«عليكم باصطِناعِ المعروفِ، فإنَّه يمنعُ مصارعَ السُّوءِ، وعليكم بصدقةِ السِّرِّ، فإنَّها تُطفِئُ غضبَ الله -عزَّ وجلَّ-».
رواه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج برقم: (6)، وفي اصطناع المعروف برقم: (6)، وقوام السنة في الترغيب والترهيب برقم: (315)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.
صحيح الجامع برقم: (4052).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«باصطِناع»:
الاصطِناع: اتِّخاذُ الصَّنيعِ. النهاية، لابن الأثير (1/ 215).
قال الواحدي -رحمه الله-:
الاصطِناع: اتِّخاذُ الصَّنيعةِ، وهي: الخيرُ تُسديه إلى الإنسانِ، وهذا افتعالٌ من الصّنعِ. التفسير البسيط (14/ 405).
«المعروف»:
اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما عُرفَ من طاعةِ اللهِ، والتَّقرب إليه، والإحسان إلى الناس، وكلِّ ما نَدبَ إليه الشَّرعُ، ونهى عنه من المحسِّناتِ والمقبِّحات.. النهاية، لابن الأثير (3/ 216).
وقال الراغب الأصفهاني -رحمه الله-:
المَعروف: اسمٌ لكلِّ فِعلٍ يُعرفُ بالعقلِ أو الشَّرعِ حُسنُه. المفردات (ص:561).
شرح الحديث
قوله: «عَليكُم باصطِناعِ المَعروفِ»:
قال موسى شاهين -رحمه الله-:
«عليكم» اسم فعل أمرٍ بمعنى: الزموا، والباء زائدة داخلة على المفعول به، ومثلها كثير في الأحاديث الصحيحة، كقوله: «عليكم برُخصةِ الله»، «فعليه بالصَّوم»، «عليكم بقيام الليل»، وقد لا تزاد كقوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} المائدة: 105. المنهل الحديث (1/ 147).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«عليكم» اسم فعل أمر مركبٌ من الجارِّ والمجرور؛ بمعنى: الزموا، مبنيّ على السكون؛ لشبهه بالحرف شَبَهًا استِعمالِيًّا، وفاعله: ضمير مستترٌ فيه وجوبًا؛ لعوده إلى المخاطبين، تقديره: أنتم. مرشد ذوي الحجا والحاجة (24/ 138).
وقال الميداني -رحمه الله-:
«باصطِناع المعروف» يقال: صنع معروفًا، واصطنعَ كذلك في المعنى. مجمع الأمثال (1/ 408).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«عليكم باصطِناع المعروف» مع كل بَرٍّ وفاجرٍ. فيض القدير (4/ 347).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«عليكم باصطِناع المعروف» إلى كُلِّ أحدٍ من بني آدم، بل وإلى سائر الحيوانات، فإنَّ امرأةً دخلت النار في هِرّةٍ، وزانيةً دخلت الجنة في إحسانها إلى كلبٍ. التنوير (7/ 310).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
«اصطِناع المعروف» إلى العباد كافَّة بالأقوال والأفعال، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «لا تحقِرنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طَلِق». التنوير (7/ 64).
وقال المناوي -رحمه الله-:
المعروف هنا: يعود إلى مكارم الأخلاق مع الخلقِ والمواساة. التيسير (2/ 173).
وقال أبو منصور الثعالبي -رحمه الله-:
إنما سُمِّي المعروفُ معروفًا؛ لأن الكرام عرفت فضله فأتته. التمثيل والمحاضرة (ص:423).
وقال نجم الدين الغزي -رحمه الله-:
اصطِناع المعروف على أنواعٍ: كالقرض، وقيادة الأعمى، وإسماع الأصم، ومُساعدة المسلم على حمل حاجته، وقضائها، وتحميل دابته، وإمساك الرِّكاب له، ونحو ذلك. حسن التنبه لما ورد في التشبه (2/ 383).
قوله: «فإنَّه يمنعُ مصَارع السُّوءِ»:
قال الزرقاني -رحمه الله-:
«تقي مصارع السُّوء» أي: تكون سببًا لوقايته، فالإسناد مجازيٌّ، والصَّرع في الأصل: الطّرحُ على الأرض، لكنه استعمل هذا في مطلق الوصول تجريدًا، وهذا تنويهٌ عظيمٌ بفضل المعروف وأهله. شرح المواهب اللدنية (5/ 390).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«تقي» أي: تدفع... «مصارع السوء» أي: تدفع ذلك، وهو جمع مصرع، ما يصرع الإنسان فيه. التنوير (6/ 201).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
«تقي مصارع» أي: مهالك «السُّوء» أي: تحفظ منها. السِّراج المنير (2/ 98).
وقال ابن بسام -رحمه الله-:
وليعلم أنَّ اصطِناع المعروفِ يُكافِئ الْمَرء في سمعِه وبصره، ويلقاه في طريقه، ويحول بينه وبين محاربه، ويجازيه في أهله وولده، ويصحبُه في اغترابه عن بلده. الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة (7/ 10).
قوله «وعليكم بصدقة السِّر»:
قال محمود صافي -رحمه الله-:
«عليكم» اسم فعل أمر بمعنى: الزموا مبنيٌّ، والفاعل ضميرٌ مستترٌ تقديره: أنتم. الجدول في إعراب القرآن (4/ 42).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«صدقة السِّر» إضافة المصدر إلى مفعوله، أي: صدقة الرّجل في السِّر. التنوير (4/ 8).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«صدقة السِّر» والسِّر: ما لم يطّلع عليه إلا الحقّ تعالى؛ وذلك لأن إسراره دليلٌ على إخلاصه لمشاهدة ربه، وهي درجة الإحسان، وفي القرآن: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} الأعراف: 56. فيض القدير(4/ 206).
وقال الدمياطي -رحمه الله-:
«صدقة السِّر» إن أظهرها الْمُقتدَى به ليُقتدَى به، ولم يقصد نحو رياء، ولا تأذَّى به الآخذ، كان أفضل، وجعل بعضهم من الصدقة الخفيَّة: أن يبيع مثلًا ما يساوي درهمين بدرهم. إعانة الطالبين (2/ 238).
وقال النووي -رحمه الله-:
هذا في صدقة التطوع، فالسِّر فيها أفضل؛ لأنه أقرب إلى الإخلاص، وأبعد من الرِّياء، وأما الزكاة الواجبة فإعلانها أفضل، وهكذا حكم الصلاة فإعلان فرائضها أفضل، وإسرار نوافلها أفضل؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة». المنهاج (7/ 122).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله- مُعلقًا:
ولست مع الإمام النووي في قياس الزكاة في السِّرِّيَّة والجهرية على الصلاة، فالصلاة بين العبد وربِّه، أما الزَّكاة فبين العباد أخذٌ وعطاءٌ، ثم إن الصلاة قيِّدت بنصوص، فلزم العمل بها، أما الزكاة، فالنصوص على أن الإخفاء عامة مطلوب، حتى النصوص التي لم تُصَرِّح بأفضلية السِّرِّ أشارت إلى أفضليته، فقوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} البقرة : 274، قدم فيه الليل على النهار، والسِّرّ على العلن لأهمية الْمُقدَّم، ولولا أن فريضة الصلاة طُلب لها الجماعة فربما كانت في السِّر أفضل، ولا كذلك الزكاة، ثم إن الصدقات في عمومها حيث لا مخصّص تشمل الواجبة والنافلة، والتعبير الشرعي عن الزكاة بالصدقة هو الشائع والمشهور، نعم نقل الطبري وغيره الإجماع على أنَّ الإعلان في صدقة الفرض أفضل من الإخفاء، وصدقة التطوع على العكس من ذلك، ونقل الزجاج أنَّ إخفاء الزكاة في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- أفضل، فأما بعده فإنَّ الظن يُسَاءُ بمن أخفاها؛ فلهذا كان إظهار الزكاة المفروضة أفضل. فتح المنعم (4/ 373).
وقال ابن عطية -رحمه الله-:
ويشبه في زمننا أنْ يحسن التستر بصدقة الفرض، فقد كثر المانع لها، وصار إخراجها عُرضة للرياء. المحرر الوجيز (1/ 362).
وقال ابن حجر -رحمه الله- مُعلِّقًا:
وأيضًا فكان السلف يعطون زكاتهم للسُّعاة، وكان من أخفاها اتُّهِم بعدم الإخراج، وأما اليوم فصار كل أحد يخرج زكاته بنفسه، فصار إخفاؤها أفضل -والله أعلم-.
وقال الزين ابن المنير: لو قيل: إنَّ ذلك يختلف باختلاف الأحوال؛ لما كان بعيدًا، فإذا كان الإمام مثلًا جائرًا ، ومال مَن وجبت عليه مخفيًّا، فالإسرار أولى، وإنْ كان المتطوع ممن يُقتدى به، ويُتَّبَع، وتنبعث الهمم على التطوع بالإنفاق، وسلم قصده، فالإظهار أولى -والله أعلم-. فتح الباري (3/ 289).
وقال أبو عبد الله القرطبي -رحمه الله-:
والتحقيق فيه: أنَّ الحال في الصدقة تختلف بحال المعطي لها، والمعطى إياها، والناس الشاهدين لها، أما المعطي فله فيها فائدة إظهار السُّنة، وثواب القدوة.
قلتُ: هذا لمن قَوِيَتْ حاله، وحسُنت نِيَّتُهُ، وأَمِنَ على نفسه الرياء، وأما من ضعُفَ عن هذه المرتبة فالسِّرُّ له أفضل، وأما المعطى إياها، فإن السِّرَّ له أسلم من احتقار الناس له، أو نسبته إلى أنه أخذها مع الغنى عنها، وترك التعفف، وأما حال الناس فالسِّر عنهم أفضل من العلانية لهم، من جهة أنهم ربما طعنوا على المعطي لها بالرياء، وعلى الآخذ لها بالاستغناء. الجامع لأحكام القرآن (3/ 334).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
الأصل فيما يُنفق ويتصدق به أن يكون سرًا، ولكن أحياناً يكون الإنفاق في العلن أفضل، مثل أنْ يكون الإنفاق في شيءٍ عام، فالإعلان هُنا أفضل ليكون الإنسان قُدوةً يقتدى به الناس، وليدفع اللَّوْمَ عن نفسه، ولأنه إذا أَعلن هذا لا محظور فيه بخلاف مَن يتصدقَ على شخصٍ مُعين فإن إعلان الصَّدقة عليه قد يكون فيها كسرٌ لقلبه وإهانةٌ له فالمهم أن الإنفاق والصدقة تكون سرًا، وتكون علانية، والأفضل السِّرُّ، ما لم يكن في الإعلان مصلحة.فتاوى نور على الدرب(10/2).
وقال سليمان الجمل -رحمه الله-:
ليس المراد بالسِّر فيما يظهر: ما قابل الجهر فقط، بل المراد: أن لا يعلم غيره بأنَّ هذا المدفوع صدقة، حتى لو دفع لشخص دينارًا مثلًا، وأوهم من حضره أنه عن قرض عليه، أو عن ثمن مبيع مثلًا، كان من قبيل دفع الصدقة سرًّا، لا يُقال: هذا ربّما امتنع لما فيه من الكذب؛ لأنا نقول: هذا فيه مصلحة، وهي البعد عن الرّياء أو نحوه، والكذب قد يُطلب لحاجة، أو مصلحة، بل قد يجب لضرورة اقتضته. ا. هـ. فتوحات الوهاب بتوضيح شرح منهج الطلاب (4/ 112).
قوله: «فإنها تُطفِئُ غَضَبَ الله»:
قال العزيزي -رحمه الله-:
«تُطفِئُ غضبَ الرّبِّ» أي: تمنع عقابه عمّن استحقه {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} هود: 114. السِّراج المنير (3/ 257).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«تُطفِئُ غضبَ الرَّبِّ» شبَّه الغضب بالنار، وأثبت له الإطفاء. التنوير (4/ 8).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
«تُطفِئُ غضب الرّبِّ» أي: تكون سببًا لذلك، فيحتمل ممن أغضب ربه بمعصية أن يتدارك ذلك بصدقة السِّرِّ. التنوير (6/ 580).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
«تُطفِئُ غضب الله -عز وجل-» قد ثبت هذا التعليل لمطلق الصدقة...، فأما أن يقال: يُحمل المطلق على المقيد، وهو بعيد هنا، أو يقال: المراد أن هذه أكثر إطفاءً. التنوير (7/ 310).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«تُطفِئُ غضب الربّ» يُمكن حمل إطفاء الغضب على المنع من إنزال المكروه في الدنيا، ووخامة العاقبة في العُقبى؛ من إطلاق السَّبب على الْمُسبّب، كأنّه نفى الغضب، وأراد الحياة الطيّبة في الدنيا، والجزاء الحَسَن في العُقبى. فيض القدير (4/ 193).
وقال الدمياطي -رحمه الله-:
«تُطفِئُ غضب الربِّ» وأيُّ شيءٍ أعظم من غضبه -سبحانه وتعالى-؟! وما أطفأتهُ صدقة السِّر إلا لعِظمها عند الله -سبحانه وتعالى-. إعانة الطالبين (2/ 237-238).
وقال الصرصري -رحمه الله-:
الغضب يُستعمل فيه الإطفاء، يقال: طفئ غضب فلان، وانطفأ غضبه؛ لأنَّه في الشاهد فَوَرَانُ دم القلب عن غلبة الحرارة؛ ولعله إنما خصَّ الصدقة لتعدِّي نفعها؛ ولأن الخلق عيالُ الله -عز وجل-، والصدقة إحسان إليهم، والعادة أن الإحسان إلى عيال شخصٍ يُطفِئ غضبه. التعيين في شرح الأربعين (1/ 222).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
ولن يُتقرَّب إلى الله بعد الفرائض بمثل الصدقات؛ فإنها تُطفِئُ غضب الله، وتصرف من مصارع السُّوء -إن شاء الله-. الاستذكار (1/ 533).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
الغضب من صفات الله الثابتة له بالكتاب والسنة وإجماع السلف.تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد (ص: 56).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
إثبات صفة الغضب لله تعالى، وغضب الله -سبحانه وتعالى- صفةٌ من صفاته؛ لكنها لا تُماثل صفات المخلوقين؛ فنحن عندما نغضب تنتفخ الأوداج مِنا، ويَحمر الوجه، ويقفُّ الشعر، ويفقدُ الإنسان صوابه، وهذه العوارض لا تكون في غضب الله؛ لأن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} الشورى: 11؛ بل هو غضبٌ يليق بالله -عزّ وجلّ-، دالٌّ على كمال عظمته، وسلطانه؛ وإذا قلنا بهذا، وسلَّمنا أنَّ الغضب صفة حقيقية برئت بذلك ذمَّتُنا، وصِرْنا حسبَ ما أمر الله به، ورسوله. تفسير الفاتحة والبقرة (1/ 220).
قوله: «عَزَّ وجَلَّ»:
قال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
«عزَّ وجَلَّ» يعني: متصفًا بالعزّة والجلال والعظمة، فله العِزَّة الكاملة، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} المنافقون: 8، يعني: القهر والغلبة والقوة، وكذلك «جَلَّ» أي: متّصف بالجلال والعظمة والكبرياء -سبحانه وتعالى-. فتاوى نور على الدرب (1/ 167).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
ومعنى «عزَّ» اتَّصف بجميع الكمالات، و«جلَّ» تنزَّه عن جميع النقائص؛ لأن العزة من صفات الجمال، والجلالة من صفات الجلال. الكوكب الوهاج (2/ 190).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
إنّ الصدقة تَحمي صاحبها من السُّوء، وتُطفئ غضب الربِّ، وتُكفر الخطيئة، وتقي من النار، وفي الصحيح «اتقوا النار ولو بشق تمرة».المنهل الحديث(2/١٥٨).