكرهها لمن أمن عليه، وقال أبو ثور: إذا كان يخاف أن يتعدى إلى غيرها لم يتعرض لها، ورُويت الرخصة في القُبلة للصائم عن عمر بن الخطاب، ولا يصح ذلك عنه، ورُويت عن سعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وابن عباس أيضًا وعائشة، وبه قال عطاء والشعبي والحسن، وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وداود بن علي (الظاهري)، ولا أعلم أحدًا رخَّص فيها لمن يَعلم أنه يتولد عليه منها شيء مما يفسد صومه، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا بأس بالقُبلة إذا كان يأمن على نفسه.
قالوا: فإن قَبَّلَ فأَمْنَى فعليه القضاء، ولا كفارة عليه. وهو قول الثوري، والحسن بن حي، والشافعي، فيمن قبَّل فأَمْنَي، أن عليه القضاء، وليس عليه كفارة.
وقال ابن علية: لا تُفسد القُبلة الصوم، إلا أن ينزل الماء الدافق. ولو قبَّل فأَمْذَى لم يكن عليه شيء عند الشافعي، وأبي حنيفة، والثوري، وابن علية، والأوزاعي.
وقال أحمد: مَن قَبَّل فأمذى أو أمني فعليه القضاء. ولا كفارة عنده إلا على مَن جامع فأوْلَجَ ناسيًا أو عامدًا...
وقال مالك: لا أحب للصائم أن يقبِّل، فإن قبَّل في رمضان فأنزل فعليه القضاء والكفارة، وإن قبَّل فأمذى فعليه القضاء، ولا كفارة. وقال ابن خويز منداد (محمد بن عبد الله بن خويز منداد): القضاء على من قبَّل فأَمْذَى عندنا مستحب ليس بواجب. التمهيد (5/ 109-115).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
ولا يخلو المقبِّل من ثلاثة أحوال:
أحدها: أن لا يُنزل، فلا يفسد صومه بذلك، لا نعلم فيه خلافًا...
الحال الثاني: أن يُمْنِي فيُفطر بغير خلاف نعلمه؛ لما ذكرناه من إيماء الخبرين؛ ولأنه إنزال بمباشرة، فأشْبَهَ الإنزال بالجماع دون الفَرْجِ.
الحال الثالث: أن يُمذي فيُفطر عند إمامنا ومالك، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يفطر، وروي ذلك عن الحسن والشعبي والأوزاعي؛ لأنه خارج لا يوجب الغسل، أشبه البول، ولنا أنه خارج تخلَّله الشهوة، خرج بالمباشرة فأفسد الصوم، كالمني، وفارق البول بهذا، واللمس لشهوة كالقُبلة في هذا.
إذا ثبت هذا فإنَّ المقبِّل إنْ كان ذا شهوة مُفرطة، بحيث يغلب على ظنه أنه إذا قبَّل أنزل، لم تحل له القُبْلة؛ لأنها مُفسدة لصومه، فحرِّمت كالأكل، وإن كان ذا شهوة لكنه لا يغلب على ظنه ذلك كُره له التقبيل؛ لأنه يُعرِّض صومه للفطر، ولا يأمن عليه الفساد...، ولأن العبادة إذا منعت الوطء منعت القبلة، كالإحرام، ولا تحرم القبلة في هذه الحال.
والثانية: يُكره؛ لأنه لا يأمن حدوث الشهوة؛ ولأن الصوم عبادة تمنع الوطء، فاستوى في القُبلة فيها من تحرك شهوته، وغيره، كالإحرام. المغني (4/ 360- 362).
وقال العراقي -رحمه الله-:
استدل به على إباحة القُبلة للصائم، وأنه لا كراهة فيها، وفي المسألة مذاهب:
أحدها: هذا...، ورجَّحه أيضًا أبو بكر بن العربي، فقال: والذي يعوَّل عليه جواز ذلك إلا أن يعلم من نفسه أنه لا يَسلم من مُفسد، فلا يَلُم الشريعة ولكن لِيَلُم نفسه الأمارة بالسوء المسترسلة على المخاوف.
الثاني: كراهتها للصائم مطلقًا، وبه قال طائفة من السلف...، وقال سائر الفقهاء: القُبلة لا تُبطل الصوم إلا أن يكون معها إنزال...
القول الثالث: التَّفرقة بين الشيخ والشاب، فتُكره للشاب دون الشيخ، حكاه ابن المنذر عن فِرقة منهم ابن عباس، ورواه ابن أبي شيبة عن مكحول، وروي عن ابن عمر مثل ذلك في المباشرة، وحكاه الخطابي عن مالك والمعروف عنه ما قدَّمته من الكراهة مطلقًا.
القول الرابع: الفرق بين أن يأمن على نفسه بالقُبلة الجماع والإنزال فتُباح، وبين ألا يأمن فتُكره، وهذا مذهب الحنفية، وهو مثل قول أصحابنا الشافعية أن القُبلة مكروهة في الصوم لمن حرَّكت شهوته دون غيره، فلا تُكره له، لكن الأَولى تَركها، لكن ظاهر كلام الحنفية الاقتصار في ذلك على كراهة التنزيه...
القول الخامس: مذهب الحنابلة أنه إن كان المقبِّل ذا شهوة مُفرطة بحيث يغلب على ظنه أنه إذا قبَّل أنزل، لم تحل له القُبلة، وإن كان ذا شهوة لكنه لا يغلب على ظنه ذلك كُره له التقبيل، ولا يحرم، وإن كان ممن لا تحرِّك القُبلة شهوته كالشيخ الهرم ففي الكراهة روايتان عن أحمد.
القول السادس: التفرقة بين صيام الفرض والنفل، فيُكره في الفرض دون النفل، وهو رواية ابن وهب عن مالك...
واحتج مَن فرَّق بين الشيخ والشاب أو بين من يأمن على نفسه المواقعة وبين من لا يأمنها، بأنه -عليه الصلاة والسلام- كان آمنًا من ذلك لشدة تقواه وورعه، فكل من أَمِنَ ذلك كان في معناه فالتحق به في حُكمه، ومن ليس في معناه في ذلك فهو مغاير له في هذا الحكم، وهذا أرجح الأقوال...
وقد أجمع العلماء أنَّ مَن كَرِهَ القُبلة لم يكرها لنفسها، وإنما كَرِهَها خشية ما تؤول إليه من الإنزال، وأقل ذلك المذي، ولم يختلفوا في أنَّ مَن قبَّل وسَلِمَ مِن قليل ذلك وكثيره، فلا شيء عليه. طرح التثريب (4/ 135- 139).
قوله: «ويُبَاشِرُ وهو صائِمٌ»:
قال المغربي -رحمه الله-:
المراد بالمباشرة هنا: هو التقاء البَشْرتين من غير جماع، وقد يُستعمل في الجماع، مثل قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} البقرة: 187. البدر التمام (5/ 40).
وقال السندي -رحمه الله-:
«يباشِر» أي: يمسّ بَشرة المرأة ببَشرته، كوضعِ الخدِّ على الخد، ونحوه. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه (1/ 517).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ويباشر» المباشرة الملامسة، وقد ترد بمعنى الوطء في الفرج، وليس بمرادٍ هنا. سبل السلام (1/ 567).
وقال ابن قاسم -رحمه الله-:
وذكر المباشرة بعد التقبيل مِن ذِكْرِ العام بعد الخاص، فإنَّ المباشرة المذكورة هنا أعم من التقبيل ما لم يبلغ إلى حدَّ الجماع؛ لأنها في الأصل الْتِقَاء البشرتين. الإحكام شرح أصول الأحكام (2/ 253).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
والمباشرة والقُبلة للصائم حُكمهما واحد، وقال أشهب: القُبلة أيسر من المباشرة، وقال ابن حبيب: المباشرة والملاعبة والقُبلة، وإدامة النظر، والمحادثة تنقص أجر الصائم، وإن لم تفطِّره، واختلفوا في المباشرة، فكرهها قوم من السلف، وروى ابن وهب عن ابن أبي ذئب، أن شعبة مولى ابن عباس حدثه: أن ابن عباس كان ينهى الصائم عن القُبلة، والمباشرة، قال: وأخبرني رجال من أهل العلم عن ابن عمر مثله، وروى حماد بن سلمة عن عائشة أنها كرهت ذلك، وروي مثله عن ابن المسيب وعطاء والزهري، ورخص فيه آخرون، روي عن ابن مسعود أنه كان يباشِر امرأته نصف النهار وهو صائم، وعن سعد بن أبي وقاص مثله.
وروى أبو قلابة عن مسروق أنه سأل عائشة: ما يحل للرجل من امرأته وهو صائم؟ قالت: كل شيء إلا الجماع، وكان عكرمة يقول: لا بأس بالمباشرة للصائم؛ لأن الله أحلَّ له أن يأخذ بيدها وأدنى جسدها، ولا يأخذ بأقصاه.
قال المهلب: وكل مَن رخَّص في المباشرة للصائم فإنما ذلك بشرط السلام مما يخاف عليه من دواعي اللذة والشهوة، ألا ترى قول عائشة عن النبي -عليه السلام-: «وكان أَمْلَكَكُم لإربه»؟ ولهذا المعنى كرهها مَن كرهها، وروى حماد عن إبراهيم عن الأسيود: أنه سأل عائشة عن المباشرة للصائم، فكرهَتْهَا، فقلت: بلغني أن النبي -عليه السلام- كان يُباشر وهو صائم، فقالت: «أجل، إن رسول الله كان أَمْلَكَ لإِرْبِه من الناس أجمعين».
وحماد عن داود عن سعيد عن ابن عباس أن رجلًا قال له: إني تزوجت ابنة عم لي جميلة فبَنَيْتُ في رمضان، فهل لي إنْ قبَّلْتُها من سبيل؟ قال: هل تملك نفسك؟ قال: نعم، قال: قبِّل، قال: فهل لي إلى مباشرتها من سبيل؟ قال: هل تملك نفسك؟ قال: نعم، قال: فبَاشِر، قال: فهل لي أن أضرب بيدي على فرجها من سبيل؟ قال: هل تملك نفسك؟ قال: نعم، قال: فاضرب.
وقال مالك في المختصر: لا أُحب للصائم في فرضٍ أو تطوعٍ أن يباشِر أو يقبِّل، فإن فعل ولم يمذِ فلا شيء عليه.
فإنْ أمذى فعليه القضاء، وهو قول مطرف وابن الماجشون، وأحمد بن حنبل، وقال بعض البغداديين من أصحاب مالك: القضاء في ذلك عندنا استحباب.
وروى عيسى عن ابن القاسم أنه إن أنعظ (انتشر ذَكَرُه) وإن لم يُمذِ فإنه يقضي، وأنكره سحنون، وهو خلاف قول مالك، وقال أبو حنيفة، والأوزاعي، والشافعي، وأبو ثور: لا شيء عليه إذا أمذى، وهو قول الحسن والشعبي، وحُجَّتهم أن اسم المباشرة ليس على ظاهره، وإنما هو كناية عن الجماع...
واختلفوا إذا باشَر أو جامَع دون الفَرْج فأمنى، فقال أبو حنيفة والثوري والشافعي: عليه القضاء فقط، لأن الكفارة إنما تجب عندهم بالإيلاج في الفرْج والجماع التام، وقال عطاء: عليه القضاء مع الكفارة، وهو قول الحسن البصرى، وابن شهاب، ومالك، وابن المبارك، وأبى ثور، وإسحاق، وحُجة هذا القول أنه إذا باشر أو جامع دون الفرج فأنزل فقد حصل المعنى المقصود من الجماع؛ لأن الإنزال أقصى ما يُطلب من الالتذاذ، وهو من جنس الجماع التام في إفساد الصوم، فقد وجبت فيه الكفارة. شرح صحيح البخاري (4/ 51- 53).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: في الحديث: «ويباشر وهو صائم» حكم المباشرة عندهم حكم القُبْلة، وهى أشد وأخوف. إكمال المعلم (4/ 44).
وقال الكاساني -رحمه الله-:
ولا بأس للصائم أن يقبِّل ويباشر إذا أَمِنَ على نفسه ما سوى ذلك...
وروي عن أبي حنيفة أنه كَرِهَ المباشرة، ووجه هذه الرواية: أن عند المباشرة لا يؤمَن على ما سوى ذلك ظاهرًا وغالبًا بخلاف القُبلة، وفي حديث عائشة -رضي الله عنها- إشارة إلى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان مخصوصًا بذلك؛ حيث قالت: «وكان أمْلَكَكم لإربه». بدائع الصنائع (2/ 106- 107).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
فيه: جواز القُبلة والمضاجعة لمن يملك نفسه، وقال مالك: يُكره مطلقًا؛ لأن عمر قال: «رأيتُ رسول الله في المنام، فأعرض عني، فقلتُ: ما لي؟ فقال: إنك تُقبِّل وأنت صائم». الأزهار مخطوط لوح (217).
قوله: «ولكنهُ أَملَكُكُم لِإِربِهِ»:
قال الأزهري -رحمه الله-:
في حديث عائشة: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمْلَكَكُم لإِرْبِه» أرادت: لحاجته، أي: أنه كان يملك نفسه وهواه، وكان غالبًا لهما. تهذيب اللغة (15/ 185).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قول عائشة: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أَمْلَكَكُم لأِرْبِه» أكثر الرواة يقولون: «لإِرْبِه»، والإِرْبُ: العضو، وإنما هو الأَرَب، مفتوحة الألف والراء، وهو الوَطَر، وحاجة النفس، وقد يكون الإِرب الحاجة أيضًا، والأول أبين. غريب الحديث (3/ 223)
وقال النسفي -رحمه الله-:
«وكان أَمْلَكَكُم لإِرْبِهِ» الألف للتفضيل، والكاف منصوبة؛ لأنه خبر (كان) أي: أَقْدَركم لإرْبه بكسر الهمزة، وتسكين الراء، أي: لعضوه ولحاجته أيضًا فهو اسم لهما جميعًا، أي: كان يملك حِفْظ عضوه عن الإنزال، وعن الوقوع في المواقعة، وكان يقدر على الامتناع عن حاجة الرجال، وفي رواية: «لأَرَبِه» بفتح الهمزة والراء، وهو الحاجة، ومعناه ما مر. طلبة الطلبة (ص: 24).
وقال الماوردي -رحمه الله-:
«وكان أَمْلَكَكُم لإِرْبِهِ» بتسكين الراء، وروي «لأَرَبه» بفتحها، وفيه تأويلان:
أحدهما: أرادت العضو نفسه.
والثاني وهو أصح: إنها أرادت شهوته. الحاوي الكبير (3/ 439).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
حَمْله على العضو في هذا الحديث غير سديد، ولا يَغتر به إلا جاهل بوجوه حسن الخطاب، مائل عن حسن الأدب، ونهج الصواب. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 467).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
فإن قيل: كأنَّ حاجة الإنسان يملكها، فإنه لو قيل: فأمذى وأنزل لم يكن رد هذا إليه، ولا ملك له عليه.
فالجواب: إنَّ اللمس والتقبيل يُخاف منه دعاء النفس إلى غيره، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مالكًا لنفسه، لا يمكنها أن تدعوه إلى ما لا يجوز له، ولعله كان يخطر على قلبه عند التقبيل نوع من المراقبة فتبقى صورة التقبيل ويمتنع المخوف منه. كشف المشكل (4/ 317- 317).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
ومعنى قول عائشة: «ولكنه أَمْلَكَكُم لإِرْبِهِ» أنَّه ينبغي لكم الاحتراز عن ذلك، ولا تتوهموا أنكم مثل النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- في استباحته؛ لأنه يملك نفسه، ويأمن الوقوع في قُبلة أو مباشرة يتولد منها إنزال أو شهوة وهيجان نفس أو نحوها، وأنتم لا تأمنون ذلك.
وفيه أيضًا: جواز الإِخبار عن مثل ذلك مما يجري بين الزوجين للحاجة، وأما في غيرها فمنهي عنه. فتح العلام (ص: 348).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وفيه: أنَّ فِعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كله يحسن التأسي به فيه على كل حال، إلا أن يخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه له خاصة، أو ينطق القرآن بذلك، وإلا فالاقتداء به أقل أحواله أن يكون مندوبًا إليه في جميع أقواله، ومن أهل العلم من رأى أن جميع أفعاله واجب الاقتداء بها كوجوب أوامره...، والدليل على أن أفعاله كلها يحسن التأسي به -صلى الله عليه وسلم- فيها: قول الله -عز وجل-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الأحزاب: 21، فهذا على الإطلاق، إلا أن يقوم الدليل على خصوص شيء منه فيجب التسليم له، ألا ترى أن الموهوبة لما كانت له خاصة نطق القرآن بأنها خالصة له من دون المؤمنين؟. التمهيد (3/ 531- 532).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم:
1. ما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من إرهاف العاطفة نحو أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين.
2. وأن رسالته وجدِّيته شيء ومداعبته لأزواجه شيء آخر، فهو في بيته بشر يشتهي ما يشتهيه البشر، بل في درجات البشرية العليا.
3. أن القُبلة من حق الزوجة على زوجها، وعليه أن يعفّها ويملأ عاطفتها بالمداعبة ومقدمات النكاح.
4. جواز الإخبار عن مثل هذا مما يجري بين الزوجين على الجملة للضرورة...
5. أنه لا حياء في الدِّين...، والله أعلم. فتح المنعم (4/ 546).
وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا)