الأحد 23 رمضان 1446 هـ | 23-03-2025 م

A a

«اجْعَلُوا مِن صلاتِكُم في بُيُوتِكُم، ولا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا».


رواه البخاري برقم: (432)، ومسلم برقم: (777) واللفظ له، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.


شرح مختصر الحديث


.


شرح الحديث


قوله: «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم»:
قال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «‌اجعلوا في ‌بيوتكم من ‌صلاتكم» يعني: صلوا في ‌بيوتكم، ولا ‌تتخذوها كالمقابر؛ فإن المقابر هي التي نُهِيَ عن الصلاة فيها.
وقيل: معناه: صلوا في ‌بيوتكم؛ فإنكم لو لم تصلوا فيها فقد شبَّهتم ‌بيوتكم بالمقابر، وشبَّهتم أنفسكم بالموتى.
ومن قال: معناه: لا تدفنوا الموتى في ‌بيوتكم، فقد أخطأ؛ لأن النبي -عليه السلام- دُفِنَ في بيته بإجماع من الصحابة. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 71).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«‌اجعلوا في ‌بيوتكم من ‌صلاتكم» النافلة، وفي الصحيحين حديث: «صلوا أيها الناس في ‌بيوتكم؛ فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة»، وإنما شُرِعَ ذلك لكونه أبعد من الرياء، ولتنزل الرحمة فيه والملائكة، لكن استُثني منه نفل يوم الجمعة قبل صلاتها، فالأفضل كونه في الجامع؛ لفضل البكور، وركعتا الطواف والإحرام، وكذا التراويح للجماعة. إرشاد الساري (1/ 433).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«‌اجعلوا من ‌صلاتكم» ... وقيل: (من) زائدة؛ كأنه قال: ‌اجعلوا ‌صلاتكم النفل في ‌بيوتكم؛ لتعود بركتها على البيت وأهله، ولتنزل الرحمة فيها والملائكة، ويكثر خيرها، ويفر منها الشيطان، فالنفل في البيت أفضل منه في المسجد ولو الحرام، إلا ما سُن جماعة، وركعتا الطواف والإحرام وسنة الجمعة القبلية. فيض القدير (1/ 160).
وقال الروياني -رحمه الله-:
ولأن المسجد بُنِيَ للجماعة والنافلة لم تسنّ لها الجماعة؛ فكانت في البيت أولى؛ ولأنها في البيت أسلم من الرياء، والفرائض بُعدى عن الرياء؛ حيث كان يفعلها العامة والخاصة؛ ولأن الفرائض شعار الإسلام؛ فاستحب فيها الإظهار؛ بخلاف النافلة. بحر المذهب (2/ 76).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قوله: «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم»:
هذا من التمثيل البديع؛ وذلك بتشبيهه -صلى الله عليه وسلم- البيت الذي لا يصلى فيه بالقبر الذي لا يمكن الميت فيه عبادة، وشبّه النائم الليل كلَّه بالميت الذي انقطع منه فعل الخير، وقد قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: «صلاة المرء في بيته نور فنوروا ‌بيوتكم»، وللعلماء في معنى هذا الحديث قولان:
منهم من قال: إن الحديث ورد في النافلة دون الفريضة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد سنَّ الصلوات في الجماعة، ورغب في ذلك، وتوعَّد من تخلف عنها بغير عذر، وقال: «أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة»؛ فبان أن الحديث ورد في النافلة؛ لأنها إذا كانت في البيت كان أبرأ من الرياء والشغل بحديث الناس، فحض -صلى الله عليه وسلم- على النوافل في البيوت؛ إذ السر في النوافل أفضل من الإعلان، وعلى هذا التأويل تكون «من» زائدة، كأنه قال: اجعلوا صلاتكم النافلة في بيوتكم، كقوله: ما جاءني من أحد، وأنت تريد ما جاءني أحد، وإلى هذا الوجه أشار البخاري، وقد روي ما يدل عليه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، روى الطبري من حديث عبد الرحمن بن سابط، عن أبيه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «نوروا بيوتكم بذكر الله، وأكثروا فيها تلاوة القرآن، ولا تتخذوها قبورًا كما اتخذها اليهود والنصارى، فإن البيت الذى يُقرأ فيه القرآن يتسع على أهله، ويَكثر خيره، وتحضره الملائكة، ويدحض عنه الشيطان، وإن البيت الذى لا يُقرأ فيه القرآن يضيق على أهله، ويَقِلُّ خيره، وتَنفر عنه الملائكة، وتحضره الشياطين»، وقد روي عن جماعة من السلف أنهم كانوا لا يتطوعون في المسجد، روي ذلك عن حذيفة، وعن السائب بن يزيد، والنخعي، والربيع بن خثيم، وعبيدة، وسويد بن غفلة -رضي الله عنهم-.
وقال آخرون: هذا الحديث إنما ورد في الفريضة، و«مِن» للتبعيض، كأنه قال: اجعلوا بعض صلاتكم المكتوبة في بيوتكم؛ ليقتدي بكم أهلوكم، ومن لا يخرج إلى المسجد منهم، ومن يلزمكم تعليمُه؛ لقوله تعالى: {قُوْا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} التحريم: 6، ومَن تخلف عن جماعة لجماعة -وإن كانت أقل منها- فلم يتخلف عنها، ومن صلى في بيته جماعة فقد أَصاب سُنة الجماعة وفضلها، روى حماد، عن إبراهيم قال: إذا صلى الرجل مع الرجل فهما جماعة، لهما التضعيف خمسًا وعشرين درجة، وروي أنّ أحمد بن حنبل، وإسحاق، وعلي بن المديني -رحمهم الله- اجتمعوا في دار أحمد فسمعوا النداء، فقال أحدهم: اخرج بنا إلى المسجد، فقال أحمد: خروجنا إنما هو للجماعة، ونحن في جماعة، فأقاموا الصلاة وصلوا في البيت. شرح صحيح البخاري (3/ 176).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وللعلماء في معناه قولان: أحدهما: أنه أراد النافلة؛ كأنه قال: ‌اجعلوا ‌صلاتكم في ‌بيوتكم، يعني: النافلة، وتكون «من» زائدة، كما قالوا: ما جاءني مِن أحد يريدون: ما جاءني أحد.
وقال آخرون: أراد «‌اجعلوا ‌صلاتكم» يريد: المكتوبات في ‌بيوتكم؛ ليقتدي بكم أهلوكم ومن لا يخرج إلى المسجد منكم، ومن يلزمكم تعليمه؛ لقول الله -عز وجل-: {قُوْا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيْكُمْ نَارًا} التحريم: 6، يقول: أدِّبوهم وعلِّموهم.
وقالوا: معلوم أن الصلاة إذا أُطلِقت فإنما يراد بها: المكتوبة لا غيرها، حتى يقال: الصلاة النافلة، وشبهها.
قالوا: وحقيقة (من) التبعيض، فلا تخرج اللفظة عن حقيقة معناها إلا بدليل لا يحتمل التأويل، قالوا: ومَن تخلف عن الجماعة لجماعة أكثر منها أو أقل فلم يتخلف عنها، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة»، ولم يخص الجماعة من جماعة، ومن صلى في بيته في جماعة فقد أصاب سنة الجماعة وفضلها.
ذكر أبو بكر (ابن أبي شيبة) قال: حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا هشام الدستوائي، عن حماد، عن إبراهيم قال: إذا صلى الرجل مع الرجل فهما جماعة، لهما التضعيف خمسٌ وعشرون درجة. الاستذكار (2/ 335).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
للعلماء في معنى هذا الحديث قولان:
أحدهما: أنه أراد النافلة...
والقول الثاني: ذهب بعض الناس إلى أن المراد بذلك: أن يجعل بعض فرضه في بيته؛ ليقتدي به أهله.
وهذا ليس بصحيح؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يختلف عنه أنه قد أنكر التخلف عن الجماعات، والنساء كُنَّ يخرجن في ذلك الزمان إلى المساجد؛ فيتعلمن ويقتدين بصلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ووجه آخر: وقد كان أيضًا يقدر أن يعلِّم أهله بالقول، وإنما معنى ذلك عندي: أنه أراد به صلاة النافلة، وكذلك رواه ابن مُزَين عن عيسى بن دينار وابن نافع -رحمهم الله-.
ووجه ذلك: أن إتيانه في بيته بالنافلة أفضل من أن يأتي بها في مسجده، هذا حكم النوافل كلها ليستتر بها أفضل، بيّن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أفضل الصلاة صلاة أحدكم في بيته إلا المكتوبة»؛ فلا كلام لأحد مع هذا الحديث. المسالك في شرح موطأ مالك (3/ 184).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
«اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تجعلوها قبورًا»، وللعلماء في معنى الحديث قولان: فقال بعضهم: هذا في الفريضة و«من» للتبعيض، أُمِرُوا بذلك ليقتدي بهم في صلاتهم من لا يخرج من عيالهم ونسوانهم، قالوا: ولأن المتخلف عن الجماعة للصلاة في جماعة دونها غير متخلف، وقيل: بل هو في النافلة للتستر بها، وللحديث: «أفضل الصلاة صلاة أحدكم في بيته إلا المكتوبة»، وقد تكون على هذا «من» عندهم زائدة، كقوله: ما جاءني من أحد؛ ولهذا كان حذيفة وبعض السلف لا يتطوعون في المسجد، وهذا مذهب الجمهور، وعليه يدل حديث مسلم في الباب في سبب ذلك في قيامه الليل بالناس بقوله: «ظننت أن تكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم» الحديث، وقد يصح أن تكون للتبعيض على أصلها، وأن من النافلة ما يصلى في المساجد كتحية المسجد، ورواتب الصلوات وغير ذلك، ومنها ما يصلى في البيوت، قالوا: ولأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد أنكر التخلف عن صلاة الجماعة، وكن النساءُ يخرجن، وفي التعليم بالقول مقنع، ويصحح هذا: قوله في الحديث الآخر: «صلوا في بيوتكم»، وهذا يدل أنها النافلة، ولقوله: «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل في بيته نصيبًا من صلاته» هذا يدل أنها النافلة. إكمال المعلم (3/144).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«‌اجعلوا من ‌صلاتكم في ‌بيوتكم» «من» هنا للتبعيض، ويعني به: النوافل؛ بدليل قوله في الحديث الآخر: «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبًا من صلاته». المفهم (2/ 411).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قلتُ: وليس فيه ما ينفي الاحتمال، وقد حكى عياض عن بعضهم أن معناه: ‌اجعلوا بعضَ فرائضكم في ‌بيوتكم ليقتدي بكم مَن لا يخرج إلى المسجد من نسوة وغيرهن، وهذا وإن كان محتملًا، لكن الأول هو الراجح، وقد بالغ الشيخ محيي الدين (النووي) فقال: لا يجوز حمله على الفريضة. فتح الباري (1/ 529).
وقال النووي -رحمه الله-:
قلتُ: الصواب: أن المراد: النافلة، وجميع أحاديث الباب تقتضيه، ولا يجوز حمله على الفريضة، وإنما حث على النافلة في البيت لكونه أخفى وأبعد من الرياء، وأصْوَن من المحبطات، وليتبرك البيت بذلك وتنزل فيه الرحمة والملائكة، وينفر منه الشيطان؛ كما جاء في الحديث الآخر، وهو معنى قوله -صلى الله عليه وسلم- في الرواية الأخرى: «فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرًا». شرح مسلم (6/ 67).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
ما صوَّبه النووي -رحمه الله- هو الحق عندي، وكونه محتملًا للفريضة، كما قال الحافظ بعيد، وكيف يحتمل مع حديث: «فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة»؟. البحر المحيط الثجاج (16/ 149).

قوله: «ولا تتخذوها قبورًا»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «ولا ‌تتخذوها ‌قبورًا» أي: لا تُصَيِّروها كالقبور التي ليس فيها صلاة. المفهم (2/ 411).
وقال النووي -رحمه الله-:
معناه: صلوا فيها، ولا تجعلوها كالقبور مهجورة من الصلاة. شرح صحيح مسلم (6/ 67).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
اختلف العلماء في الصلاة في المقبرة، فروي عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو -رضي الله عنهم- أنهم كرهوا الصلاة في المقبرة، وروي عن عطاء، والنخعي، وبه قال أبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي، والشافعي -رحمه الله-، واختلف فيه قول مالك -رحمه الله-؛ فروى عنه أبو المصعب أنه قال: لا أحب ذلك، وروى عنه ابن القاسم أنه قال: لا بأس بالصلاة فيها، وكل من كره الصلاة من هؤلاء لا يرى على من صلى فيها إعادة، وقال أهل الظاهر: لا تجوز الصلاة في المقبرة، قال ابن المنذر: وحجة الذين كرهوا ذلك قول الرسول: «‌اجعلوا من ‌صلاتكم في ‌بيوتكم ولا ‌تتخذوها ‌قبورًا»، وفي قوله هذا دليل على أن المقبرة ليست بموضع للصلاة.
وحجة من أجاز الصلاة فيها: قوله -عليه السلام-: «جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا؛ فأينما أدركتني الصلاة صليتُ»؛ فلم يخصَّ موضعًا من موضع، فهو عام في المقبرة وغيرها، قال مالك: وقد بلغني أن بعض أصحاب رسول الله كان يصلي في المقابر، وحكى ابن المنذر أن واثلة بن الأسقع كان يصلي في المقبرة غير أنه كان لا يستتر بقبر، وصلى الحسن البصري -رحمه الله- في المقابر. شرح صحيح البخاري (2/ 86).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
لأن القبور لا صلاة فيها ولا عمل، وقد تأوله البخاري: لا تجعلوها كالمقابر التي لا تجوز الصلاة فيها، وترجم عليه: (كراهة الصلاة في المقابر)، والأول هو المعنى لا هذا. مشارق الأنوار (2/ 169).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
يعني: أن القبور موضع الموتى، فإذا لم تصلوا في بيوتكم ولم تذكروا الله فيها كنتم كالميت، وكانت كالقبور، فإن في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت»، وفي لفظ: «مثل البيت الذي يذكر الله فيه، والذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت». الفتاوى (3/ 73).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
الحديث محتمل لمعانٍ:
أحدها: أن القبور هي التي لا يصلى فيها؛ لأنها مساكن الأموات الذين سقط عنهم التكليف، وسد عنهم باب العمل، فأما البيوت: فصلوا فيها؛ إذ أنتم أحياء مكلفون ممكنون عن العمل.
وثانيها: أنكم نهيتم عن الصلاة في المقابر؛ فلا تتركوا الصلاة في منازلكم؛ فتكونوا قد شبهتم منازلكم بالمقابر.
وثالثها: أن مثل الذاكر والذي لا يذكر الله: ضرب بالحي والميت، والأحياء يسكنون البيوت، والأموات يسكنون القبور؛ فالذي لا يصلي في بيته جُعل بيته بمنزلة القبر؛ كما جَعل نفسه بمنزلة الميت.
ورابعها -وقد ذكره أبو سليمان الخطابي-: أن يكون معناه: لا تجعلوا ‌بيوتكم أوطانًا للنوم لا تصلون فيها؛ فإن النوم أخو الموت. الميسر في شرح مصابيح السنة (1/ 205).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
«ولا ‌تتخذوها ‌قبورًا» حمله البخاري على منع الصلاة في المقابر، وتعقب بأن القصد الحث على الصلاة في البيت؛ فإن الموتى لا يصلون في قبورهم، وكأنه قال: لا تكونوا كالموتى، وليس فيه تعرُّض لجواز الصلاة في المقابر، ولا منعها. مصابيح الجامع (2/ 138).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقد نازع الإسماعيليُّ المصنفَ (البخاري) أيضًا في هذه الترجمة فقال: الحديث دال على كراهة الصلاة في القبر لا في المقابر.
قلتُ: قد ورد بلفظ (المقابر) كما رواه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: «لا تجعلوا ‌بيوتكم مقابر»، وقال ابن التين: تأوله البخاري على كراهة الصلاة في المقابر، وتأوله جماعة على أنه إنما فيه الندب إلى الصلاة في البيوت؛ إذ الموتى لا يصلون، كأنه قال: لا تكونوا كالموتى الذين لا يصلون في بيوتهم وهي القبور، قال: فأما جواز الصلاة في المقابر أو المنع منه فليس في الحديث ما يؤخذ منه ذلك، قلتُ: إن أراد أنه لا يؤخذ منه بطريق المنطوق فمُسَلَّم، وإن أراد نفي ذلك مطلقًا فلا؛ فقد قدّمنا وجه استنباطه.
قلتُ: ويؤيده ما رواه مسلم: «مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه- كمثل الحي والميت».
قال الخطابي: وأما من تأوله على النهي عن دفن الموتى في البيوت فليس بشيء؛ فقد دفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيته الذي كان يسكنه أيام حياته، قلتُ: ما ادَّعى أنه تأويل هو ظاهر لفظ الحديث، ولاسيما إن جعل النهي حكمًا منفصلًا عن الأمر، وما استدل به على رده تعقّبه الكرماني فقال: لعل ذلك من خصائصه، وقد روي أن الأنبياء يدفنون حيث يموتون.
وإذا حمل دفنه في بيته على الاختصاص لم يبعد نهي غيره عن ذلك؛ بل هو متَّجِه؛ لأن استمرار الدفن في البيوت ربما صيرها مقابر فتصير الصلاة فيها مكروهة، ولفظ حديث أبي هريرة عند مسلم أصرح من حديث الباب، وهو قوله: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر»؛ فإن ظاهره يقتضي النهي عن الدفن في البيوت مطلقًا. فتح الباري (1/ 529).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
هذا الذي حقَّقه الحافظ -رحمه الله- بحث نفيس جدًّا، وحاصله: أنَّ استدلال البخاري -رحمه الله- بالحديث على النهي عن الصلاة في المقابر صحيح، وكذا استدلال من استدل به على النهي عن الدفن في البيوت واضح؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر»؛ فإنه ظاهر في ذلك؛ ولأنه إذا دفن في البيوت مع أمره -صلى الله عليه وسلم- بالصلاة في البيوت؛ فلا بد أن تكون الصلاة فيه واقعة عند القبر، وهو ممنوع، وأما دفنه -صلى الله عليه وسلم- في بيته، فإنه خاص بالأنبياء -عليهم السلام-، وبهذا يجمع بين الأحاديث، فتبصر. البحر المحيط الثجاج (16/ 151).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ولا ‌تتخذوها» أي: ‌بيوتكم، «‌قبورًا» أي: كالقبور التي ليست منازل أعمال؛ بل منازل جزاء، ويحتمل: لا تجعلوها كالقبور مظلمة لعدم تنويرها بالطاعات؛ فإن الطاعات تنور القلوب والوجوه والبيوت، وأعظم الطاعات الصلاة. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 375).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده:
1. منها: بيان استحباب الصلاة في البيوت.
2. ومنها: بيان النهي عن الصلاة في القبور، كما سبق احتجاج البخاري -رحمه الله- به، وكذا استدل به ابن المنذر، والخطابي، وغيرهما، كما قاله ابن رجب -رحمه الله- في شرح البخاري، بل نقل ابن المنذر -رحمه الله- عن أكثر أهل العلم أنهم استدلوا بهذا الحديث على أن المقبرة ليست بموضع الصلاة، وكذا قال البغوي في شرح السنة.
3. ومنها: بيان عدم مشروعية الدفن في البيوت. البحر المحيط الثجاج (16/ 152).

وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا)

وينظر حكم الصلاة في المقبرة (هنا)



ابلاغ عن خطا