«الحلالُ بيِّنٌ والحرامُ بيِّنٌ، وبينهما مُشَبَّهاتٌ لا يعلمُها كثيرٌ من الناسِ، فمن اتَّقى الـمُشَبَّهاتِ استبرأَ لدينِهِ وعِرْضِهِ، ومَن وقعَ في الشُّبهاتِ: كَرَاعٍ يرعى حولَ الحِمَى، يُوشِكُ أنْ يُواقِعَه، أَلَا وإنَّ لكلِّ مَلِكٍ حِمَىً، ألا إنَّ حِمَى اللهِ في أرضِهِ محارمُهُ، ألا وإنَّ في الجسدِ مُضْغَةٌ إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجسدُ كلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجسدُ كلُّهُ، ألا وهي القلبُ».
رواه البخاري برقم: (52) واللفظ له، ومسلم برقم: (1599)، عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«بيِّنٌ»:
أي: ظاهِر واضح الأدلة. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (1/296).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«بيِّن» بِزِنَةِ لَيِّن، أي: واضح لا لَبْسَ فيه ولا خفاء. التنوير شرح الجامع الصغير (5/442).
«مُشَبَّهات»:
بضم الميم، وفتح الشين، وفتح الباء الموحَّدة المشددة. عمدة القاري (1/297).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«مُشَبَّهَات»: أي: التي يَتَجَاذَبُها دليلان بحيث يعسر الترجيح. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (1/296).
«اسْتَبْرَأَ»:
بالهمز بوزن اسْتَفْعَلَ، مِن البراءة. فتح الباري (1/127).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
«اسْتَبْرَأَ»: أي: احتاط لنفسه. النهاية(3/209).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«اسْتَبْرَأَ» أي: طلب الطهارة لدِينه وعِرضه. المفاتيح في شرح المصابيح (3/388).
«وعِرْضه»:
العِرْضُ: بكسر أوَّله وسكون ثانيه، وجمعه: أعراض. فتح الباري (1/155).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
العِرْض: موضع المدح والذم من الإنسان، سواء كان في نفسه أو في سَلَفِه، أو من يلزمه أَمْرُه، وقيل: هو جانِبُه الذي يصونه من نفسه وحَسَبِهِ، ويحامي عنه أن ينتقص ويُثْلَب. النهاية في غريب الحديث (3/208).
وقال ابن قتيبة -رحمه الله-:
العِرْضُ: يَذْهَب الناس إلى أنه سَلَفُ الرَّجُل مِن آبائه وأمهاته، وأن القائل إذا قال: شَتَمَ عِرضي فلانٌ، إنما يريد: شَتَمَ آبائي وأمهاتي وأهل بيتي، وليس كذلك، إنما عِرْض الرَّجُل نفسه، ومن شَتَمَ عِرْضَ رَجُلٍ فإنما ذَكَرَهُ في نفسه بالسوء، ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في أهل الجنة: «لا يَبُولونَ ولا يَتَغَوَّطونَ، إنما هو عَرَق يخرج من أَعْرَاضهم مثل المِسْكِ» يريد: يجري من أبدانهم. أدب الكاتب (ص: 7).
«الحِمَى»:
بكسر الحاء، وفتح الميم المخففة، وهو موضعٌ حَظَرَهُ الإمام لنفسه، ومَنَعَ الغير عنه. عمدة القاري (1/ 298).
وقال الصرصري -رحمه الله-:
«الحِمَى» هو الشيء الممنوع. التعيين في شرح الأربعين (1/97).
«يُوشِك»:
بضم الياء وكسر الشين مضارعُ أَوْشَكَ الرباعي بفتحها، وهو من أفعال المقاربة، ومعناه هنا: يقع في الحرام بسرعة. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (17/350).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
أي: يَقْرُبُ أن يَقْدُمَ على الحرام المحْضِ. جامع العلوم والحكم (1/ 214).
«يُواقِعَهُ»:
الْمُوَاقَعَةُ للشيء: الوقوع والدخول فيه، ومباشَرتُه، ومنه قوله تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} الكهف: 53. معجم اللغة العربية المعاصرة؛ لأحمد مختار (3/ 2481).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
(يُوَاقِعهُ) أَي يَقع فِيهِ. إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (1/ 143).
وقال المناوي -رحمه الله-:
(أَن يُوَاقِعَهُ): أَن تَأْكُل مَاشِيَتُه مِنْهُ فيُعاقَب. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 509).
«مَحَارِمُهُ»:
جمع مَحْرَمٍ، بمعنى: المحرَّم، أو موضع الحُرْمَة. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (1/128).
«مُضْغَة»:
الـمُضْغَة: القطعة من اللحم، قَدْرُ ما يُـمْضَغ، وجمعها: مُضَغٌ. النهاية في غريب الحديث (4/339).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
«مُضْغَة» أي: قَدْرُ ما يُمْضَغ، وعَبَّر بها هنا عن مقدار القلب في الرؤية. فتح الباري (1/128).
شرح الحديث
قوله: «الحلالُ بيِّنٌ والحرامُ بيِّنٌ»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «الحلال» مبتدأ، و«بيِّنٌ» خبره، وكذلك «الحرام بيِّنٌ» مبتدأ وخبر. عمدة القاري (1/298).
وقال العيني -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «الحلال» هو ضد الحرام. عمدة القاري (1/297).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«الحلال بيِّنٌ» بتشديد الياء المكسورة، أي: واضحٌ لا يَخفى حَدُّه؛ بأن وَرَدَ نصٌّ على حِلِّه، أو مُهِّدَ أصلٌ يمكن استخراجُ الجزيئات منه، كقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} الآية البقرة: 29، فإن اللام للنَّفْع، فعُلِمَ أن الأصل في الأشياء الحِلِّ إلا أن يكون فيها مَضَرَّة. مرقاة المفاتيح (5/1891).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «بيِّن» بمعنى: ظاهر؛ بالنظر إلى ما دل على الحل بلا شُبهة، أو على الحرام بلا شُبهة. عمدة القاري (1/299).
وقال العيني -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «والحرام» هو ضد الحلال. عمدة القاري (1/297).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«الحلال» مِن الأفراد التي بيَّنها الله لعباده على لسان رسله، أو على حُكم العمل على القول به.
«بيِّن» بِزِنَةِ: لَيِّن، أي: واضح، لا لَبْسَ فيه، ولا خفاء، وهو ما نَصَّ الله عليه أو رسوله، أو أجْمَعَ على عينه أو جنسه، ومنه ما لم يَرِدْ عليه مَنْعٌ في الأصح.
«والحرام بيِّنٌ» بِنَصِّ الله تعالى على حُرْمَته، أو رسوله، أو إجماع الأمة بأن نُهي عنه، أو تُوُعِّد على فعله، والتحريم إما لمفسدة، أو مَضَرَّة خفية، كالزنا وذبيحة الحربي، أو مَضَرَّةٍ واضحة، كالسُّم وشرب المسكر. التنوير شرح الجامع الصغير (5/442).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «الحلال بيِّن والحرام بيِّن» أي: في عينهما ووصْفِهما بأدلتهما الظاهرة. فتح الباري (1/127).
وقال السندي -رحمه الله-:
ليس المعنى أنّ كُلّ ما هو حلال عند الله تعالى فهو بيِّن يُوصَف بالحِلِّ، يَعْرفه كل أحد بهذا الوصف، وما هو حرام عند الله تعالى فهو كذلك، وإلا لم يبقَ المشتَبِهَات، وإنما معناه -والله أعلم-: أن الحلال من حيث الحكم بيِّن بأنه لا يَضُرُّ تناوُلُه، وكذلك الحرام بأنه يَضُرُّ تناوُلُه ويُخْرِجُ عن الوَرَعِ، ويَقْرُبُ إلى تناول الحرام، وعلى هذا فقوله: «الحلال بيِّن والحرام بيِّن» اعتذار لترك ذكر حكمهما. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/476).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
هذا الذي فسَّر به السندي هذا الحديث فيه نظر؛ إذ ظاهر السياق يأباه، بل الذي يظهر أن كُلًّا من الحلال والحرام بيِّنٌ متَّضِحٌ لكل أحد له معرفة بأمور الدِّين، حيث نصَّ عليه في الكتاب أو السُّنة أو الإجماع، وهناك أمور تَشْتَبِهُ على كثيرين، حيث إن لها شَبَهًا بالحلال وشَبَهًا بالحرام، فلا يتبيَّن أمرُها لكثير من الناس، وإنما يعلمها خواص العلماء الذين لهم رسوخ في معرفة النصوص، فيُلْحِقونها بما هي قريبة الشَّبَهِ له من النوعين. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (34/83).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
أراد: أن الشرع بيَّنَ الحلال والحرام، وكَشَفَ عن المباح والمحظور، بحيث لا خفاء بالأصل الذي أُسِّسَ عليه الأمر، وإنما تقع الشُّبهة في بعض الأشياء إذا أَشْبَهَ الحلالَ من وجهٍ وأَشْبَهَ الحرام من وجهٍ؛ وذلك بالنسبة إلى الأكثر دون العموم، فإنَّ مِن الأشخاص من لا يَشْتَبِهُ ذلك أيضًا إليه، إذا كان ذا حظٍّ من العلم والفهم، نبَّأنا عنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يعلمها كثير من الناس». الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 656).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «الحلال بيِّن، والحرام بيِّن» يعني: أن كل واحد منهما مبيَّن بأدلته في كتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- تأصيلًا وتفصيلًا، فمن وقف على ما في كتاب الله والسُّنة من ذلك وجد فيهما أمورًا جليَّةَ التحليل، وأمورًا جليَّةَ التحريم، وأمورًا متردِّدَة بين التحليل والتحريم، وهي التي تتعارض فيها الأدلة، فهي المتشابهات. المفهم (4/488).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«الحلال بيِّن والحرام بيِّن» وهو الذي دل عليه نصٌّ أو إجماع أو قياس جَلِيٌّ. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (1/128).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
معناه: أن الحلال المحض بيِّن لا اشتباه فيه، وكذلك الحرام المحض، ولكن بين الأمرين أمورٌ تَشْتَبِهُ على كثير من الناس، هل هي من الحلال أم من الحرام؟ وأما الراسخون في العلم فلا يَشْتَبِهُ عليهم ذلك، ويعلمون من أيِّ القسمين هي.
فأما الحلال المحض: فمثل أَكْلِ الطيبات من الزروع، والثمار، وبهيمة الأنعام، وشُرْبِ الأشربة الطيبة، ولباسِ ما يحتاج إليه من القُطن والكَتَّان، أو الصوف أو الشَّعْر، وكالنكاح، والتَّسَرِّي وغير ذلك إذا كان اكتسابه بعقد صحيح كالبيع، أو بميراث، أو هِبَةٍ، أو غنيمة.
والحرام المحض: مثل أَكْلِ الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وشُرْبِ الخمر، ونكاح المحارم، ولباس الحرير للرجال، ومثل الأكْسَاب المحَرَّمة كالربا، والْمَيْسِرِ، وثَمَنِ ما لا يحل بيعه، وأخذ الأموال المغصوبة بسرقة أو غَصْبٍ أو تَدْلِيس أو نحو ذلك.
وأما الْمُشْتَبِهُ: فمثل أَكْلِ بعض ما اختُلف في حِلِّه أو تحريمه، إما من الأعيان كالخيل والبغال والحمير، والضَّبِّ، وشُرْبِ ما اختُلف من الأَنْبِذَةِ التي يُسْكِرُ كثيرها، ولُبْسِ ما اختُلف في إباحة لُبْسِه من جلود السباع ونحوها، وإما من المكاسب المختلف فيها كمسائل العِيْنَة والتَّورُّق ونحو ذلك، وبنحو هذا المعنى فسَّر المشتبهات أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة. جامع العلوم والحكم (1/ 202).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
وتأويل قوله: «الحلال بيَّن والحرام بيَّن» على معنيين:
أحدهما: أن يكون ذلك في شيء من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها مما يملكه الآدميون إذا تيقن أن ذلك كان مِلْكًا له، فإنه على يقين مِلْكِهِ في ذلك لا يزول عن أصله إلا بيقين زوال الْمِلْكِ.
«والحرام بَيِّنٌ»: هو مالُ غيره، وامرأة غيره، وخادم غيره، لا يستحِلّ شيئًا من ذلك إلا بشَرْطِهِ مِن نكاح، أو مِلْكِ يمين، أو هِبَةٍ، أو صدقة، أو غير ذلك...
والمعنى الآخر: أن يكون الشيء الأصل فيه الإباحة أو الحظر، فما كان الأصل منه الإباحة كالماء الذي يَتَوضأ به، والأرض التي يصلي عليها ونحو ذلك من الأمور التي وُجِدت في أصل الفطرة على حكم الإباحة، حتى يطرأ عليها ما يغيرها عن حكمها الأول، فإنه لا يضيق في مذهب الوَرَع استعماله على وجهه، ولا يُستَحَب اجتنابه ...،وما كان من ذلك في الأصل ممنوعًا لا يُستباح إلا بشرائط وأسباب قد أخذ علينا مراعاتها فيه، وفي الاستمتاع به كالبهيمة لا يحل أكلها إلا بالذكاة...، فإنه لا يجوز استعمال هذا النوع منه ولا الاستباحة له ما لم يوجد تلك الأسباب مستوفاة بكمالها، والورع في مثل هذا فرضٌ واجبٌ.
فأما الورع المستحب المندوب إليه، فهو ما يقع بين هذين الأصلين، مثل اجتناب معاملة من يجتمع في ماله الحلال والحرام، كمن عُرِفَ بالربا في تجارته...أعلام الحديث (2/997).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأما قوله -صلى الله عليه وسلم-: «الحلال بيِّن والحرام بيِّن» فمعناه: أن الأشياء ثلاثة أقسام:
حلال بيِّن واضح لا يخفى حِلُّه: كالخبز والفواكه، والزيت والعسل، والسمن ولبن مأكول اللحم وبيضه، وغير ذلك من المطعومات، وكذلك الكلام والنظر والمشي، وغير ذلك من التصرفات فيها حلال بيِّن واضح لا شك في حلِّه.
وأما الحرام البيِّن: فكالخمر والخنزير والميتة، والبول والدم المسفوح، وكذلك الزنا والكذب والغيبة والنميمة، والنظر إلى الأجنبية وأشباه ذلك.
وأما المشْتَبِهَات: فمعناه: أنها ليست بواضحة الحِلِّ ولا الحرمة، فلهذا لا يعرفها كثير من الناس، ولا يعلمون حكمها، وأما العلماء فيعرفون حكمها بِنَصٍّ أو قياس أو استصحاب أو غير ذلك. شرح النووي على مسلم (11/27-28).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «الحلال بيِّن والحرام بيِّن» أصل كبير في كثير من الأمور والأحكام إذا وقعت فيها الشُّبْهَةُ أو عَرَضَ فيها الشك، ومهما كان ذلك فإن الواجب أن ينظر، فإذا كان للشيء أصل في التحريم والتحليل فإنه يتمسَّك به ولا يفارقه باعتراض الشك حتى يُزيله عنه يقين العلم.
فالمثال في الحلال: الزوجة تكون للرَّجُل، والجارية تكون عنده يتسرَّى بها ويطأها فيَشُكُّ هل طلَّق تلك أو أعتق هذه، فهما عنده على أصل التحليل حتى يتيقن وقوع طلاق أو عتق...
وأما الشيء إذا كان أصله الحظر وإنما يستباح على شرائط وعلى هيئات معلومة: كالفُرُوج لا تَحِلُّ إلا بعد نكاحٍ أو ملك يمين، وكالشاة لا يحل لحمها إلا بذكاة، فإنه مهما شكَّ في وجود تلك الشرائط وحصولها يقينًا على الصفة التي جعلت علمًا للتحليل كان باقيًا على أصل الحظر والتحريم...
وههنا قسم ثالث: وهو أن يُوجَد الشيء ولا يُعْرف له أصلٌ متقدِّمٌ في التحريم ولا في التحليل، وقد استوى وجْهُ الإمكان فيه حِلًّا وحُرمةً؛ فإن الورع فيما هذا سبيله: الترك والاجتناب. معالم السنن (3/56).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
الحلال ما أُذِنَ في تعاطيه، والحرام ما مُنِعَ منه، وإن الباري سبحانه ببديع حكمته لِمَا خَلَقَ لنا ما في الأرض جميعًا -كما أخبرنا- قسَّم الحال فيه، فمنه ما أَبَاحَهُ على الإطلاق، ومنه ما أَبَاحَهُ في حال دون حال، ومنه ما أَبَاحَهُ على وجه دون وجه.
فأما أن يكون في الأرض ممنوع لا تتطرق إليه إباحة في حال ولا على وجه فلا أعلمه الآن؛ ولذلك تمَّت هذه النعمة، واستقرت بها المنَّة في أعناق الخليقة، من قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} البقرة: 29.
ما فصَّل سبحانه فيه القول فَصْلًا، وتمَّت به الكلمة صدقًا وعَدْلًا، فقد فَصَّله تفصيلًا، وبيَّن ما أحل وحرَّم، إلا ما اضطررنا إليه، فإنه يعود بالضرورة حلالًا بعد أن كان حرامًا، وكل شيء تَعْتَوِرُهُ الأحكام بالحلال والحرام إلا التوحيد، فإنه لا تدخله إحالة، ولا يَنْزِلُ عن درجة الفرضية، ومنزلة الوجوب والحَتْمِ في حالة، فتبارك الصمد الواحد. عارضة الأحوذي (5/40).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وفي الجملة: فما تَرَكَ الله ورسوله حلالًا إلا مُبَيَّنًا، ولا حرامًا إلا مُبَيَّنًا، لكنَّ بعْضَه كان أظْهَر بيانًا من بعض، فما ظَهَرَ بيانُه واشتَهَر وعُلِمَ من الدِّين بالضرورة من ذلك لم يبقَ فيه شك، ولا يُعذر أحد بجهله في بلد يَظْهَرُ فيه الإسلام، وما كان بيانه دون ذلك فمنه ما اشْتَهَر بين حملة الشريعة خاصة، فأَجْمَعَ العلماء على حِلِّهِ أو حُرمته، وقد يخفى على بعضِ من ليس منهم، ومنه ما لم يشتهر بين حملة الشريعة أيضًا، فاختلفوا في تحليله وتحريمه؛ وذلك لأسباب:
منها: أنه قد يكون النَّص عليه خفيًّا لم ينقله إلا قليل من الناس، فلم يبلغ جميعَ حملة العلم.
ومنها: أنه قد يُنْقَلُ فيه نَصَّان، أحدهما بالتحليل، والآخر بالتحريم، فيبلغُ طائفةً أحدُ النصين دون الآخرين، فيتمسكون بما بَلَغَهم، أو يَبْلُغُ النَّصَّان معًا من لم يبلغه التاريخ فيقف؛ لعدم معرفته بالناسخ.
ومنها: ما ليس فيه نص صريح، وإنما يؤخذ من عمومٍ أو مفهومٍ أو قياسٍ، فتختلف أفهام العلماء في هذا كثيرًا.
ومنها: ما يكون فيه أمر، أو نهي، فيَخْتَلف العلماء في حَمْلِ الأمر على الوجوب أو النَّدْبِ، وفي حمل النهي على التحريم أو التنزيه، وأسباب الاختلاف أكثر مما ذكرنا.
ومع هذا فلا بد في الأُمَّة من عالِمٍ يوافق قولُه الحقَّ، فيكون هو العالِمُ بهذا الحكم، وغيره يكون الأمر مُشْتَبِهًا عليه، ولا يكون عالـمًا بهذا، فإن هذه الأُمَّة لا تجتمع على ضلالة، ولا يَظْهَرُ أهلُ باطلها على أهل حقِّها، فلا يكون الحق مهجورًا غير معمول به في جميع الأمصار والأعصار. جامع العلوم والحكم (1/ 204-205).
قوله: «وبينهما مُشَبَّهَاتٌ»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «وبينهما مُشَبَّهات» بِوَزْنِ مُفَعَّلات بتشديد العين المفتوحة، وهي رواية مسلم، أي: شُبِّهت بغيرها مما لم يتبيَّن به حكمها على التَّعيين، وفي رواية الأصيلي: «مُشتَبِهات» بوزن مُفْتَعِلات بتاء مفتوحة وعين خفيفة مكسورة، وهي رواية ابن ماجه، وهو لفظ ابن عون، والمعنى: أنها موحَّدة اكتسبت الشَّبَهَ من وجهين متعارضين. فتح الباري (1/127).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
معنى قوله: «وبينهما أمور مشتبهات» أي: أنها تَشْتَبِهُ على بعض الناس دون بعض، وليس أنها في ذوات أنفسها مُشْتَبِهَة لا بيان لها في جملة أصول الشريعة؛ فإن الله تعالى لم يترك شيئًا يجب له فيه حكم إلا وقد جعل فيه بيانًا، ونصب عليه دليلًا، ولكن البيان ضربان:
بيان جلي: يعرفه عامة الناس كافة.
وبيان خفي: لا يعرفه إلا الخاص من العلماء الذين عنوا بعلم الأصول، فاستدركوا معاني النصوص، وعَرفوا طُرُق القياس والاستنباط، ورَدِّ الشيء إلى المثل والنَّظِير.
ودليل صحة ما قلناه، وإن هذه الأمور ليست في أنفسها مشتبهة: قوله: «لا يعرفها كثير من الناس»، وقد عُقِلَ ببيان فحواه أن بعض الناس يعرفونها، وإن كانوا قليلي العدد، فإذا صار معلومًا عند بعضهم فليس بمشْتَبَهٍ في نفسه، ولكن الواجب على من اشتبه عليه أن يتوقف، ويَسْتبرئ الشكَّ ولا يُقْدِمُ إلا على بصيرة، فإنه إنْ أَقْدَمَ على الشيء قبل التثبت والتبيُّن لم يأمن أن يقع في المحرَّم عليه؛ وذلك معنى الحِمَى وضَرْبِهِ الْمَثَل به. معالم السنن (3/56-57).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأما الْمُشْتَبِهَات فمعناه: أنها ليست بواضحةَ الحِلِّ ولا الحُرمة، فلهذا لا يعرفها كثير من الناس ولا يعلمون حكمها، وأما العلماء فيعرفون حكمها بنص أو قياس أو استصحاب أو غير ذلك،( ) فإذا تردَّد الشيء بين الحِلِّ والحُرمة ولم يكن فيه نص ولا إجماع اجتَهَدَ فيه المجتهِد فأَلْحَقَهُ بأحدهما بالدليل الشرعي، فإذا أَلْحَقَهُ به صار حلالًا، وقد يكون دليله غير خالٍ عن الاحتمال البيِّن فيكون الورع ترْكُهُ، ويكون داخلًا في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «فمَنِ اتقى الشُّبهات فقد استبرأ لدِينه وعِرْضه».
وما لم يظهر للمجتهد فيه شيء وهو مُشْتَبَهٌ فهل يؤخذ بِحِلِّهِ أم بِحُرْمَتِهِ أم يُتَوقَّفُ؟
فيه ثلاثة مذاهب حكاها القاضي عياض وغيره، والظاهر أنها مُخَرَّجَةٌ على الخلاف المذكور في الأشياء قبل ورود الشرع، وفيه أربعة مذاهب، الأصح: أنه لا يُحْكَمُ بِحِلٍّ ولا حُرْمَة ولا إباحة ولا غيرها؛ لأن التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلا بالشرع، والثاني: أن حكمها التحريم، والثالث: الإباحة، والرابع: التوقف. شرح النووي على مسلم (11/27).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معلقًا على كلام النووي:
عندي أن الأرجح: القول بالإباحة في المنافع، وبالتحريم في المضار؛ لقوله تعالى في مَعْرِضِ الامتنان: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} الآية البقرة: 29، ولا يمتنُّ الله تعالى إلا بما أباحه، ولِمَا صحَّ مِن قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا ضرر ولا ضرار» حديث صحيح، رواه أحمد وغيره، أي: لا يجوز في ديننا إلحاق الضرر بنفسه أو بغيره. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (27/709).
وقال البغوي -رحمه الله-:
من الاشتباه: أن يقع للرَّجُل حادثة يشْتَبِهُ عليه وجْهُ الحكم فيها بين الحِلِّ والحُرمة، فسبيله إن كان عالمـًا أن يجتهد، وإن كان عاميًّا أن يسأل أهل العلم، ولا يجوز له سلوك سبيل الاستباحة من غير اجتهاد، أو تقليد مجتهد إن كان عاميًّا. شرح السنة (8/16).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وقد يقع الاشتباه في الحلال والحرام بالنسبة إلى العلماء وغيرهم من وجه آخر، وهو أنَّ من الأشياء ما يُعْلَمُ سببُ حِلِّه، وهو الْمِلْكُ المتيَقَّن.
ومنها: ما يُعْلَمُ سببُ تحريمه، وهو ثبوت مِلْكِ الغير عليه.
فالأول: لا تزول إباحته إلا بيقين زوال الْمِلْكِ عنه، اللهم إلا في الأَبْضَاعِ جمع بُضْعٍ، وهي الفُرُوجُ عند من يوقِعُ الطلاق بالشك فيه كمَالِكٍ، أو إذا غَلَبَ على الظن وقوعه كإسحاق بن راهويه.
والثاني: لا يزول تحريمه إلا بيقين العلم؛ بانتقال الْمِلْكِ فيه.
وأما ما لا يُعْلَمُ له أصلُ مِلْكٍ كما يجده الإنسان في بيته ولا يدري هل هو له أو لغيره، فهذا مُشْتَبِهٌ، ولا يَحْرُمُ عليه تناوُلُه؛ لأن الظاهر أن ما في بيته مِلْكُهُ؛ لثبوت يده عليه، والورع اجتنابه، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إني لأَنْقَلِبُ إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لِآكُلَهَا، ثم أخشى أن تكون صدقة فأُلْقِيهَا» خرَّجاه في الصحيحين. جامع العلوم والحكم (1/ 205).
وقال الصرصري-رحمه الله-:
فإن قيل: لمَ لمْ يَتَورَّع، أي: النبي صلى الله عليه وسلم عن لحم بَرِيْرَةَ والشبهة قائمة به؟
قُلْنَا: لا نُسَلِّمُ أن الشُّبهَة قائمة به، وقد بيَّن انتفاء الشبهة بقوله: «هو عليها صدقة، ولنا هدية»؛ ولئن سَلَّمْنَا قيامَ الشُّبهة به، لكنه -عليه الصلاة والسلام- كان مُشَرِّعًا، فهو تارة يترك الشيء تورعًا؛ لئلا ينْهَمِكَ الناس في الشبهات، وتارة يفعل الشيء توسيعًا؛ لئلا يَحْرَجَ الناسُ الناس بضيق مجال الشهوات. التعيين في شرح الأربعين (1/99-100).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
والشبهات لها مُثَارَاتٍ:
منها: الاشتباه في الدليل الدال على التحريم أو التحليل، أو تَعَارُضُ الأمارات والحُجَجِ، ولعل قوله -عليه السلام-: «لا يعلمهن كثير من الناس» إشارة إلى هذا الْمُثَار، مع أنه يُحْمَلُ أن يراد: لا يَعْلَمُ عَيْنَهَا، وإن عَلِمَ حكم أصلها في التحليل والتحريم، وهذا أيضًا من مُثَار الشبهات. إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام (2/ 277).
وقال المازري -رحمه الله-:
هل المشتبهات المذكورات فيه واجبٌ اجتنابها؟
وهل قوله: «من وقع في الشبهات وقع في الحرام» دلالة على أن اجتنابها واجبٌ، أم يكون المراد أنه قد يقع في الحرام؛ لقوله بعد ذلك: «كالراعي يرعى حول الحِمَى يُوشِك أن يَرْتَعَ فيه» ولم يقل: يرتع فيه؟
فلا بد مع وصفه بأن اجتنابها استبراءٌ للدِّين والعِرض، والاستبراء يشير إلى أنها ليست بنفس الحرام الذي يجب أن يُجْتَنَب؛ لأن هذه المسائل التي نصصنا على بعضها وأشرنا إلى بقيتها تختلف طرق الاشتباه فيها على ما أشرنا إليك به؛ فقد يقتضي بعضها التحريم، وأن الاجتناب واجب، وقد تَدِقُّ طُرُقُ الاشتباه وتَضْعُفُ فيكون الاجتناب حينئذٍ مستحبًا غير واجب، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- أتى بلفظ دالٍّ على استحباب التَّوقِّي، ولا شك أن استحسان التَّوقي يَعُمُّ جميعها، ما لم تكن من الشكوك الفاسدة. المعلم بفوائد مسلم (2/312-313).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
الحكمة من وجودها (يعني: المشتبهات)... في التشريع: أن تكون شاهدًا على قصور العقل البشري فلا يَغْتَرّ، ولا يتمَرَّد، ويستسلم، ويعترف بصحة قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا} الإسراء: 85، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيم} يوسف: 76. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (6/331).
قوله: «لا يعلمها كثير من الناس»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «لا يعلمها كثير من الناس» جملة في محل الرفع على أنها صفة لقوله: «مشتبهات». عمدة القاري (1/298).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«لا يعلمهن كثير من الناس» يعني: لا يُمَيِّزُ بينهما إلا العلماء المجتهدون. شرح مصابيح السنة (3/382).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «لا يعلمها كثير من الناس» أي: لا يعلم حُكْمَها، وجاء واضحًا في رواية الترمذي بلفظ: «لا يدري كثير من الناس أَمِنَ الحلال هي أم من الحرام؟». فتح الباري (1/127).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
ومفهوم قوله: «كثير»: أن معرفة حُكْمِها ممكن، لكنْ للقليل من الناس وهم المجتهدون، فالشبهات على هذا في حق غيرهم، وقد تقع لهم حيث لا يَظْهَر لهم ترجيح أحد الدليلين. فتح الباري (1/127).
وقال الصرصري -رحمه الله-:
قوله: «لا يعلمهن كثير من الناس» أي: ليست أحكام تلك الشبهات معطلة لا تُعْلَم، بل يعلمها بعض الناس وهم أولو العلم والنظر في أحكام الشرع. التعيين في شرح الأربعين (1/98).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«لا يعلمهن كثير من الناس» فيه: أنه يعْلَمُها قليل من العلماء الراسخين بنص أو قياس أو استصحاب وغير ذلك، فإذا تردَّد الشيء بين الحِلِّ والحُرمة ولم يكن فيه نص أو إجماع اجْتَهَدَ فيه المجتهد فألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي، فإذا ألحَقَه به صار حلالًا أو حرامًا، فإذا فَقَدَ هذه الدلائل فالورع تركه؛ لأنه داخل في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «فمن اتقى الشبهات استبرأ لدِينه». الكاشف عن حقائق السنن (7/2098).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
وقوله: «كثير من الناس» دليل على أنه هناك قليل يعلمها، فينبغي للمقصِّر أن يقف عنها، ويرجِع إلى العالم بها، فيعمل على قوله فيها، إما بتنبيهٍ على دليلها، فيكون من باب الذكرى، وإما بمجرد الإعلام فيكون من التقليد. عارضة الأحوذي (5/40).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وحاصل ما فَسَّرَ به العلماء الشبهات أربعة أشياء:
أحدها: تعَارُض الأدلة....
ثانيها: اختلاف العلماء، وهي مُنْتَزَعَةٌ من الأُولى.
ثالثها: أن المراد بها مسمى المكروه؛ لأنه يجتذبه جانِبَا الفعل والترك.
رابعها: أن المراد بها المباح، ولا يمكن قائل هذا أن يحمله على متساوي الطرفين من كل وجه، بل يمكن حَمْلُهُ على ما يكون من قِسْمِ خلاف الأَوْلَى؛ بأن يكون متساوي الطرفين باعتبار ذاته، راجح الفعل أو الترك باعتبار أمر خارج...
والذي يظهر لي: رُجْحان الوجه الأول على ما سأذكره، ولا يبْعُدُ أن يكون كلٌّ مِن الأَوْجُهِ مرادًا، ويختلف ذلك باختلاف الناس، فالعالِمُ الفَطِنُ لا يخفى عليه تمييز الحُكْم، فلا يقع له ذلك إلا في الاستكثار من المباح أو المكروه كما تقرر قبل، ودُونَه تقع له الشبهة في جميع ما ذُكِرَ بحسب اختلاف الأحوال. فتح الباري (1/127).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
والتحقيق: أن المكروه وخلاف الأَوْلَى اللَّذَيْنِ أشار إليهما الحافظ ابن حجر لا يُطْلَقُ عليهما شبهات ما دام الحكم الشرعي بيِّنًا واضحًا، وإن كان البُعْدُ عنهما يُبَاعِد بين المسلم وبين الحرام، والكثرة منهما تُقَرِّب المسلم من الحرام، فهذا التوجيه إن استقام مع الجزء الثاني من الحديث لا يستقيم مع الجزء الأول، والمستقيم مع الجزأين معًا هو التفسير الأول والثاني، ويؤيدهما حديث: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد وابن حبان والحاكم. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (6/333-334).
قوله: «فمن اتقى المُشَبَّهات اسْتَبْرَأَ لدِيْنِهِ وعِرْضه»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «فمن» كلمة «من» موصولة مبتدأ.
قوله: «اتقى الشبهات» جملة من الفعل والفاعل، وهو الضمير الذي في «اتقى» العائد إلى «مَن» والمفعول، وهو قوله: «الشبهات» صلة لها. عمدة القاري (1/298).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «اتقى المشبهات» أي: حَذِرَ منها. فتح الباري (1/127).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فمن اتقى» من التقوى، وهي لغة: جَعْلُ النفس في وقاية مما يُخاف.
وشرعًا: حِفْظُ النفس عن الآثام وما تَجُرُّ إليها. التنوير شرح الجامع الصغير (5/444).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«اتقى الشبهات» أي: جَعَلَ بينه وبين الوقوع فيها وقاية، أي: مَن بَعُدَ عنها، وحَذِرَ منها ومن الوقوع فيها، واستوثق في دراستها للعلم بحكمها. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (6/331).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«الـمُشَبَّهَات»... جمع مُشَبَّه، بمعنى: مُشْتَبَه، ووضع الظاهر موضع المضمر تفخيمًا لشأن هذه الأمور، وزيادة في إيضاح المراد. التنوير شرح الجامع الصغير (5/444).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقد اختُلف في حكمها (أي: الـمُشبهات) فقيل: مُوَاقَعَتُها حرام؛ لأنها تُوقِعُ في الحرام، وقيل: مكروهة، والورع ترْكُها، وقيل: لا يقال فيها واحد منهما، والصواب: الثاني؛ لأن الشرع قد أخرجها من قِسْمِ الحرام، فلا تُوصَف به، وهي مما يُرْتَابُ فيه، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» وهذا هو الورع.
وقد قال فيها بعض الناس: إنها حلال ويُتَورَّع عنها.
قلتُ: وليست بعبارة صحيحة؛ لأن أقل مراتب الحلال أن يستوي فِعْلُه وتَرْكُه، فيكون مباحًا، وما كان كذلك لم يُتصور فيه الورع من حيث هو متساوي الطرفين، فإنه إن ترجَّح أحدُ طرفيه على الآخر خرج عن كونه مباحًا، وحينئذٍ يكون تَرْكُهُ راجحًا على فِعْلِهِ، وهو المكروه، أو فِعْلُهُ راجحًا على تركه، وهو المندوب.
فإن قيل: فهذا يؤدي إلى رفع (أي: ترك) معلوم من الشرع، وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء بعده وأكثر الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يزهدون في المباح، فإنهم رفضوا التَّنعُّم بأكل الطيبات من الأطعمة، وبِلِبَاسِ اللَّيِّنِ الفاخر مِن الملابس، وبِسُكْنَى المباني الأنيقة من المساكن، ولا شك في إباحة هذه الأمور، ومع هذا فآثروا أكل الخَشِن، ولباس الخَشِن، وسُكْنَى الطين واللِّبْن، وكل هذا معلوم من حالهم، منقول من سيرتهم.
فالجواب: إنَّ تَرْكَهم التنعم بالمباح لا بد له من مُوجِب شرعي أَوْجَب ترجيح الترك على الفعل، وحينئذٍ يلزم عليه خروج المباح عن كونه مباحًا، فإنَّ حقيقته التساوي من غير رجحان، فلم يزهدوا في مباح، بل في أمرٍ تَرْكُهُ خير مِن فِعْله شرعًا، وهذه حقيقة المكروه، فإذًا: إنما زهدوا في مكروه، غير أن المكروه تارة يَكْرهه الشرع من حيث هو، كما كَرِهَ لحوم السباع، وتارة يَكْرهه لِمَا يؤدي إليه، كما يَكْرَهُ القُبْلة للصائم، فإنها تُكره لِمَا يُخاف منها من فساد الصوم، وتركهم للتنعم من هذا القبيل، فإنه انكشف لهم من عاقبته ما خافوا على نفوسهم منه مفاسد، إما في الحال كالركون إلى الدنيا، وإما في المآل كالحساب عليه والمطالبة بالشُّكر، وغير ذلك مما ذُكر في كتب الزهد، وعلى هذا فقد ظهر ولاح: أنهم لم يزهدوا ولا تورَّعُوا عن مباح. المفهم (4/488 -489).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«اسْتَبْرَأَ» السين والتاء للطلب. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (6/331).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «اسْتَبْرَأَ»... أي: برَّأَ دِيْنَهُ من النقص، وعِرْضَه من الطعن فيه؛ لأن من لم يُعرَف باجتناب الشبهات لم يَسْلَم مِن قولِ مَن يطعن فيه. فتح الباري (1/127).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«اسْتَبْرَأَ لدِينه» أي: بَالَغَ في براءة دِينه وصيانته من أن يختلَّ بالمحارم، «وعِرْضه» من أن يُتَّهم بترك الوَرعِ. شرح مصابيح السنة (3/382).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله: «اسْتَبْرَأَ» أي: حصل له البراءة لدِينه من الذم الشرعي، وصَانَ عِرْضَه عن كلام الناس فيه. شرح النووي على مسلم (11/28).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
والمعنى: أنه يتركها بهذا القصد -وهو براءة دِينه وعِرْضِه من النقص-، لا لغرض آخر فاسد مِن رياء ونحوه. جامع العلوم والحكم (1/ 213).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«لِدِيْنِهِ» من العقوبة الشرعية. التنوير شرح الجامع الصغير (5/444).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«لِعِرْضِهِ» العِرْضُ: ... أعَمّ من الدِّين، ولذلك عطفه عليه، وأحسن ما قيل فيه: هو موضع المدح والذم. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (1/128).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
العِرْضُ: هو موضع المدح والذم من الإنسان، وما يحصل له بذكره بالجميل مَدْحٌ، وبذكره بالقبيح قَدْحٌ، وقد يكون ذلك تارة في نفس الإنسان، وتارة في سَلَفِهِ، أو في أهله، فمن اتقى الأمور المشتبهة واجتنبها فقد حصَّن عِرْضَه من القَدْحِ والشَّين الداخل على من لا يجتنبها. جامع العلوم والحكم (1/ 212).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «فمن اتقى الشبهات فقد اسْتَبْرَأَ لدِينه وعِرْضِه» أي: من ترك ما يَشْتَبِهُ عليه سَلِمَ دِيْنُهُ مما يُفسده أو ينقصه، وعِرْضُه مما يَشِيْنُه ويُعِيْبُه، فيَسْلَم من عقاب الله وذَمِّه، ويدخل في زمرة المتقين الفائزين بثناء الله تعالى وثوابه. المفهم (4/490).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
قسم الناس في الأمور المشتبهة إلى قسمين، وهذا إنما هو بالنسبة إلى من هي مشتبهة عليه، وهو ممن لا يعلمها، فأما من كان عالـمًا بها، واتَّبع ما دَلَّهُ عِلْمُه عليها، فذلك قسم ثالث، لم يذكره لظهور حُكْمِهِ، فإن هذا القسم أفضل الأقسام الثلاثة؛ لأنه عَلِمَ حُكْمَ الله في هذه الأمور المشتبهة على الناس، واتَّبَعَ عِلْمَهُ في ذلك.
وأما من لم يعلم حُكُم الله فيها، فهم قسمان:
أحدهما: من يتقي هذه الشبهات؛ لاشتباهها عليه، فهذا قد استبرأ لدينه وعرضه...، وفي هذا دليل على أن من ارتكب الشبهات فقد عرَّض نفسه للقدح فيه والطعن، كما قال بعض السلف: من عَرَّض نفسه للتُّهم فلا يلومنَّ مَن أساء به الظن، وفي رواية للترمذي في هذا الحديث: «فمَن تَركَها استبراءً لدِينه وعِرْضه فقد سَلِمَ» والمعنى: أنه يتركها بهذا القصد -وهو براءة دينه وعرضه من النقص-، لا لغرض آخر فاسد من رياء ونحوه...
وفي رواية في الصحيحين في هذا الحديث: «فمَن تَرَكَ ما يَشْتَبِهُ عليه من الإثم كان لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ»، يعني: أنّ من ترك الإثم مع اشتباهه عليه، وعدم تحقُّقِه فهو أَوْلَى بتركه إذا استبان له أنه إثم، وهذا إذا كان تركه تَحَرُّزًا من الإثم، فأما من يقصد التَّصنُّع للناس فإنه لا يَتْرُك إلا ما يَظن أنه ممدوح عندهم تَرْكُهُ.
القسم الثاني: من يقع في الشبهات مع كونها مُشْتَبِهَةً عنده، فأما من أتى شيئًا مما يَظُنه الناس شبهة؛ لعلمه بأنه حلال في نفس الأمر فلا حرج عليه من الله في ذلك، لكن إذا خشي من طعن الناس عليه بذلك كان تركها حينئذٍ استبراءً لعِرْضِه، فيكون حَسَنًا، وهذا كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن رآه واقفًا مع صفية: «إنها صفية بنت حُيَيّ»...، وإن أتى ذلك لاعتقاده أنه حلال، إما باجتهاد سائغ أو تقليد سائغ، وكان مخطئًا في اعتقاده، فحُكمه حكم الذي قبله، فإن كان الاجتهاد ضعيفًا أو التقليد غير سائغ، وإنما حمل عليه مجرَّد اتباع الهوى، فحُكمه حكم من أتاه مع اشتباهه عليه، والذي يأتي الشبهات مع اشتباهها عليه فقد أخبر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه وقع في الحرام، وهذا يُفَسَّر بمعنيين:
أحدهما: أنه يكون ارتكابه للشبهة مع اعتقاده أنها شبهة ذريعة إلى ارتكابه الحرام الذي يعتقد أنه حرام بالتدريج والتسامح...
والمعنى الثاني: أنَّ مَن أقدم على ما هو مشتبه عنده لا يدري أهو حلال أو حرام فإنه لا يأمن أن يكون حرامًا في نفس الأمر، فيُصادِفُ الحرام وهو لا يدري أنه حرام. جامع العلوم والحكم (1/ 212-215).
وقال المغربي -رحمه الله-:
وقد يُنَازَعُ في المندوب؛ فإنه إذا كان الأغلب الحرام فأَوْلَى أن يكون واجبُ الاجتناب، وهو الذي بنى عليه الهادَوِيَّةُ في معاملة الظالم فيما لم يُظَن تحريمه؛ لأن الذي غَلَبَ عليه الحرام يُظَنُّ فيه التحريم. البدر التمام شرح بلوغ المرام(10/233).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ونَقَلَ ابن المنير في مناقب شيخه القباري عنه أنه كان يقول: المكروه عَقَبَةٌ بين العبد والحرام، فمن استكثر من المكروه تَطَرَّقَ إلى الحرام، والمباح عَقَبَةٌ بينه وبين المكروه، فمن استكثر منه تَطَرَّقَ إلى المكروه.
وهو منزع حَسَن، ويؤيده رواية ابن حبان من طريقٍ ذَكَرَ مسلم إسنادها ولم يسق لفظها فيها من الزيادة: «اجعلوا بينكم وبين الحرام سُتْرَةً من الحلال، مَن فَعَلَ ذلك استبرأ لعِرْضِه ودِيْنِه، ومن أَرْتَعَ فيه كان كالْمُرْتِعِ إلى جَنْبِ الحِمَى يُوشِك أن يَقَعَ فيه».
والمعنى: أن الحلال حيث يُخشى أن يَؤُول فِعْلُه مطلقًا إلى مكروه أو محرَّم ينبغي اجتنابه، كالإكثار مثلًا من الطيبات؛ فإنه يُحْوِجُ إلى كثرة الاكتساب الْمُوقِع في أخذ ما لا يُسْتَحَقُّ، أو يُفْضِي إلى بَطَرِ النفس، وأقلُّ ما فيه: الاشتغال عن مواقف العبودية، وهذا معلوم بالعادة، مُشَاهَد بالعَيَان. فتح الباري (1/127).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
لكن لا يصح اتقاء الشبهات حتى تُعْرَف، ومعرفتها على التعيين والتفصيل يستدعي فصلًا طويلًا، لكن نعقد فيه عقدًا كليًّا -إن شاء الله تعالى- عن التفصيل مُغْنِيًا فنقول: المكلَّف بالنسبة إلى الشرع إما أن يترجح فعله على تركه، أو تركه على فعله، أو لا يترجح واحد منهما.
فالراجح الفعل أو الترك: إما أن يجوز نقيضه بوجهٍ ما، أو لا يجوز نقيضه، فإن لم يجز نقيضه فهو المعلوم الحُكم من التحليل كحِلِّيَّة لحوم الأنعام، أو من التحريم كتحريم الميتة والخنزير على الجملة، فهذان النوعان هما المرادان بقوله: «الحلال بيِّن والحرام بيِّن».
وأما إن جَوَّز نقيض ما ترجَّح عنده: فإما أن يكون ذلك التجويز بعيدًا لا مُستند له أكثر مِن تَوَهُّمٍ وتقديرٍ فلا يُلتفت إلى ذلك، ويُلغى بكل حال، وهذا كتَرْكِ النكاح من نساء بلدة كبيرة؛ مخافة أن يكون له فيها ذات مَحْرَمٍ من النسب أو الرضاع، أو كتَرْكِ استعمال ماءٍ باقٍ على أوصافه في فلاة من الأرض؛ مخافة تقدير نجاسة وقعت فيه، أو كتَرْكِ الصلاة على موضعٍ لا أَثَرَ ولا علامة للنجاسة فيه؛ مخافة أن يكون فيها بول قد جَفَّ، أو كتكرار غسل الثوب؛ مخافة طُرُوءِ نجاسة لم يُشاهِدْها، إلى غير ذلك مما في معناه، فهذا النوع يجب أن لا يلتفت إليه، والتوقف لأجل ذلك التجويز هَوَسٌ، والورع فيه وسوسة شيطانية؛ إذ ليس فيه من معنى الشبهة شيء، وقد دخل الشيطان على كثير من أهل الخير من هذا الباب حتى يُعَطِّل عليهم واجبات، أو ينقص ثوابها لهم، وسبب الوقوع في ذلك: عدم العلم بالمقاصد الشرعية وأحكامها.
فإن قيل: كيف يقال هذا وقد فَعَل النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلَ ذلك لَمَّا دخل بيته، فوجد فيه تمرة، فقال: «لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها»، ودخول الصدقة بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعيد؛ لأنها كانت مُحَرَّمة عليه وعلى آله، لكنه راعى الاحتمال البعيد، والاحتمالات في الصُّور التي ذكرتم ليس بأبعد من هذا الاحتمال، فما وجه الانفصال؟
قُلنا: لا نُسَلِّمُ أن ما توقَّعه النبي -صلى الله عليه وسلم- كان بعيدًا؛ لأنهم كانوا يأتون بصدقات التمر للمسجد، وحُجْرته متصلة بالمسجد، فتَوَقّع أن يكون صبي أو مَن يغفل عن ذلك يُدخِل التمرة من الصدقة في البيت، فاتقى ذلك؛ لقربه بحسب ما ظهر له مما قرب ذلك التقدير، وليس من تلك الصور في شيء؛ لأنها خَلِيَّةٌ عن الأمارات، وإنما هي محض تجويزات.
وأما إن كان ذلك التَّجْوِيْز له مستند مُعتبر بوجه ما: فالأصل العمل بالراجح، والورع الترك إن لم يلزم منه ترك العمل بترك بالراجح.
وبيانه بالمثال، وهو: أن جِلْدَ الميتة لا يُطَهِّره الدباغ في مشهور مذهب مالك، فلا يجوز أن يُستعمل في شيء من المائعات؛ لأنها تنجس، إلا الماء وحده، فإنه يدفع النجاسة عن نفسه؛ لأنه لا ينجس إلا إذا تغير، هذا الذي ترجح عنده، ثم إنه اتقى الماء في خاصة نفسه.
ونحو ذلك حكي عن أبي حنيفة أو سفيان الثوري أنه قال: لَأَنْ أَخِرّ من السماء أَهْوَن عليَّ من أن أفْتِي بتحريم قليل النبيذ، وما شربتُه قطُّ، ولا أَشْرَبه، فقد أعْمَلُوا الراجح في الفتيا، وتورَّعوا عنه في أنفسهم، وقد قال بعض المحققين: مِن حِكَمِ الحكيم أن يوسِّع على المسلمين في الأحكام، ويضيِّق على نفسه، يعني به ذلك المعنى. المفهم (4/490 -491).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
هذا الذي نقله القرطبي -رحمه الله- مِن أن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ خلاف السُّنة الصحيحة الصريحة: «أيُّما إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ»، فلا يُلْتَفت إليه. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (27/714).
قوله: «ومَن وَقَعَ في الشبهات»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «من وقع..» إلخ، كلمة «مَن» ههنا يجوز أن تكون شرطية، ويجوز أن تكون موصولة، فإذا كانت شرطية فقوله: «وقع في الشبهات» جملة «وقع» فعل الشرط، والجواب محذوف تقديره: ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام.
وهكذا في رواية الدارمي عن أبي نعيم شيخ البخاري بإظهار الجواب، وكذا في رواية مسلم من طريق زكريا التي أخرجه منها البخاري. عمدة القاري (1/298).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«ومَن وقع في الشبهات وقع في الحرام» أي: عرَّض نفسه للوقوع في الحرام. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (6/331).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«ومن وقع في الشبهات» أي: أتى بها وتَعَوَّدَ ذلك. شرح مصابيح السنة (3/383).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
الوقوع في الشيء: السقوط فيه، وكل سقوط شديد يعبَّر عنه بذلك.
والمعنى أنَّ مَن يُهَوِّن على نفسه الوقوع في الشبهات حتى يتعوَّد ذلك فإنه يقع في الحرام؛ لأنه حَامَ حول حَرِيم الحرام فيُوشِك أن يُواقِعَه. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 656).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
ولعل السر فيه: أن حِمَى الأملاك حُدُودُهُ محسوسة، يُدْركُها كلُّ ذي بصر، فيحترز أن يقع فيه، اللهم إلا أن يغفل، أو تغلبه الدَّابَّة الجَمُوحُ، وأما حِمَى مَلِكِ الأملاك وهو مَحَارِمُه، فمعقولٌ صرْفٌ لا يدركه إلا الأَلِبَّاء من ذوي البصائر، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «لا يعلمهن كثير من الناس»، يحسب أحدهم أنه يَرْتَعُ حول الحِمَى -يعني: الشبهات- إذا هو في وسط مَحَارِمِهِ، ومن ثَمَّ ورد النهي في التنزيل عن القُرْبَان منها في قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا} البقرة: 187؛ لأن قربانها هو الوقوع فيها. الكاشف عن حقائق السنن (7/2100).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
وكل شيء أَشْبَهَ الحلال من وجه والحرام من وجه فهو شُبهة، والورع أن يُجتَنَب فلا يُقْرَب. أعلام الحديث (2/ 997).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله: «ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه من كثرة تعاطيه الشبهات يصادف الحرام وإن لم يتعمده، وقد يأثم بذلك إذا نُسِبَ إلى تقصير.
والثاني: أنه يعتاد التساهل ويَتَمَرَّن عليه، ويَجْسُر على شُبهة ثم شُبهة أغلظ منها، ثم أخرى أغلظ، وهكذا حتى يقع في الحرام عمدًا، وهذا نحو قول السلف: المعاصي بَرِيد الكفر، أي: تسوق إليه، عافانا الله تعالى من الشر. شرح النووي على مسلم (11/29).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
هل المحرَّم نَفْسُ المشْتَبه، أو أنه وقع في الحرام؟ يعني: صار وقوعه في المشْتَبه سببًا لوقوعه في الحرام؛ يعني: أنه إذا وقع في الشبهات فإنه يُتَوقَّع أن يقع في الحرام، هذا هو المراد، وليس المعنى: أن المشتبهات حرام، ولكن المشتبهات لا شك أن الورع تَرْكُها، أما اللزوم فلا يلزم إلا ما كان يقينًا.
إذًا: من وقع في الشبهات أَوْشَكَ أن يقع في الحرام، هذا معنى قوله: «وقع في الحرام». فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (6/304).
وقال البغوي -رحمه الله-:
وجملة الشُّبَهِ العارضة في الأمور قسمان:
أحدهما:...، وهو ما لا يُعْرف له أصل في تحليل ولا تحريم، فالورع تركه.
والثاني: أن يكون له أصل في التحليل أو التحريم، فعليه التمسك بالأصل، ولا ينزل عنه إلا بيقينِ عِلْمٍ؛ وذلك مثل الرَّجُل يتطهر للصلاة، ثم يَشُكُّ في الحدث، فإنه يصلي ما لم يعلم الحدث يقينًا..شرح السنة (8/115-16).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
اختلف العلماء هل يطيع والديه في الدخول في شيء من الشبهة أم لا يطيعهما؟
فرُوي عن بشر بن الحارث، قال: لا طاعة لهما في الشُّبْهة، وعن محمد بن مقاتل العباداني قال: يطيعهما، وتوقَّفَ أحمد في هذه المسألة، وقال: يداريهما، وأبى أن يجيب فيها. جامع العلوم والحكم (1/ 215).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
ما يُخْرِجُ إلى الوسوسة من تجويز الأمر البعيد ليس من الشبهات المطلوب اجتنابها، بل وسواس شيطاني، وسبب الوقوع في ذلك: عدم العلم بالمقاصد الشرعية، وقد نبَّه الشيخ أبو محمد الجويني على جملةٍ من ذلك، منها: غسل الثياب الجدد، وغسل القمح، وغير ذلك من التَّنطُّع البارد. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (3/199).
قوله: «كَرَاعٍ يرعى حول الحِمَى»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «كراعٍ يرعى حول الحِمَى» جملة مستأنفة، وقوله: «كراعٍ» خبر مبتدأ محذوف، أي: مَثَلُهُ كراعٍ، أي: مِثْلُ راعٍ يرعى. عمدة القاري (1/298).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «كراعٍ» أصله: الحافظ لما يَنْظُرُهُ، ومن ثم قِيْلَ للوالي: راعٍ، وللعامة: رعية، وللزوج: راعٍ، ثم خُصَّ عُرفًا بحافظ الحيوان، وأراده هنا. التنوير شرح الجامع الصغير (5/444).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «كراعٍ يرعى» هكذا في جميع نُسَخ البخاري، محذوفٌ جواب الشرط إن أُعْرِبَتْ. «مَن» شرطية، وقد ثبَتَ المحذوف في رواية الدارمي عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه، فقال: «ومَن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى»، ويمكن إعراب «مَن» في سياق البخاري موصولة، فلا يكون فيه حذف؛ إذ التقدير: والذي وقع في الشبهات مثل راعٍ يرعى، والأول أَوْلَى؛ لثبوت المحذوف في صحيح مسلم وغيره من طريق زكريا التي أخرجه منها المؤلف، وعلى هذا فقوله: «كراعٍ يرعى» جملة مستأنفة ورَدَتْ على سبيل التمثيل؛ للتنبيه بالشاهد على الغائب. فتح الباري (1/128).
وقال العيني -رحمه الله-:
وقوله: «يرعى» جملة من الفعل والفاعل صفة لراعٍ، أو المفعول محذوف تقدير: كراعٍ يرعى مواشيه. عمدة القاري (1/298).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
وهذا من باب التمثيل والتشبيه للشاهد بالغائب، فشَبَّه المكَلَّف بالراعي، والنَّفْس البهيميَّة بالأنعام، والـمُشَبَّهات بما حول الحِمَى، والمحارم بالحِمَى، وتَنَاوُل الـمُشَبَّهات بالرَّتع حول الحِمَى. إرشاد الساري (1/144).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وفائدته (يعني: ضرب المثل): تجْلِيَة المعاني المعقولة بصُورِ المحسوسات؛ لزيادة الكشف، وله شأن عجيب في إبراز الحقائق، ورفْعِ الأستار عن وجوه الدقائق؛ ولذا كثر في القرآن والحديث، والمعنى: حَالُ مَن وَقَعَ في الشبهات حيث يُخافُ عليه أنه يقع في المحرمات كحال الراعي. مرقاة المفاتيح (5/1892).
وقال العيني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: ما يسمى هذا التشبيه؟
قلتُ: هذا تشبيه مَلْفُوف؛ لأنه تشبيه بالمحسوس الذي لا يخفى حاله، شبَّه المكلَّف بالراعي، والنفس البهيمية بالأنعام، والمشتبهات بما حَوْل الحِمَى، والمحارم بالحِمَى، وتَنَاوُل المشتبهات بالرَّتع حول الحِمَى، فيكون تشبيهًا ملفوفًا باعتبار طَرَفَيْهِ، وتمثيلًا باعتبار وجْهِهِ. عمدة القاري (1/302).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
ووَجْهُ التشبيه: حصول العقاب بعدم الاحتراز عن ذلك، كما أن الراعي إذا جَرَّه رَعْيُهُ حول الحِمَى إلى وقوعه في الحِمَى استحق العقاب بسبب ذلك، فكذلك مَن أكثر من الشُّبهات، وتعرَّض لمقدِّماتها وقع في الحرام، فاستحق العقاب بسبب ذلك. إرشاد الساري (1/144).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
هذا مَثَلٌ ضَرَبَه النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن وقع في الشبهات، وأنه يَقْرُب وقوعُه في الحرام المحض، وفي بعض الروايات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وسَأَضْرِبُ لذلك مَثَلًا». جامع العلوم والحكم (1/ 216).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
فَضَرَبَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في هذا مَثَلًا لأربعة بأربعة:
الباري تعالى وله المثل الأعلى، والمحرمات والمشتبهات، والمتعبَّد بالأمر والنهي.
بالْمَلِكِ، ولا مَلِكَ إلا الله، والحِمَى، ما يُجَاوِرُهُ، والراعي.
فلا أحد أَغْيَرُ من الله، ومِن غَيْرتِهِ حَرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
فإذا حَرَّمَ المتَعَبَّد بالأمر والنهي نفسَه على المحرمات، كان كالراعي جانِب حِمَى الْمَلِك بِسَائِمَتِهِ، وهي نفسه، وهو المبدأ الأول.
وإذا أرسل نفسه تَسْرَحُ في رياض الشهوات، وأَوْطَنَهَا أَوْدِيَةَ الغفلات، وسامحها بالمشتبهات، كان كالراعي دار بماشيته حول الحِمَى، ودنا منه في سَرْحِهِ وتَدَلَّى، ولا يَأْمَن أن يقع فيه ويتردى، وهو الثاني.
وإذا كَبَحَهَا عن المباحات، ومنع متاعها من الجائزات كان بمنزلة الراعي إذا أَدْبَرَ بماشيته وانْتَوى، ولم يكن بشيء من أرض الحِمَى، وهو الثالث.
فتنتظم به حال الراعي، وتحصل له السلامة، وهو المنتهى الرابع من الأمثال. عارضة الأحوذي (5/40).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
والحِمَى:... أرض يمنعها الإمام عن العامة لِنَعَمِ الصدقة، وخَيْلِ الغُزَاة. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (1/128).
قوله: «يُوشِك أن يُواقِعَهُ»:
قال العيني -رحمه الله-:
وقوله: «يُوشِك إن يُوَاقِعه» جملة وقعت صفة أخرى لـ«راعٍ»...، وفي قوله: «يُوشِك» ضمير هو فاعله. عمدة القاري (1/298-299).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «أَوْشَكَ» أي: قَرُبَ؛ لأن متعاطي الشبهات قد يصادف الحرام وإن لم يتعمده، أو يقع فيه لاعتياده التساهل. فتح الباري (4/291).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «أن يُواقِعَهُ» في موضع نصب؛ لأنه بمنزلة يقارب الراعي المواقعة في الحِمَى، وأعاده الكرماني إلى الحرام، وما قلنا أوجه وأصوب.
وأما إذا كانت موصولة فتكون مرفوعة بالابتداء، وخبرها هو قوله: «كراعٍ يرعى»، ولا يكون فيه حذف، والتقدير: الذي وقع في الشبهات كراعٍ يرعى، أي: مِثْل راعٍ يرعى مواشيه حول الحِمَى، وقوله: «يُوشِك» استئناف. عمدة القاري (1/299).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«يُوشِك أن يُوَاقِعَه» أي: يَقْرُبُ، من أفعال المقاربة. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (1/128).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«أن يُواقِعَه» أي: الحرام؛ بكثرة تعاطيه للشبهات، وإن لم يتعمد، فيأثم بذلك إذا قصَّر. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (1/297).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«أن يُواقِعَه» أي: تأكل ماشيتُه منه فيُعَاقَب. التنوير شرح الجامع الصغير (5/444).
قوله: «أَلَا وإنَّ لكل مَلِكٍ حِمَى»:
قال البيضاوي -رحمه الله-:
«أَلَا» مُركَّبة من همزة الاستفهام وحرف النفي؛ لإعطاء معنى التنبيه على تحقق ما بعدها. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (2/211)
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «أَلَا» بفتح الهمزة وتخفيف اللام، حرف التنبيه، فيدل على تحقق ما بعدها، وتدخل على الجملتين نحو: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء} البقرة: 13، {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} هود: 8، وإفادتها التحقيق من جهة تركيبها من (الهمزة)، و(لا)، وهمزة الاستفهام إذا دخلت على النفي أفادت التحقيق، نحو: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} القيامة: 40. عمدة القاري (1/299).
وقال الزمخشري -رحمه الله-:
ولكونها في هذا المنصب من التحقيق لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدّرة بنحو ما يُتَلَقَّى به القَسَم. الكشاف (1/62).
وقال الصرصري -رحمه الله-:
قوله: «أَلَا» هو افتتاح كلام يُقصد به تنبيه السامعين لفهم الكلام، نحو: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} هود: 8، {أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ} فصلت: 54، {أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيط} فصلت: 54. التعيين في شرح الأربعين (1/102).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«أَلَا» معناه: اعْلَمْ، يقال للواحد والأكثر، والمذكر والمؤنث، بهذا اللفظ من غير تغيير. المفاتيح في شرح المصابيح (3/388).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«أَلَا» أي: انتبهوا واستمعوا ما أقول لكم. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (17/350).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «وإنَّ لكل مَلِكٍ حِمَى» الواو فيه عطف على مقدَّر، تقديره: أَلَا إنَّ الأمر كما تقدم، «وإن لكل مَلِكٍ حِمَى»...
فإن قلتَ: ما وجه ذكر (الواو) ههنا وتركها؟ وما وجه ذكرها في قوله: «ألا وإنّ في الجسد»؟
قلتُ: أما وجه ذكرها في قوله: «أَلَا وإنَّ حِمَى الله»: فبالنظر إلى وجود التناسب بين الجملتين من حيث ذِكْرِ الحِمَى فيها.
وأما وجه تركها: فبالنظر إلى بعد المناسبة بين حِمَى الملوك، وبين حِمَى الله الذي هو الْمَلِكُ الحق لا مَلِكَ حقيقة إلا الله تعالى.
وأما وجه ذكرها في قوله: «ألا وإن في الجسد»: فبالنظر إلى وجود المناسبة بين جملتين؛ نظرًا إلى أن الأصل في الاتقاء والوقوع هو ما كان بالقلب؛ لأنه عماد الأمر وملاكه، وبه قَوَامه ونظامه، وعليه تُبنى فروعُه، وبه تتم أصوله. عمدة القاري (1/299).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله: «إنَّ لكل مَلِكٍ حِمَى، وإن حِمَى الله محارمه» معناه: أن الملوك من العرب وغيرهم يكون لكل مَلِكٍ منهم حِمَى يحْمِيه عن الناس ويمنعهم دخوله، فمَن دخله أَوْقَعَ به العقوبة، ومن احتاط لنفسه لا يقارب ذلك الحِمَى؛ خوفًا من الوقوع فيه، ولله تعالى أيضًا حِمَى وهي محارمه، أي: المعاصي التي حرمها الله، كالقتل والزنا والسرقة، والقذف والخمر، والكذب والغيبة والنميمة، وأكل المال بالباطل وأشباه ذلك، فكل هذا حِمَى الله تعالى، مَن دَخَلَه بارتكابه شيئًا من المعاصي استحقَّ العقوبة، ومن قارَبَه يُوشِك أن يقع فيه، فمن احتاط لنفسه لم يقاربه، ولا يتعلق بشيء يُقرِّبه من المعصية، فلا يدخل في شيء من الشبهات. شرح النووي على مسلم (11/28).
وقال محمد الخضر الشنقيطي -رحمه الله-:
ولَمَّا جاء الإسلام بَطَلَ ما كان يفعله رؤساء العرب من الحِمَى، وقال -صلى الله تعالى عليه وسلم- كما أخرجه البخاري في المساقاة: «لا حِمَى إلا لله ولرسوله»، وصار الحِمَى خاصًّا بالخلفاء. كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري (2/380).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
والأظهر: أنَّ الواو أي: في قوله: «وإنَّ لكل مَلِكٍ» هي الابتدائية، والتي تُسَمَّى عند النحاة: الاستئنافية الدالة على انقطاع ما بعدها عما قبلها، كما ذكره صاحب المغني، والتحقيق: أنها عاطفة لما يُفهم من لفْظِهِ: «أَلَا» أُنَبِّهَ، ومِن قوله: «إنَّ لكل مَلِكٍ» حقًّا، فبهذا التأويل صح العطف؛ إذ عَطْفُ المفرد على الجملة لا يصح إلا باعتبار أن يتضمن المفرد معنى الفعل حيث تضمَّن هنا حقًّا معنى: أُحقِّق، كما حُقِّق في قوله تعالى: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} الأنعام: 96. مرقاة المفاتيح (5/1893).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
والأَوْلَى أنْ يُقال: الواو استئنافية، دالة على انقطاع ما بعدها عما قبلها. دليل الفالحين (5/ 21).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وفي اختصاص التمثيل بذلك نكتة وهي: أن ملوك العرب كانوا يَحْمُون لمراعي مواشيهم أماكن مختصة، يَتَوعَّدُون من يرعى فيها بغير إذنهم بالعقوبة الشديدة، فمثَّل لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بما هو مشهور عندهم، فالخائف من العقوبة، الْمُراقِب لرضا الْمَلِكِ يَبْعُدُ عن ذلك الحِمَى؛ خشية أن تقع مواشيه في شيء منه، فبُعْدُهُ أَسْلَمُ له، ولو اشتد حَذَرُه، وغير الخائف غير المراقِب يَقْرُب منه ويرعى من جوانبه، فلا يأْمَن أن تنفرد (الْفَاذَّةُ) الشاذة المنفردة من الغنم فتقع فيه بغير اختياره، أو يَمْحَلُ يَجْدُبُ المكان الذي هو فيه، ويقع الخصب في الحِمَى فلا يملك نفسَه أن يقع فيه، فالله -سبحانه وتعالى- هو الْمَلِكُ حقًّا، وحِمَاهُ: مَحَارِمُهُ. فتح الباري (1/128).
وقال المازري -رحمه الله-:
والأحكام والعبادات التي يتصرَّف الإنسان عليها بقلبه وجسمه تقع فيها مشكلات وأمور ملتبسات، التساهل فيها وتعويد النفس الجرأة عليها تُكْسِبُ فسادَ الدِّين والعِرْضِ، فَنَبَّهَ -صلى الله عليه وسلم- على توقِّي هذه، وضرب لها مثلًا محسوسًا؛ لتكون النفس له أشد تصورًا، والعقل أعظم قبولًا، فأخبر -عليه السلام- أن الملوك لهم أَحْمِيَة، لا سيما وهكذا كانت العرب تُعرف في الجاهلية؛ أن العزيز فيهم يَحْمِي مُرُوجًا (أي: أراض واسعة ذات حشائش) وأَفْنِيَةً، فلا يُتَجَاسَر عليها، ولا يُدْنَى منها؛ مهابةً من سَطْوَتِهِ، أو خوفًا من الوقوع في حَوْزَتِهِ، وهكذا محارم الله سبحانه، مَن تَرَكَ منها ما قَرُبَ فهو مِن تَوَسُّطها أَبْعَد، ومَن تَحَامَى طَرَفَ الشيء أُمِنَ عليه أن يتوسط، ومَن تَطَرَّفَ تَوَسَّطَ. المعلم بفوائد مسلم (2/308).
قوله: «أَلَا إنَّ حِمَى اللهِ في أرضِهِ مَحَارِمُهُ»:
قال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
قوله: «ألا وإن حِمَى الله محارمه» وهذا حِمَىً معنوي، وهو الذي أُرِيْدَ تَقْرِيبُه بضَرْبِ المثل بالحِمَى الحسي عندما ذكَرَ الراعي يرعى حول الحِمَى، وهذا هو المشَبَّه به. شرح الأربعين النووية (13/7).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
و«مَحَارِمُه» أي: المعاصي التي حرمها كالقتل والسرقة. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (1/204).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
وتنطلق المحَارم على المنهيَّات قصدًا، وعلى ترك المأمورات التزامًا، وإطلاقها على الأول أَشْهَرُ. إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام (2/ 279).
قوله: «أَلَا وإنَّ في الجسد مُضْغَةٌ إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجسد كُلُّه»:
قال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «أَلَا» بتخفيف اللام حرف تنبيه يُبتَدأ بها، ويدل على صحة ما بعدها، وفي إعادتها وتكرارها دليل على فخامة شأن مدخولها، وعِظَمِ مَوْقِعِهِ. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (1/204).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«أَلَا وإن في الجسد» أي: جسد الإنسان، فـ(أل) هنا للعهد الذهني...، لو شاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- لقال: أَلَا وإن القلب في الجسد، إذا صَلَح صَلُح الجسد لحصل المقصود، لكن أتى به بهذه الصيغة من أجل الاهتمام به والعناية به وبيان أهميته «أَلَا وهي القلب». فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (6/305).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «مُضْغَة» نُصِبَ لأنه اسم (إنَّ)، وخبرها هو قوله: «في الجسد» مقدمًا. عمدة القاري (1/299).
وقال النووي -رحمه الله-:
والـمُضْغَة: القطعة من اللحم؛ سميت بذلك لأنها تُمْضَغُ في الفم لِصِغَرها، قالوا: المراد تصغير القلب بالنسبة إلى باقي الجسد، مع أن صلاح الجسد وفساده تابعان للقلب. شرح النووي على مسلم (11/29).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
لَمَّا كان التورُّع والتَّهتُّك مما يتبع ميلان القلب إلى الصلاح والفجور، نَبَّهَ على ذلك بقوله: «أَلَا وإن في الجسد مُضْغَة إذا صلحت صلح الجسد كله»؛ ليُقْبِل المكلَّف عليه فيُصلحه، ويمنعه عن الانهماك في الشهوات، والإسراع إلى تحصيل المشتبهات، حتى لا يبادِر إلى الشبهات، ولا يستعمل جوارحه في اقتراف المحرمات. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (2/212).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: فدخول (إذا) لا بد أن يكون متحقق الوقوع، وههنا الصلاح غير متحقق؛ لاحتمال الفساد وبالعكس.
قلتُ: هو ههنا بمعنى (إنْ)؛ بقرينة ذِكْرِ المقابل، وقد وقع بينهما المبادلة. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (1/205).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «إذا صَلحت» أي: الـمُضْغَة، وهي: القلب. عمدة القاري (1/299).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله: «إذا صلَحت» قال أهل اللغة: يقال: صَلَحَ الشيء وفَسَدَ بفتح اللام والسين وضمهما، والفتح أفصح وأشهر. شرح النووي على مسلم (11/28).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «إذا صلَحت» «وإذا فسدت» هو بفتح عينهما، وتُضَمُّ في المضارع، وحكى الفراء الضمَّ في ماضي «صلُح»، وهو يضم وفاقًا إذا صار له الصلاح هيئةً لازمة؛ لشرف ونحوه، والتعبير بـ«إذا» لتحقق الوقوع غالبًا، وقد تأتي بمعنى: (إنْ) كما هنا. فتح الباري (1/128).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«إذا صلَحت» بفتح اللام أي: انشرحت بالهداية. شرح مصابيح السنة (3/383).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «صلح الجسد» جواب «إذا». عمدة القاري (1/299).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«صلح الجسد كله» أي: استُعْمِلَت الجوارحُ في الخيرات؛ لأنها متبوعة للجسد. شرح مصابيح السنة (3/383).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
فيه: إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه للمحرمات، واتقاءه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه، فإن كان قلبه سليمًا، ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتَوقِّي للشبهات؛ حذرًا من الوقوع في المحرمات.
وإن كان القلب فاسدًا قد استولى عليه اتِّبَاع هواه، وطَلَبُ ما يُحبُّه، ولو كرهه الله فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب.
ولهذا يقال: القلب مَلِكُ الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده، وهم مع هذا جنود طائعون له، منبعثون في طاعته، وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيء من ذلك، فإن كان الْمَلِكُ صالحًا كانت هذه الجنود صالحة، وإن كان فاسدًا كانت جنوده بهذه المثابة فاسدة، ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم. جامع العلوم والحكم (1/ 218).
قوله: «وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجسدُ كُلُّه»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«وإذا فَسَدَتْ» أي: انشرحَت بالضلالة. شرح مصابيح السنة (3/383).
وقال ابن الملك -رحمه الله- أيضًا:
«فسد الجسد كله» باستعمال الآلة في المنكرات. شرح مصابيح السنة (3/383).
قوله: «أَلَا وهي القلب»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «وهي القلب» جملة إسمية بالواو، وأيضًا عطف على مقدَّر. عمدة القاري (1/299).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وسمي القلب قلبًا: لِتَقَلُّبِهِ في الأمور، أو لأنه خالِصُ ما في البدن، وخالص كل شيء قلبه، أو لأنه وُضِعَ في الجسد مقلوبًا. فتح الباري (1/128).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
سميت بالقلب؛ لأنها محل الخواطر المختلفة الحاملة على الانقلاب.شرح مصابيح السنة (3/383).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وفيه تنبيه على تعظيم قدر القلب والحث على صلاحه والإشارة إلى أن لطيب الكسب أثرًا فيه، والمراد المتعلق به من الفهم الذي ركبه الله فيه. فتح الباري (1/128-129).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
وفي قوله: «أَلَا إن في الجسد مُضْغَة...» إشارة إلى أن صلاح القلب وفساده منوط باستعمال الورع وإهماله. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 656).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وخَصَّ القلب بذلك: لأنه أمير البدن، وبصلاح الأمير تصلح الرعية، وبفساده تفسد. فتح الباري (1/128).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
القلب هو العضو الصَّنُوبَرِي المعروف، وليس المراد به ذلك العضو؛ لأنه ليس مبعوثًا لبيان ما يعرض للأجسام من الأمراض، وهو ظاهر، بل المراد بالقلب: النفس الناطقة التي ذلك العضو سرير لها، فإذا استقامت النفس استقامت سائر القُوَى، فإنها آلات لها، أو القُوة العاقلة التي شأنها إيثار الخيرات، فإذا قويت على القُوى الشهوانية والغضبية التي هي جنود الشيطان وقَهَرَهَا، واستعملها في الخير كَرْهًا فقد صلح الجسد وسَلِمَ ونجا من عذاب النار وذُلِّ النَّدامة. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (1/128).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وله (يعني: للقلب) ظاهر، وهو الـمُضْغَة الصنوبرية الموْدَعَةُ في التجويف الأيسر من الصدر، وهو محل اللطيفة الإنسانية؛ ولذا نُسب إليه الصلاح والفساد، وبَاطِنٌ: وهو اللطيفة النورانية الربانية العالمة التي هي مهبط الأنوار الإلهية، وبها يكون الإنسان إنسانًا، وبها يستعد لامتثال الأوامر والنواهي، وبها صلاح البدن وفساده، وهي خلاصةٌ توَلَّدَتْ من الروح الروحاني، ويعبَّر عنها بالنفس الناطقة، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} الشمس: 7، والروح قال - عزَ وجلَّ -: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} الإسراء: 85، وهو مقر الإيمان {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} المجادلة: 22، كما أن الصدر محل الإسلام {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} الزمر: 22، والفؤاد مقر المشاهدة {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} النجم: 11، واللب مقام التوحيد {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَاب} الرعد: 19. مرقاة المفاتيح (5/1893).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
اعلم: أن الله خصَّ جنس الحيوان بهذا العضو المسمى: بالقلب، وأودع فيه المعنى الذي تنتظم به المصالح المقصودة من ذلك النوع، فتجد البهائم تُدْرِك مصالحها ومنافعها، وتميِّز بين مفاسدها ومضارها مع اختلاف أشكالها وصُوَرِهَا، إذ منها ما يمشي على بطنه، ومنها ما يمشي على أربع، ومنها ما يطير بجناحيه.
ثم خص الله تعالى من بين سائر الحيوان نوعَ الإنسان الذي هو المقصود الأول من الكونين، والمعنِيّ في العالمين بهذا القلب المخصوص المشتمل على هذا المعنى المخصوص، الذي به تميز الإنسان، ووقع به بينه وبين سائر الحيوانات الفرقان، وهو المعنى الذي به يَفْهَم القلب المفهومات، ويحصل به على معرفة الكليات والجزئيات، ويعرف به فرق ما بين الواجبات والجائزات والمستحيلات...
وإذا فهمت: أن الإنسان إنما شرَّفه الله تعالى على سائر الحيوان بهذا القلب، وأن هذا القلب لم يَشْرُفْ من حيث صورته الشكلية، فإنها موجودة لغيره من الحيوانات البهيمية، بل من حيث هو مَقَرّ لتلك الخاصية الإلهية، عَلِمْتَ أنه أَشْرَفُ الأعضاء، وأَعَزُّ الأجزاء؛ إذ ليس ذلك المعنى موجودًا في شيء منها، ثم إن الجوارح مُسَخَّرة له ومُطِيْعَة، فما استقر فيه ظهر عليها، وعملت على مقتضاه: إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
وعند هذا انكشف لك معنى قوله: «إذا صلَحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله».
ولما ظَهَر ذلك: وجبت العناية بالأمور التي يَصْلُحُ بها القلب؛ ليتصف بها، وبالأمور التي تفسد القلب؛ ليتجنبها، ومجموع ذلك: علومٌ، وأعمالٌ، وأحوال.
فالعلوم ثلاثة:
الأول: العلم بالله تعالى وصفاته وأسمائه، وتصديق رسله فيما جاؤوا به.
والثاني: العلم بأحكامه عليهم، ومُرَادِهِ منهم.
والثالث: العلم بمساعي القلوب مِن خواطرها وهمومها، ومحمودِ أوصافها ومذمومها.
وأما أعمال القلوب: فالتحلِّي بالمحمود من الأوصاف، والتَّخَلي عن المذموم منها، ومُنَازَلَةِ المقامات، والترقي عن مفضول الْمُنَازَلات إلى سِنِي الحالات.
وأما الأحوال: فمراقبة الله تعالى في السر والعلن، والتمكن من الاستقامة على السنن، وإلى هذا أشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: «أن تعبد الله كأنك تراه»، وتفصيل هذه المعاقد الجملية توجد في تصانيف محققي الصوفية. المفهم (4/496).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
بل هي (المعاقد التي ذكرها القرطبي) مفصَّلة في الكتاب والسنة، فمن أمعن النظر، وأجَال الفِكْرَ ظَفِرَ بمقاصدها، وأما ما اصطلح عليه المتأخرون من الألفاظ المصطلحية، فلا حاجة للمكلَّف إليها، ولا هي مما تكلم بها النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي جعل الله تعالى هداية الأُمَّة على يديه، ولا كان يعرفها الصحابة الكرام -رضي الله عنهم-، ولا التابعون لهم بإحسان، ولو سُئلوا عنها لما استطاعوا أن يفهموها، فضلًا عن أن يجيبوا عنها، ولو طُلِبَ من الأئمة الأربعة الفقهاء المحققين، أو من الأئمة الستة المحدِّثين الناقدين أن يحلُّوا بعض غوامضها لَمَا وجدوا إلى ذلك سبيلًا، فهيهات هيهات أن يكون هذا من مقاصد الدِّين الذي أكمله الله -سبحانه وتعالى- وأتمَّه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- حيُّ بين ظَهْرَانَي أصحابه، فلا يقبل الزيادة ولا النقص، قال الله -عزَّ وجلَّ- في محكم كتابه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} الآية المائدة: 3، وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من مُحْدَثات الأمور، فكان يقول في خطبته: «إنَّ أَصْدَقَ الحديث كتاب الله، وأْحَسَنَ الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»، رواه النسائي رقم: (1578) بسند صحيح...
وبالجملة فمن لم يستغن بكتاب الله تعالى، وكتب السنة المطهرة، كالكتب الستة وغيرها، فلا يُرْجَى منه خير أبدًا، فعليه أن يبكي على نفسه، ويتوب إلى الله تعالى، ويسأله أن يصلح قلبه وقالبه. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (27/742).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
ونَبَّهَ... أن قلب كلٍّ مَلِكٍ، وأن جسده حِمَاهُ، فهو يحميه من إفساد الشيطان والنفس الأمارة، وكما أن صلاح الجسد بصلاحه وفساده بفساده كذلك العكس، وصلاح الجسد إنما هو بأن يتغذى بالحلال، فيصفو ويتأثر القلب بصفائه ويتنوَّر، فينعكس نوره إلى الجسد، فيَصْدُرُ منه الأعمال الصالحة، وهو المعنيّ بصلاحهما، وإذا تغذى بالحرام يصير مَرْتَعًا للشيطان والنفس، فيتكدَّر ويتكدَّر القلب فيُظْلِم، وتنعكس ظُلمته إلى البدن، فلا يصدر منه إلا المعاصي، وهو المراد بفسادهما.
ثم إذا ساس القلبُ الجسد وهداه رُشْدَهُ استحق أن يكون وارث الأنبياء، وخليفة الله في حِمَاهُ على عباده، يسوسهم ويكمِّل الناقصين منهم، ويوصلهم إلى جناب الله الأقدس، فحينئذٍ ترى الحديث بحرًا لا ساحل له. الكاشف عن حقائق السنن (7/2101).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
قوله: «إذا صلَحت» إلى قوله: «أَلَا وهي القلب» هذا أصل عظيم، فحقٌّ على كل مُكَلَّفٍ السعي التام في إصلاح قلبه ورياضة نفسه، وحَمْلِها على الأخلاق الجميلة المحصِّلة لطهارة قلبه وصلاحه. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (3/201).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- كلمةً جامعةً لصلاح حركات ابن آدم وفسادها، وأن ذلك كله بحسب صلاح القلب وفساده، فإذا صلح القلب صلَحت إرادته، وصلَحت جميع الجوارح، فلم تنبعث إلا إلى طاعة الله واجتناب سخطه، فَقَنِعَت بالحلال عن الحرام، وإذا فسد القلب فسدت إرادته، ففسدت الجوارح كلها، وانبعثت في معاصي الله -عزَّ وجلَّ- وما فيه سخطه، ولم تَقْنَع بالحلال، بل أسرعَتْ في الحرام بحسب هوى القلب وميله عن الحق.
فالقلب الصالح هو القلب السليم الذي لا ينفع يوم القيامة عند الله غيره، وهو أن يكون سليمًا عن جميع ما يكرهه الله، من إرادة ما يَكْرَهُهُ الله ويسخطه، ولا يكون فيه سوى محبة الله وإرادته، ومحبة ما يحبه الله، وإرادة ذلك، وكراهة ما يكرهه الله والنفور عنه.
والقلب الفاسد: هو القلب الذي فيه الميل على الأهواء المضِلَّة والشهوات المحرمة، وليس فيه مِن خشية الله ما يَكُفُّ الجوارح عن اتباع هوى النفس.
فالقلب مَلِكُ الجوارح وسلطانها، والجوارح جنوده ورعيته المطيعة له، المنقادة لأمره، فإذا صلح الْمَلِكُ صلَحت رعاياه وجنوده المطيعة له المنقادة لأوامره، وإذا فسد الْمَلِكُ فسدت جنوده ورعاياه المطيعة له، المنقادة لأوامره ونواهيه. فتح الباري (1/229).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
الجوارح وإن كانت تابعة للقلب فقد يتأثر القلب بأعمالها؛ للارتباط الذي بين الباطن والظاهر، والقلب مع الجوارح كالْمَلِكِ مع الرعية، إن صلح صلَحت، ثم يعود صلاحها عليه بزيادة مصالح ترجع إليه...، وقد نص على هذا المعنى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «إن الرجل ليَصْدُقُ فَيُنْكَت في قلبه نُكْتَةٌ بيضاء، حتى يُكْتب عند الله صِدِّيقًا، وإن الرجل ليكذب الكذبة فيَسْوَدّ قلبُه حتى يُكتب عند الله كذابًا»، وفي الترمذي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: «إن الرجل ليُصِيب الذنب فيَسْوَدَّ قلبه، فإنْ هو تاب صُقِلَ قلبه»...، وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله: «إن في الجسد مُضْغَة إذا صلَحت صلح الجسد»، متصلًا بقوله: «الحلال بيِّن، والحرام بيِّن»؛ إشعارًا بأن أَكْلَ الحلال ينوِّره ويصلحه، وأكل الحرام والشبهة يفسده ويُقَسِّيه ويظلمه. المفهم (4/497).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
هذا الحديث حديث عظيم؛ وهو أحد الأحاديث التي مَدار الدِّين عليها، وقد قيل: إنه ثُلُثُ العلم أو رُبُعَه. فتح الباري (1/224).
وقال النووي -رحمه الله-:
أجمع العلماء على عِظَمِ وقْعِ هذا الحديث، وكثرة فوائده، وأنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، قال جماعة: هو ثلث الإسلام، وأن الإسلام يدور عليه وعلى حديث: «الأعمال بالنية»، وحديث: «مِن حُسْنِ إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، وقال أبو داود السجستاني: يدور على أربعة أحاديث هذه الثلاثة، وحديث: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، وقيل: حديث «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس». شرح النووي على مسلم (11/27).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
تكلَّم الناس على هذا الحديث، فمنهم من جعله ثلث الإسلام، ومنهم من جعله ربعه، وأكثروا في التقسيمات، وأكثرها تحكُّمات تحتمل الزيادة والنقص، وعلى الجملة فإن المعاني مشتركة، فلو قال قائل: إنه نصف الإسلام، لَوَجَدَ لذلك وجهًا من الكلام، حتى لو غالى مُغَالٍ فقال: إنه جُمْلَةُ الدِّين لما عَدِمَ وجهًا، وإنْ بَعُدَ في التَّبيين، ولكن هذه المعاني داخلة، مُدْخِلَة لمتعاطيها في المتكلفين، وينبغي أن يُؤتى كل شيء في بابه، ويُقَدَّر في نصابه. عارضة الأحوذي (5/40).
وقال المازري -رحمه الله-:
إنما نبَّهَ أهل العلم على عِظَم هذا الحديث؛ لأن الإنسان إنما تعبد بطهارة قلبه وجسمه، فأَكْثَرُ الْمَذَامّ والمحظورات إنما تنبعث من القلب، فأشار -صلى الله عليه وسلم- لإصلاحه، ونَبَّهَ على أن صلاحه هو إصلاح الجسم، وأنه الأصل، وهذا صحيح يُؤْمِنُ به حتى من لا يُؤْمِنُ بالشرع، وقد نص عليه الفلاسفة والأطباء. المعلم بفوائد مسلم (2/308).
وقال النووي -رحمه الله-:
قال العلماء: وسبب عِظَم مَوْقِعِهِ: أنه -صلى الله عليه وسلم- نبَّه فيه على إصلاح المطعم والمشرب والملبس وغيرها، وأنه ينبغي ترك المشتبهات؛ فإنه سبب لحمايةِ دِيْنِهِ وعِرْضه، وحذَّر من مُواقَعَةِ الشبهات، وأَوْضَح ذلك بضرب المثل بالحِمَى، ثم بيَّن أهم الأمور وهو مراعاة القلب، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «أَلَا وإن في الجسد مُضْغَة» إلى آخره، فبيَّن -صلى الله عليه وسلم- أن بصلاح القلب يصلح باقي الجسد، وبفساده يفسد باقيه. شرح النووي على مسلم (11/27).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة -رحمهم الله تعالى- كلام حَسَنٌ، غير أنهم لو أَمْعَنُوا النظر في هذا الحديث كله من أوله إلى آخره لوجدوه متضمِّنًا لعلوم الشريعة كلها ظاهرها وباطنها، وإن أردْتَ الوقوف على ذلك فأَعِد النظر فيما قررناه من الجُمل في الحلال والحرام والمتشابهات، وما يُصلِحُ القلوب وما يفسدها، وتَعَلُّق أعمال الجوارح بها، وحينئذٍ يستلزم هذا الحديث معرفة تفاصيل أحكام الشريعة كلها، أصولها وفروعها. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (17/355).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
ومنها (يعني: من فوائد الحديث): بيان عِظَمِ موقع هذا الحديث، وأنه ذو شأن ونباهة، فلذا قد توارد أكثر أئمة الحديث الذين خرَّجوه على إيراده في كتاب البيوع؛ لأن الشبهة في المعاملات تقع فيها كثيرًا، وله أيضًا تعلُّق بالنكاح وبالصيد، والذبائح والأطعمة والأشربة وغير ذلك من أبواب المعاملات، كما لا يخفى على من تأمل ذلك. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (34/91).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
واستنبط منه بعضهم منع إطلاق الحلال والحرام على ما لا نص فيه؛ لأنه من جملة ما لم يَسْتَبِن، لكن قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يعلمها كثير من الناس» يُشعر بأن منهم من يعلمها. فتح الباري (4/291).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث أحكام:
منها: الحث على الحلال وتَبَيُّنِه.
ومنها: الحث على اجتناب الحرام وتَبَيُّنِه.
ومنها: الإمساك عن الشبهات. العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام (3/1586).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وفي هذا: إشارة إلى أنه ينبغي التباعد عن المحرمات، وأن يجعل الإنسان بينه وبينها حاجزًا.
وقد خرَّج الترمذي، وابن ماجه من حديث عبد الله بن يزيد، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به؛ حذرًا مما به بأس». جامع العلوم والحكم (1/ 217).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وفيه: دليل على أن الشبهة لها حكم خاص بها، عليه دليل شرعي، يمكن أن يصل إليه بعض الناس، فمن ظَفَرَ به فهو المصيب. المفهم (4/489).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
ومنها (يعني: من فوائد الحديث): أن بَيْنَ الحلال والحرام مرتبة ينبغي التنبُّه لها، وأخذ الحذر منها، ألا وهي الشبهات، فعلى العاقل أن يحاسب نفسه عندها، ويأخذ حذره منها، فإنه إذا أرخى العنان لنفسه فيها، جرَّه ذلك إلى التجاوز إلى الحرام، فليتق الله تعالى عند الشبهات؛ ليسهل عليه البُعْد عن المحرمات وإلَّا وقع في المهلكات. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (34/91).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وفيه: أن الراسخين في العلم يمكن أن يَعْلَمُوا بعض هذه الشبهات؛ لقوله: «لا يعلمها كثير من الناس»، فدل أنه يعلمها قليل منهم، كما قال تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} النساء: 83. شرح صحيح البخاري (1/117).
وقال الصرصري -رحمه الله-:
وفيه: إشارة إلى فضل العلماء؛ لعلمهم بما لم يعلم غيرهم، وحَلّهم ما أشكل على غيرهم. التعيين في شرح الأربعين (1/98).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
ومنها (يعني: من فوائد الحديث): التنبيه على مرتبة العلم والعلماء وشرفهما. العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام (3/1587).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ومن فوائد الحديث: أن الناس يختلفون في العلم؛ لقوله: «لا يعلمهن كثير من الناس». وهل يختلفون في الفهم؟ نعم، يختلفون في الفهم اختلافًا عظيمًا، أما العلم فمعناه: الاطلاع على الأدلة الشرعية وعلى أقوال العلماء، وأما الفهم: فهو غريزة يجعلها الله -عزَّ وجلَّ- في الإنسان، وقد تكون مكتسبة فتزيد من التَّمَرُّن، وهذا أمر مُشاهَد، الإنسان كلما تمرَّن على تدبر النصوص وتَفَهُّمها ازداد فهمًا، وكم من إنسان أخذ من نص واحد عدة مسائل، وآخر لم يأخذ منه إلا مسألة واحدة؟! ففَضْلُ الله يؤتيه من يشاء، وقد سئل علي بن أبي طالب: «هل عَهِدَ إليكم النبي -صلى الله عليه وسلم- بشيء؟ قال: لا والذي فَلَقَ الحبَّة وبرأ النَّسْمة، إلا فهمًا يؤتيه الله تعالى أحدًا في كتابه»، فقال: «إلا فهمًا» دل ذلك على أن الإنسان قد يدرك بفهمه ما لا يدركه غيره. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (6/306).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وفيه: دليل على أن المصيب من المجتهدين في مسائل الاشتباه واحد؛ لأنه جعل المشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، مع كون بعضهم في طلب حكمها مجتهدين، فدل على أن مَن يعلمها هو المصيب العالِم بها دون غيره ممن هي مشتبهة عليه، وإن كان قد يجتهد في طلب حكمها، ويصير إلى ما أدّاه إليه اجتهاده وطلبه. فتح الباري (1/228-229).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يحرص على معرفة المشتبه؛ حتى يكون على يقين من أمْرِه، فإن دام الاشتباه ولم يصل إلى نتيجة فالورع ترك المشتبه. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (6/307).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
استدل به ابن المنير على جواز بقاء المجمل بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي الاستدلال بذلك نظر، إلا إن أراد به أنه مجمل في حق بعض دون بعض، أو أراد الرد على منكري القياس فيحتمل ما قال. فتح الباري (1/128).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
ومنها (يعني: من فوائد الحديث): إلحاق المشتبه بالممنوع منه، إلى أن يستبين أمره.
ومنها: أن ارتكابه سبب للوقوع في الممنوع منه. العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام (3/1587).
وقال البغوي -رحمه الله-:
فيه: دليل على جواز الجرح والتعديل، فإنَّ مَن لم يَتَوَقَّ الشُّبَه في كسبه ومعاشه فقد عرَّض دينه وعِرضه للطعن. شرح السنة (8/ 16).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وفيه: دليل أن من لم يَتَّقِ الشبهات المختلَف فيها، وانتهك حرمتها فقد أوجد السبيل إلى عِرضه ودِينه، وأنه يمكن أن يُنال من عِرضه بذلك في حديثٍ رواه، أو شهادة يشهد بها؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعِرْضه ودِينه». شرح صحيح البخاري (1/117).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وفيه: دليل على أن طلب البراءة للعِرض ممدوح كطلب البراءة للدِّين، ولهذا ورد: «أن ما وَقَى به المرء عِرضه فهو صدقة». جامع العلوم والحكم (1/ 213).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وهذا الحديث أصل في القول بحماية الذرائع. شرح صحيح البخاري (1/117).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
فكل ذريعة تُوصِل إلى محرم فالواجب اجتنابها. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (6/307).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
ويستدل بهذا الحديث من يذهب إلى سد الذرائع إلى المحرمات، وتحريم الوسائل إليها، ويدل على ذلك أيضًا: من قواعد الشريعة تحريم قليلِ ما يُسْكِرُ كثيره، وتحريم الخلوة بالأجنبية، وتحريم الصلاة بعد الصبح وبعد العصر؛ سدًّا لذريعة الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، ومنع الصائم من المباشرة إذا كانت تُحرِّك شهوته، ومَنَعَ كثير من العلماء مباشرة الحائض فيما بين سُرَّتها ورُكبتها إلا من وراء حائل، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمر امرأته إذا كانت حائضًا أن تَتَّزِرَ، فيباشرها من فوق الإزار. جامع العلوم والحكم (1/ 218).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وفي الحديث: دليل على صحة القياس وتمثيل الأحكام وتشبيهها. فتح الباري (1/228).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ومن فوائد الحديث: حُسن تعليم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بضرب الأمثال المحسوسة؛ ليُتوصل بها إلى فهم المعاني المعقولة، بأنْ شَبَّهَ النبي -صلى الله عليه وسلم- من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدِينه وعِرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام بالراعي، الراعي كلنا يعرف أنه إذا رعى حول الحِمَى فإنه يُوشِك أن يقع فيه. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (6/307).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
يُستفاد من الحديث: ضرب الأمثال لتقرير المعاني المعنوية بتشبيهها بالحسيَّة. فتح القوي المتين في شرح الأربعين (43).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وهل من فوائد الحديث: جواز الحِمَى في البَرِّ، أن يحمي الإنسان لنفسه مكانًا يرعى فيه إبله وغنمه وبقره وما أشبه ذلك؟
لا؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- مثَّل بأمر واقع، أما هل يجوز أو لا يجوز؟ فهذا شيء آخر يُؤخَذ من نصوص أخرى، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يذكر الأمور الواقعة أحيانًا لا لإقرارها ولكن لبيان أنها ستقع.
إذًا: هل يجوز أن يتخذ الإنسان له مكانًا يحميه من المراعي الطيبة؟
نقول: أما إذا كان ذلك لخاصة نفسه فإنه لا يجوز؛ لأن الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار، وأما إذا كان لمصالح المسلمين العامة فلا بأس؛ لأنه لم يتخذه لنفسه، فإذا قُدِّر أن هذا الأمير حَمَى أرضًا مخصبة جيدة لإبل الصدقة مثلًا أو لغنم الصدقة أو لبقر الصدقة فهذا جائز، ولكن أيضًا بشرط ألَّا يضر المسلمين الآخرين، يعني: بأن تكون المراعي واسعة، أما إذا كان يضرهم مثل ألَّا يوجد في مراعي البلد إلا هذه القطعة فإنه لا يجوز أن يحميها ولو لمصالح المسلمين؛ وذلك لأن المصالح العامة لا يمكن أن تقضي قضاء مُبْرَمًا على المصالح الخاصة؛ لأننا لو قلنا: لك أن تحمي إبل الصدقة، بقِيَت إبل الناس تموت جوعًا، فإذا كان يضرهم فهو ممنوع حتى وإن كان للمصالح العامة. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (6/307-308).
وقال ابن العطار -رحمه الله-
ومنها (يعني: من فوائد الحديث): التنبيه على عظمة الله -سبحانه وتعالى-، واجتناب محارمه التي مصالحها ونفعها عائد علينا؛ لأنه الغني المطلق، ولهذا قال -سبحانه وتعالى-: {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} الزمر: 7. العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام (3/1587).
وقال النووي -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث: التأكيد على السعي في صلاح القلب وحمايته من الفساد. شرح النووي على مسلم (11/29).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
فيه: إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابَه للمحرمات، واتِّقاءَه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه. جامع العلوم والحكم (1/ 218).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
ومنها (يعني: من فوائد الحديث): أن الأعمال القلبية أفضل من الأعمال البدنية، وأنها لا تصلح الأعمال البدنية إلا بالقلبية. العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام (3/1587).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
ويُستفاد من الحديث: أنَّ فسادَ الظاهر دليلٌ على فساد الباطن. فتح القوي المتين في شرح الأربعين (44).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
اعلم أن هذا الحديث يَرُدُّ على أولئك الأقوام الذين إذا نهيتَهم عن معصية قالوا: التقوى ههنا وأشاروا إلى صدورهم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعل ذلك وأشار إلى صدره، فنقول لهم: لو كان ما ههنا متَّقيًا لاتَّقَى الظاهر؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: «إذا صلَحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله» فساد الظاهر يدل على فساد الباطن، وأما صلاح الظاهر فلا يدل على صلاح الباطن؛ لأنه قد يقع هذا من المنافق يصلح ظاهره ولكن باطنه خبيث. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (6/332).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
استدل به بعض أصحابنا على أحد الوجهين فيما إذا حلف لا يأكل لحمًا، فأكل قلبًا أنه يحنث به، وإليه مال أبو بكر الصيدلاني المروزي، والأصح أنه لا يحنث به؛ لأنه لا يُسمى لحمًا عُرْفًا. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (3/201).
وقال الصرصري -رحمه الله-:
هذا الحديث يرجع من آي الكتاب إلى قوله -عزَّ وجلَّ-: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} البقرة: 172، {أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} البقرة: 267، وإطلاق الطيِّب يقتضي المحض الخالي من الشبهة؛ لأن الشيء إما طيب، أو خبيث، أو مركَّب منهما، والخبيث لا يدخل تحت لفظ الطيِّب، والمركَّب منهما يرجع كل جزء منه إلى أصله، فلا يدخل منه تحت لفظ الطيِّب إلا الجزء الطيِّب.
ومن السُّنة إلى قوله -عليه الصلاة والسلام-: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك». التعيين في شرح الأربعين (1/103).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وفيه: أن العقل والفهم إنما هو في القلب وموطنه، وما في الرأس منه إنما هو عن القلب ومنه سببه. شرح صحيح البخاري (1/117).
وقال المازري -رحمه الله-:
وقد اختلف الناس في محل العقل من الإنسان، فمذهب بعض الأئمة من المتكلمين أنه في القلب، وإليه صار جمهور الفلاسفة، ويحكى عن أرسطاطاليس وهو رئيس الفلاسفة.
وقالت الأطباء: إنه في الدماغ، ويحكى هذا عن أبي حنيفة.
وقد احتج بعض الأئمة من المتكلمين على أنه في القلب بقوله -سبحانه وتعالى-: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} الآية الحج:46، فأضاف العقل إلى القلب، وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} ق:37.
واحتجوا أيضًا بهذا الحديث، وقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاح الجسد كله وفساده كله تابعًا للقلب، والدماغ من جملة الجسد، فاقتضى ظاهر الحديث كون فساده وصلاحه تبعًا للقلب، وهذا يدل على أنه ليس بمحل للعقل. المعلم بفوائد مسلم (2/315).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
واحتج القائلون بأنه في الدِّماغ: بأنه إذا فسد الدِّماغ فسد العقل، ويكون من فساد الدماغ الصرع في زعمهم.
ولا حُجة لهم في ذلك؛ لأن الله -سبحانه- أجرى العادة بفساد العقل عند فساد الدماغ، مع أن العقل ليس فيه، ولا امتناع من ذلك، لا سيما على أصولهم في الاشتراك الذي بين الدماغ والقلب، وهم يجعلون بين رأس المعدة والدماغ اشتراكًا. العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام (3/1585).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
والحق أنّ هذا الخلاف لا يستقيم بعد ثبوت الحقائق العلمية التشريحية بأن القوة المدركة العاقلة في الرأس لا في القلب، أما الآيات والأحاديث التي أَسْنَدَت التفكير للقلب فمن السهل توجهيها؛ إذ الأمور قد تُنْسب للسبب البعيد على الحقيقة، وللسبب القريب المباشر على الحقيقة أيضًا، فتقول: قطع الجزار اللحم، وتقول: قطع السكين اللحم، ولا شك أن القلب مصدر الحياة لجميع أعضاء الجسم، ومنها الدماغ. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (6/334).