«ما بينَ بيتي ومِنْبَري روضةٌ من رِياضِ الجنةِ، ومِنْبَري على حَوْضي».
رواه البخاري برقم: (1196)، ومسلم برقم: (1391)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«رَوْضَةٌ»:
الرَّوضة: الأرض المخضرّة بالنبات. كشف المشكل، لابن الجوزي (2/ 192).
وقال ابن سيده -رحمه الله-:
الرَّوضة: الأرض ذات الخُضرة، والرَّوضة: البُستان الحسن. عن ثعلب: والرَّوضة الموضع يجتمع إليه الماء؛ يكثر نبته، ولا يُقال في موضع الشَّجر روضة. وقيل: الرَّوضة: عشب وماء، ولا تكون روضة إلا بماء معها أو إلى جنبها. المحكم(8/٢٤٥).
شرح الحديث
قوله: «ما بينَ بيتي ومِنْبَري روضةٌ من رِياضِ الجنةِ»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «بيتي» أحد بيوته لا كُلُّها، وهو بيت عائشة الذي صار فيه قبره، وقد ورد الحديث بلفظ: «ما بين المنبر وبيت عائشة روضة من رياض الجنة» أخرجه الطبراني في الأوسط. فتح الباري (4/ 100).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال الطبري: وقوله: «ما بين بيتي ومنبري» يحتمل معنيين: أحدهما: بين بيتي الذي أسكنه، وذلك أظهر معنييه؛ لأن المتعارف من كلام الناس بينهم إذا قال قائل: فلان في بيته أنه يعني به بيته الذي يسكنه.
والوجه الثَّاني: قاله زيد بن أسلم، قال: بيته في هذا الحديث هو قبره، ويؤيِّد هذا القول رواية مَن روى: «ما بين قبري ومنبري». قال الطبري: إذا كان قبره في بيت من بيوته، كان معلوم بذلك أن الرِّوايات وإن اختلفت ألفاظها صحيحة؛ لأن معانيها مُتَّفِقة؛ لأن بيته الذي فيه قبره هو حُجْرة من حُجَره، وبيت من بيوته، وهو قبره أيضًا، وبيته بعد وفاته، فبَيْنَ بيته، الذي فيه قبرهُ، وحُجرته التي فيها جسدهُ، روضة من رياض الجنة.. شرح صحيح البخاري (3/ 183- 184).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
«ما بين بيتي ومنبري» وفي رواية: «قبري ومنبري»، وفي رواية عند الطبراني: «ما بين حجرتي ومصلاي» والمؤدَّى واحد؛ لأن قبره -صلى اللَّه عليه وسلم- في بيته، وبيته حجرة أُمِّ المؤمنين عائشة -رضي اللَّه عنهما-، وهي حجرته ومُصلَّاه، أي: موضع صلاته عند منبره، وليس المراد بالمصلَّى مصلَّى العيد الذي هو خارج المدينة في جانب طريق مكة بقرينة باقي الرِّوايات، وقد حمله بعضهم عليه، وقد نُقِلَ أن سعد بن أبي وقاص -رضي اللَّه عنه- بنى بيتًا بينه وبين المسجد بعد سماع هذا الحديث. لمعات التنقيح (2/ 452).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «روضة من رياض الجنة» أي: كروضة من رياض الجنة في نزول الرَّحمة وحصول السَّعادة بما يحصل من مُلازمة حِلَق الذِّكر لا سيما في عهده -صلى الله عليه وسلم-، فيكون تشبيهًا بغير أداة، أو المعنى: أن العبادة فيها تؤدِّي إلى الجنة فيكون مجازًا، أو هو على ظاهره، وأن المراد أنه روضة حقيقة بأن ينتقل ذلك الموضع بعينه في الآخرة إلى الجنة، هذا محصل ما أوَّله العلماء في هذا الحديث، وهي على ترتيبها هذا في القوَّة...ونقل ابن زبالة: أن ذَرْعَ ما بين المنبر والبيت الذي فيه القبر الآن ثلاث وخمسون ذراعًا، وقيل: أربع وخمسون وسدس، وقيل: خمسون إلا ثلثي ذراع، وهو الآن كذلك، فكأنه نقص لَمَّا أُدخِل من الحجرة في الجدار. فتح الباري (4/ 100).
وقال ابن قتيبة -رحمه الله-:
لم يَرِدْ بقوله: «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة» أن ذلك بعينه روضة، وإنما أراد أن الصَّلاة في هذا الموضع، والذِّكر فيه، يؤدِّي إلى الجنة، فهو قطعة منها، ومنبري هذا هو على تُرْعَةٍ من تُرَعِ الجنة، والتُّرْعة باب المشرعة إلى الماء، أي: إنما هو باب إلى الجنة. تأويل مختلف الحديث (ص:189).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «روضة من رياض الجنة»:
قال ابن أبي جمرة من كبار علماء المالكية -رحمهم اللَّه-: يحتمل أن يكون عين هذه البقعة روضة من رياض الجنة، أُنزلت منها إلى المسجد، كما ورد في الحجر الأسود ومقام إبراهيم، وبعد قيام الساعة يُنقل إلى مقامه الأصلي. ونزول الرَّحمة واستحقاق الجنة من لوازم ذلك، فكما أن الرُّتبة الخليلية الإبراهيمية اقتضت الاختصاص بحجرٍ من الجنة اقتضت الدَّرجة الحبيبية المحمدية بروضة منها، وشتَّان ما بينهما، ولو رُئِيَ في العين الظَّاهر مثل سائر الأراضي الدُّنيوية لم يبعد؛ لأن الإنسان ما دام محجوبًا بالحجب الكثيفة الطبيعية والأحكام العادية البشريَّة لم ينكشف عليه حقائق الأشياء، ولم يدركِ الأمور الأخرويَّة، وقد ورد: «أُحُد جبل من جبال الجنَّة»، ولم يقل أحدٌ: إن العبادة في جوار أُحُد توصل إلى النَّعيم. فإن قال قائل: لو كان من الجنَّة لثبت خواصها ولوازمها فيه من عدم الجوع والظَّمأ ونحوهما؟
فالجواب: أن تلك الخصائص واللوازم انفكَّتْ بعد خروجه منها، كما في الحَجر الأسود.
وإن قيل: أمثال هذه الأمور لا يثبت إلا بسماع وإخبار من الشَّارع، وقد وردت الدَّلائل والشَّواهد في الرُّكن والمقام؟
قلتُ: كفى دليلًا وشاهدًا على ذلك ورود هذا الحديث الصَّحيح المُتَّفق عليه، ولو قاموا في مقام التَّأويل فكلا الخبرين يصلح للتَّأويل، ولو حملوا على الحقيقة فهي ثابتة فيهما، فما الفرق؟! لمعات التنقيح (2/452 ـــ 453).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
الكلام محمول على الحقيقة عند المحقِّقِين، فإن الجنَّة مخلوقة، وفي البخاري: «إني أنظر إلى حوضي الآن»؛ ومعناه: أن لو أزيل حاجز الأرض كان منبره على جنب حوضه؛ كما دلَّ عليه قوله: «إني لأنظر إلى حوضي»، أو يجعل ذلك التُّراب، الذي بين بيته ومنبره، روضته.
وذهب بعض العلماء إلى أنّ الكلام مجاز؛ والمعنى: أن العبادة في ذلك المكان موصِّلة إلى رياض الجنة.
ومنبره هذا الذي كان يخطب عليه يُنصب له يوم القيامة على جانب الحوض، ويجلس عليه حتى تَرِد عليه أُمَّته، غايته أن الله يزيد في ذلك المنبر ما يليق بجلالة قدرِ صاحب المنبر -صلى الله عليه وسلم-. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (3/ 240).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
اختلف الناس في تأويل قول النبي -صلي الله عليه وسلم-: «ما بين بيتي ومنبري»، وروي: «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة» فقال قوم: معناه: أن البقعة تُرفع يوم القيامة فتُجعل روضة في الجنَّة، وقال آخرون: هذا على المجاز.
كأنهم يعنون أنه لَمَّا كان جلوسه وجلوس الناس إليه يتعلَّمون القرآن والإيمان والدِّين هناك شُبِّه ذلك الموضع بالرَّوضة؛ لكريم ما يجتنى فيه. وأضافها إلى الجنة؛ لأنها تقود إلى الجنة، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «الجنة تحت ظلال السُّيوف»؛ يعني أنه عمل يوصل به إلى الجنة، وكما يقال: الأُمُّ باب من أبواب الجنة، يريدون أن بِرَّها يُوصِّل المسلم إلى الجنة مع أداء فرائضه، وهذا جائز سائغ مستعمل في لسان العرب، والله أعلم بما أراد من ذلك. التمهيد (2/ 319).
وقال ابن حزم -رحمه الله-:
وهذان الحديثان (يعني: حديث: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة»، وحديث: «سيحان، وجيحان، والفرات، والنيل، كل من أنهار الجنة») ليس على ما يظنُّه أهل الجهل من أن تلك الرَّوضة قطعة منقطعة من الجنة، وأن هذه الأنهار مهبطة من الجنة، هذا باطل وكذب؛ لأن الله -تعالى- يقول في الجنة: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} طه: 118- 119، فهذه صفة الجنة بلا شكَّ، وليست هذه صفة الأنهار المذكورة ولا تلك الرَّوضة، ورسول الله -عليه السلام- لا يقول إلا الحقَّ.
فصحَّ أن كون تلك الرَّوضة من الجنة إنما هو لفظها، وأن الصَّلاة فيها تؤدِّي إلى الجنة، وأن تلك الأنهار لبركتها أضيفت إلى الجنة، كما تقول في اليوم الطيب: هذا من أيام الجنة؛ وكما قيل في الضَّأن: إنها من دواب الجنة، وكما قال -عليه السلام-: «إن الجنة تحت ظلال السُّيوف».
، فهذا في أرض الكفر بلا شكٍّ، وليس في هذا فضل لها على مكة، ثم لو صحَّ ما ادعوه وظنَّوه لَمَّا كان الفضل إلا لتلك الرَّوضة خاصة لا لسائر المدينة، وهذا خلاف قولهم..المحلى بالآثار (5/ 3302).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
عندي الأَوْلَى حمل الحديث على ظاهره؛ لأن حمل النُّصوص على ظاهر ما دلَّت عليه، ويتبادر إلى الذِّهن إذا أمكن هو المتعيّن، ثم هو مع ذلك لا ينافي المعاني الأُخَر، بأن يقال: هو روضة من رياض الجنة حقيقة، وهو محلُّ نزول الرَّحمة، وأن العبادة فيه تُوْصِل إلى الجنة، فتأمَّلْ. [البحر المحيط الثجاج (24/ 673).
قوله: «ومِنْبَري على حَوْضي»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «ومنبري على حوضي» قيل: يحتمل أن منبره بعينه الذي كان في الدنيا، وهو أظهر وعليه أكثر الناس، وأنكر كثير منهم غيره، وقيل: إن له هناك منبرًا على حوضه، وقيل: إنَّ قصد منبره والحضور عنده لملازمة الأعمال الصالحة، يُورِدُ الحوض والشُّرب منه. إكمال المعلم (4/ 509).
قال ابن حجر -رحمه الله-:
وأمَّا قوله: «ومنبري على حوضي» أي: يُنقل يوم القيامة فينصب على الحوض، وقال الأكثر: المراد منبره بعينه الذي قال هذه المقالة وهو فوقه، وقيل: المراد المنبر الذي يوضع له يوم القيامة، والأوَّل أظهر، ويؤيِّده حديث أبي سعيد المتقدِّم، وقد رواه الطبراني في الكبير من حديث أبي واقد الليثي رفعه: «إن قوائم منبري رواتب في الجنة». وقيل: معناه: أنَّ قصد منبره والحضور عنده لملازمة الأعمال الصالحة يُورِد صاحبه إلى الحوض، يقتضي شربه منه، والله أعلم. فتح الباري(4/ 100).
وقال العيني -رحمه الله-:
حمل كثير من العلماء الحديث على ظاهره فقالوا: يُنقل ذلك الموضع بعينه إلى الجنة، كما قال تعالى: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} الزمر: 74، ذكر أن الجنة تكون في الأرض يوم القيامة، ويحتمل أن يريد به أن العمل الصالح في ذلك الموضع يؤدِّي صاحبه إلى الجنة، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «ارتعوا في رياض الجنة» يعني: حِلَق الذِّكر والعلم لَمَّا كانت مؤدِّية إلى الجنة، فيكون معناه التَّحريض على زيارة قبره -صلى الله عليه وسلم- والصَّلاة في مسجده، وكذا: «الجنة تحت ظلال السُّيوف». عمدة القاري (7/ 261- 262).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «ومنبري على حوضي» يعني: مَن آمن بكون منبري حقًّا، وكون ما يسمع منّي على منبري حقًّا، ويعمل به، يَرِد عليَّ على حوض الكوثر، ومَن لم يكن بهذه الصِّفة، لم يَرِد عليَّ على حوضي. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 63).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«ومنبري على حوضي» أي: على حافته، وقد روي: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «ومنبري على تُرْعَة حوضي»، وهذا يدلُّ على أن يكون له -صلى الله عليه وسلم- في الآخرة منبر، ويجوز أن يُراد به: منبره في الدُّنيا. وفيه تنبيه على استمداده من الحوض الزَّاخر النبوي، وقيل: فيه تنبيه على مناسبة بينهما من حيث إن المنبر مورد القلوب الصَّادية في بيداء الجهالة، كما أن الحوض مورد الأكباد الظَّامئة من حرِّ يوم القيامة، وأن كلًّا منهما متعلِّق بالآخر، لا مطمع لأحد في الآخر دون الاتِّعاظ بالأوَّل، فمَن شهد المنبر مستمعًا اليوم يشهد الحوض غدًا. شرح المصابيح (1/ 419- 420).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وأمَّا قوله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث: «ومنبري على حوضي» فزعم بعض أهل الكلام في معاني الآثار أنه أراد -والله أعلم-: أن له مِنْبَرًا يوم القيامة على حوضه -صلى الله عليه وسلم-، كأنه قال: ولي أيضًا على حوضي أدعو الناس إلى الحوض عليه؛ لأن منبره ذلك على حوضه.
وقال آخرون: يحتمل أن يكون الله تعالى يُعيد ذلك المنبر بعينه، فيكون يومئذٍ على حوضه، والقول الأوَّل أَوْلَى، والله أعلم. الاستذكار (2/ 465).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وقد استدلَّ أصحابنا على أن المدينة أفضل من مكة بهذا الحديث، وركَّبُوا عليه قوله -صلى الله عليه وسلم-: «موضع سوط في الجنة خير من الدُّنيا وما فيها»، وهذا لا دليل فيه على شيء مما ذهبوا إليه؛ لأن قوله هذا إنما أراد به ذمَّ الدُّنيا والزُّهد فيها، والتَّرغيب في الآخرة، فأخبر أن اليسير من الجنة خير من الدُّنيا كُلِّها، وأراد بذكر السَّوط -والله أعلم- التَّقليل، لا أنه أراد موضع السَّوط بعينه، بل موضع نصف سوط وربع سوط من الجنة الباقية خير من الدُّنيا الفانية...التمهيد (2/ 320).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة»، لم يثبت خبر عن بقعة أنها من الجنة بخصوصها إلا هذه البقعة المقدَّسة. إرشاد الساري (2/ 347).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وفيه الحثُّ على البقاء في روضته. التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 370).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
وهذا يدلُّ على فضل الرَّوضة؛ فيُشرع أن يصلِّي ويذكر الله، ولكن لا يبقى فيها وقت الصَّلاة، ويترك الصُّفوف المقدَّمة. الحلل الإبريزية (1/ 360).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وينبغي أن يتحرَّى الصَّلاة في الرَّوضة إن تيسَّر له من أجل فضيلتها، وإن لم يتيسَّرْ له صلّى في أي جهة من المسجد تتيسَّر له، وهذا في غير صلاة الجماعة، أمَّا في صلاة الجماعة فليحافظ على الصَّفِّ الأوَّل الذي يلي الإمام؛ لأنه أفضل. مجموع الفتاوى (24/ 344).
وقال الشيخ عبد العزيز الراجحي -رحمه الله-:
وقوله: «ومنبري على حوضي» قيل: حوض النبي -صلى الله عليه وسلم- طوله مسافة شهر، ويمتدُّ من أرض الشَّام إلى المدينة، فيكون منبره جزءًا من حوضه، وحوض النبي -صلى الله عليه وسلم- في موقف القيامة يُصبُّ فيه ميزابان من نهر الكوثر. توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (3/ 672).