صُمْنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في رمضان، فلم يَقُمْ بنا حتى بَقي سَبْعٌ من الشهر، فقام بنا حتى ذهب ثُلُثُ الليلِ، ثم لم يَقُمْ بنا في السادسةِ، فقام بنا في الخامسة، حتى ذهب شطْرُ، الليل، فقلتُ: يا رسول الله، لو نَفَّلْتَنَا بَقيَّةَ ليلتِنا هذه، فقال: «إنَّه مَن قام مع الإمام حتى ينصرف كُتِبَ له قيامُ ليلةٍ»، ثم لم يَقُمْ بنا حتى بقِيَ ثلاثٌ من الشهر، فقام بنا في الثالثة، وجَمَعَ أهلَهُ ونساءَهُ حتى تخوَّفنا أن يفُوتنا الفلاحُ، قلتُ: وما الفلاحُ؟ قال: السحُور.
رواه أحمد برقم: (21447)، وأبو داود برقم: (1375)، والترمذي برقم: (806)، والنسائي في الكبرى برقم: (1300) واللفظ له، وابن ماجه برقم: (1327)، وابن حبان برقم: (2547)، وابن خزيمة برقم: (2206)، والبيهقي في الشُّعَب برقم: (3007)، من حديث أبي ذر -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (2417)، صحيح سنن النسائي برقم: (1364).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«شَطْر»:
الشَّطْرُ: النصف. النهاية، لابن الأثير (2/ 473).
«نفَّلتَنَا»:
(بتشديد الفاء وتخفيفها) أي: زِدْتَنَا من صلاة النافلة، وسُمِّيت النوافل في العبادات نافلة؛ لأنها زائدة على الفرائض. النهاية، لابن الأثير (5/ 99).
«الفَلَاح»:
أصل الفلاح البقاء، وسمي السحور فلاحًا إذْ كان سببًا لبقاء الصوم، ومعينًا عليه. معالم السنن، للخطابي (1/ 282).
شرح الحديث
قوله: « صُمْنَا مع النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في رمضانَ»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«صُمْنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رمضان» فيه: جواز إطلاق لفظ رمضان بدون ذكر شهر، خلافًا لمن كَرِهَ ذلك. ذخيرة العقبى (16/ 28).
قوله: «فلمْ يَقُمْ بِنَا»:
قال محمود السبكي -رحمه الله-:
قوله: «فلم يقم بنا» أي: لم يصلِّ بنا قيام رمضان. المنهل العذب المورود (7/ 314).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «فلم يَقُم بنا...» يعني: لم يصلِّ بنا غير صلاة الفريضة، فإذا صلى الفريضة دخل حُجرته. المفاتيح (2/ 296).
قوله: «حتى بَقِيَ سَبْعٌ من الشَّهْرِ»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «حتى بقي سَبعٌ» أي: سبع ليال من الشهر. شرح أبي داود (5/ 279).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
«حتى بقي سبعٌ» أي: سبع ليالٍ، وهي الليلة الرابعة والعشرون (كذا قال، ولعله باعتبار اكتمال الشهر). الأزهار مخطوط لوح (176).
وقال السندي -رحمه الله-:
هي الأُولى مِن السبع الباقية، ودَأْبُ العرب أنهم يحسبون الشهر من الآخر. كفاية الحاجة (1/ 397).
قوله: «فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل»:
قال المظهري -رحمه الله-:
«فقام بنا» يعني: كان معنا «حتى ذهب ثلث الليل» فيصلي، ويذكر الله، ويقرأ القرآن. المفاتيح (2/ 296).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فقام بنا حتى ذهب نحوٌ من ثلث الليل» أي: صلى بنا الليلة السابعة مما بقي من الشهر، وهي الليلة الثالثة والعشرون (هذا خلاف ما ذكره الأردبيلي ولعله نظرًا إلى المتيقن وهو أنَّ الشهر تسع وعشرون وسياق الحديث يدل عليه)، ومد القيام حتى مضى زمنٌ يقدَّر بأنه نحو ثلث الليل. ذخيرة العقبى (16/ 28).
قوله: «ثم لم يَقُمْ بِنَا في السَّادسةِ»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «السادسة» أي: الليلة السادسة، وهي ليلة الرابع والعشرين من الشهر (نظرًا لنقصان الشهر وسياق الحديث يدل عليه). شرح أبي داود (5/ 279).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
«السادسة» أي: الليلة السادسة من البواقي، وهي الليلة الخامسة والعشرون (نظرًا لاكتمال الشهر). الأزهار مخطوط لوح (176).
قوله: «فقامَ بِنَا في الخامسةِ، حتى ذهبَ شَطْرُ الليلِ»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «الخامسة» أي: الليلة الخامسة، وهي ليلة الخامس والعشرين منه. شرح أبي داود (5/ 279).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«شَطْرُ الليل» أي: نصفه. المفاتيح (2/ 296).
قوله: «فقلتُ: يا رسول الله، لو نَفَّلْتَنَا بقيةَ ليلتِنَا هذه»:
قال التوربشتي -رحمه الله-:
ولو في قوله: «لو نفَّلتنا» بمعنى: ليت، أي: ليتك نفَّلتنا؛ ولهذا لم يأتِ فيه بالجواب. الميسر (1/ 323).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«لو» للتمني...، أي: إنا نتمنى أنْ تجعل قيام بقية الليل زيادة لنا على قيام الشطر، أو (تكون «لو») للشرط، أي: لو زِدْتَ على نصف الليل لكان خيرًا لنا. شرح المصابيح (2/ 196).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
قوله: «لو نَفَّلْتَنَا» النَّفَل محركة في الأصل الغنيمة والهبة، ونَفَلَهُ النَّفَل وأَنْفَلَه: أعطاه إياه، والمراد هنا: لو قمتَ بنا طولَ ليلتنا، ونفَّلتنا من الأجر الذي يحصل من ثواب الصلاة. نيل الأوطار (3/ 62).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«لو نفَّلتنا» أي: لو زدت في قيام الليل على نصفه؛ لكان خيرًا لنا. المفاتيح (2/ 296).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
سُمِّيت النوافل بها؛ لأنها زائدة على الفرائض. الكاشف عن حقائق السنن (4/ 1234).
قوله: «مَن قام مع الإمامِ حتى ينصرفَ»:
وقال محمد المباركفوري -رحمه الله-:
«حتى ينصرف» أي: الإمام. تحفة الأحوذي (3/ 438).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«صلى مع الإِمام» أيَّ صلاة، وأيَّ إمام، واستمر في صلاته. التنوير (3/ 457).
قال المظهري -رحمه الله-:
يعني: مَن صلى صلاة الفريضة مع الإمام، ويَصْبِرُ معه حتى ينصرف الإمام من المسجد إلى بيته يحصل له ثواب قيام ليلة تامة. المفاتيح (2/ 296-297).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«حتى ينصرف» من صلاته؛ وذلك بتمامها، فلا يخرج قبله، ويحتمل: أنْ يُراد وبقي في مصلاه حتى ينصرف الإِمام من مصلاه، ويحتمل: أنْ يُراد صلاة العِشَاء الآخرة أو الفجر. التنوير (3/ 457).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
وقيل: المراد بالصلاة في قوله: «إذا صلى مع الإمام» صلاة التراويح، والمعنى: «إنَّ الرجل إذا صلى» أي: التراويح في أول الليل في رمضان «مع الإمام حتى ينصرف» أي: يفرغ الإمام من الصلاة ويرجع. مرعاة المفاتيح (4/ 318).
قال الشافعي -رحمه الله-:
وللمأموم أن ينصرف إذا قضى الإمامُ السلامَ قبل قيام الإمام، وأن يُؤخر ذلك حتَّى ينصرف بعد انصراف الإمام، أو معه، أحبُّ إليَّ له. الأم (1/151).
وقال النووي -رحمه الله-:
المُراد بالانصراف: السلام. شرح صحيح مسلم (5/89).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
ينبغي للمأموم أن لا يقوم حتى ينصرف الإمام، أي: ينتقل عن القبلة، ولا ينبغي للإمام أن يقعد بعد السلام مستقبل القبلة، إلا مِقدار ما يستغفر ثلاثًا، ويقول: اللهم أنت السلام، ومِنك السلام، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام، وإذا انتقل الإمام فمَن أراد أن يقوم قام، ومن أحبَّ أن يقعد يذكر الله فعل ذلك. مجموع الفتاوى (22/505).
وقال ابن عثيمين -رحمه الله-:
المراد: ينصرف من الصلاة، وليس المُراد أن ينصرف، يقوم ويخرج، بل ينصرف من الصلاة. جلسات رمضانية(17/18).
وقال ابن عثيمين -رحمه الله-:
المُراد بالانصراف في قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: «مَن قام مع الإمام حتى ينصرف» قضاءُ الصلاة، فإذا سلَّم الإمام، فإن السُّنة أن ينصرف إلى المأمومين يقابلهم بوجهه، وحينئذٍ يكون قد انصرف، ويُكتب له قيامُ ليلة. اللقاء الشهري (8/44).
وقال الشيخ عبدالله الفوزان -حفظه الله-:
المراد بانصراف الإمام: انقضاء الصلاة. منحة العلام (ص: 94).
قوله: «كُتِبَ له قيامُ ليلةٍ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أي: حصل له ثواب قيام ليلة تامة، يعني: الأجر حاصل بالفرض، وزيادة النوافل مبنية على قدر النشاط؛ لأن الله لا يملُّ حتى تملُّوا، والظاهر أن المراد بالفرض العِشاء والصبح؛ لحديث ورد بذلك كذلك (يعني حديث: «من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله¬»). مرقاة المفاتيح (3/ 967).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
يشبه أن تختص هذه الفضيلة بقيام رمضان؛ فإن قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الرَّجُل إذا صلى مع الإمام» هو جواب عن سؤالهم: «لو نفَّلتنا قيام هذه الليلة»، والجواب تابع للسؤال، وهو تنفُّل قيام الليل، ويدل عليه قوله: «إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف» فذكر الصلاة مع الإمام، ثم أتى بحرف يدل على الغاية، والغاية لا بد لها من غاية ومعنى، فدل على أنَّ هذه الفضيلة إنما تتأتَّى إذا اجتمعت صلوات يُقتدى بالإمام فيها، وهذا لا يتأتَّى في الفرائض المؤدَّاة، ويجوز أن تدخل هذه الفضيلة في الفرائض، كما جاء في رواية المصنف والترمذي عن عثمان: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: «مَن صلى العشاء والفجر في جماعة كان كقيام ليلة»، وهذا يدل على أن من جمع بين هاتين الصلاتين مع إمامٍ كُتب له قيام ليلة، فإنَّ الصحيح عند الشافعية وغيرهم أنَّ الجماعة تحصل بإمام ومأموم فقط. شرح سنن أبي داود (6/ 624).
وقال المناوي -رحمه الله- متعقبًا ابن رسلان:
«له قيام ليلة» قال في الفردوس: يعني: التراويح. اهـ، ولم يَطَّلع عليه ابن رسلان، فبحثه حيث قال: يُشبه اختصاص هذا الفضل بقيام رمضان. فيض القدير (2/ 336).
وقال السندي -رحمه الله-:
(وهذا) تحريض لهم على اتِّباع الإمام، وأنَّ الإمام لا يكلَّف بما زاد على ما فعل. فتح الودود (2/ 95).
قوله: «ثم لم يَقُمْ بِنَا حتى بَقِيَ ثلاثٌ من الشَّهرِ»:
قال محمد المباركفوري -رحمه الله-:
«حتى بقي ثلاثٌ من الشهر» أي: الليلة السابعة والعشرون، والثامنة والعشرون، والتاسعة والعشرون (أي: باعتبار نقصان الشهر). تحفة الأحوذي (3/ 438).
قوله: «فقام بِنَا في الثَّالثةِ»:
قال العيني -رحمه الله-:
أي: الليلة الثالثة، وهي ليلة السابع والعشرين، ليلة القدر عند الجمهور، جمع رسول الله أهله ونساءه، وجمع الناس. شرح أبي داود (5/ 279).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
«الثالثة» يعني: ليلة ثمان وعشرين (أي: باعتبار كمال الشهر، أو جَرَى على مذهب الشافعي بأنَّ ليلة القدر أرجى ما تكون ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين). الأزهار مخطوط لوح (176).
قوله: «وجَمَعَ أهلَهُ ونساءَهُ»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
قوله: «جمع أهله» عطْفُ النساء على الأهل يدل على أنَّ الأهل لم يرد بهم نساءه؛ فإنَّ العطف يقتضي المغايرة، فيُحمل الأهل هنا على أولاده، وبني عمه وغيرهم من الأقارب، «ونساءه» إضافته إلى الضمير يدل على أنَّه جَمَعَ جميع نسائه. شرح سنن أبي داود (6/ 626).
قوله: «حتَّى تخَوَّفْنَا أنْ يفُوتَنَا الفلاحُ»:
قال محمود السبكي -رحمه الله-:
«أن يفوتنا الفلاح» يعني: أطال بنا القيام حتى خُفْنَا فوات السحور. المنهل العذب المورود (7/ 314).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«الفلاح» البقاء، وسُمِّي ما يُؤكل في السَّحَر فلاحًا؛ لأنه سبب بقاء قوة الصائم، ومُعين له على الصوم. المفاتيح (2/ 297).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
الحاصل: أنه قام بهم ليالي الأوتار، ليلة ثلاث وعشرين، وليلة خمس وعشرين، وليلة سبع وعشرين، فالأولى إلى نحو ثلث الليل، والثانية إلى نحو نصفه، والثالثة إلى أنْ خشوا أنْ يفوتهم السحور. السراج المنير (2/ 29).
قوله: «قلتُ: وما الفلاحُ؟»:
قال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«قلتُ» قائله جبير بن نفير الراوي عن أبي ذر. مرعاة المفاتيح (4/ 319).
قوله: «قال: السَّحُوُر»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«السَّحور» بفتح السين: ما يُتَسحَّر به، وبالضم: الفعل نفسه. التحبير (6/ 50).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
هذا كله يدل على أنَّ قيام رمضان جائز أنْ يُضاف إلى النبي -عليه السلام-؛ بحضِّه عليه، وعمله به، وأنَّ عمر إنَّما سَنَّ منه ما سَنَّه رسول الله. الاستذكار (2/ 64).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
الظاهر أنه مِن متن الحديث، لا من كلام الشيخ (البغوي)، ويدل عليه ما أورده أبو داود في سُننه؛ فإنه روى الحديث بإسناده عن جبير بن نفير عن أبي ذر، وذكر فيه أنه قال: «قلتُ: وما الفلاحُ؟ قال: السحور». تحفة الأبرار (1/ 376).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
الظاهر أن هذا اللفظ استعاره أبو ذر فاستعمله؛ لأنه لو كان مستعملًا فيما يتداوله أهل اللغة لم يخفَ على جبير بن نفير، وهو من أهل اللسان، وإنما سمي السحور فلاحًا لكونه مُعينًا على إتمام الصوم المفضي إلى الفلاح، أو لأنه من إقامة سُنة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ وذلك الفلاح كل الفلاح. الميسر (1/ 323).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
إِنما سُمي السحور: فلاحًا، وهو الفوز بالبُغْيَةِ؛ لأنه يُعين على إتمام الصوم، وهو الفوز بما قصده ونواه، أو الموجِب للفلاح في الآخرة. تحفة الأبرار (1/ 376).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
هذه الصلاة التي صلاها النبي -عليه الصلاة والسلام- في أوتار العشر الأخير بالجماعة لم نعلم أهي صلاة التراويح أم التهجد الواجب عليه، أم الوتر أم صلاة القَدْر؟ شرح المصابيح (2/ 196).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- متعقبًا ابن الملك:
لا مانع من الجمع، مع أنَّ صلاة القَدْرِ غير معروفة، والوتر لا يُزاد على ثلاث ركعات على ما تقرَّر في المذهب (الحنفي) وتحقق فيما سبق، وتقييد التهجد بالواجب غير مناسب؛ لأن وجوبه منسوخ حتى في حقه -عليه الصلاة والسلام- على المشهور. مرقاة المفاتيح (3/ 968).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
استدل الجمهور على أنَّ صلاة التراويح جماعة في المسجد أفضل منها في المنازل، وأنه مخصِّص لعموم حديث: «أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» رواه النسائي والطبراني عن زيد بن ثابت، هذا وحديث الباب يفيد أنه -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم- صلى التراويح ليلة الثالث، والخامس والسابع والعشرين، أي: أنه صلى بهم ثلاث ليال منفصلة، وحديث عائشة السابق يدل بظاهره على أنه صلى بهم ليلتين متواليتين.
ويُجمع بينهما: بأن في حديث عائشة اختصارًا لما تقدَّم في رواية البخاري من طريق عقيل عن ابن شهاب، وفيها: «فأَكْثَرَ أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم- فصلى فصَلَّوْا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله»، وبأنه ليس في حديثها ذكر الوصل صريحًا، فيُحمل على الانفصال، كحديث أبي ذر. المنهل العذب المورود (7/ 314).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
وأجاب من خالفهم (أي: الجمهور القائلين بأفضلية التراويح جماعة في المسجد) بأنه يجوز أنْ يُكتب له بالقيام مع الإمام بعض الليل قيام كله، وأنْ يكون قيامه في بيته أفضل من ذلك، ولا منافاة بين الأمرين، وأما حديث عثمان الذي أشار إليه القاري، فيقال في معناه: إنّ مَن صلى فريضة العشاء والصبح مع الإمام -أي: بالجماعة- يكون له ثواب ليلة كاملة ثواب صلاة الفرض، ويقال ها هنا: إنه إذا صلى التراويح مع الإمام حتى ينصرف يحصل له ثواب ليلة كاملة، ثواب صلاة النفل.
قيل: ويؤيد ذلك رواية الترمذي والنسائي وابن ماجه بلفظ: «من قام مع الإمام» بدل «إذا صلى مع الإمام»؛ فإن لفظ القيام ظاهر في معنى صلاة الليل أي: التراويح.
ويؤيده أيضًا: أن أبا ذر سأله -صلى الله عليه وسلم- أن ينفل بقية الليلة، وهذا يقتضي أن يجيب بأنه لا يحتاج إلى قيام بقية الليلة؛ لأن ثواب الليلة التامة قد حصل بالقَدْرِ الذي قام بهم.
ويؤيده أيضًا: أن قوله: «حتى ينصرف» فإنه يشير إلى أن الانصراف قبل أن ينصرف الإمام من جميع صلاته ممكن، ومن المعلوم أن الانصراف في الفرض في أثناء الصلاة غير ممكن؛ لأنه لا يحصل إلا بعد ما ينصرف الإمام بخلاف التراويح، فإن الانصراف فيها قبل انصراف الإمام ممكن؛ لأنها شفعات متعددة، فيمكن أن ينصرف الرَّجُل قبل أن يفرغ الإمام من جميع صلاة التراويح. مرعاة المفاتيح (4/ 318).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
الأَوْلى عندي أنْ يُقال: إنَّ المراد بالصلاة في قوله: «إذا صلى مع الإمام» صلاة التراويح؛ فإنه إذا صلى فَرْضَ العِشَاء والصُّبح مع الإمام يكون له ثواب ليلة كاملة ثواب صلاة الفرض، وها هنا إذا صلى التراويح مع الإمام حتى ينصرف يحصل له ثواب ليلة كاملة ثواب صلاة النفل. بذل المجهود (6/ 15).
وقال محمد المباركفوري -رحمه الله-:
اعلم أنه لم يرد في حديث أبي ذر هذا بيان عدد الركعات التي صلاها رسول الله في تلك الليالي، لكن قد ورد بيانه في حديث جابر -رضي الله عنه-، وهو أنه صلى في تلك الليالي ثمان ركعات، ثم أوتر. تحفة الأحوذي (3/ 438).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
الحديث يفيد تفاوت القيام بتفاوت الليالي الفاضلة، بدليل أنَّ ليلة السابع والعشرين أحياها كلها؛ لأنها عند أكثر العلماء ليلة القدر، ومن ثم جَمَعَ لها أهله ونساءه وغيرها لم يحيه كله، بل فاوت بينها. مرقاة المفاتيح (3/ 967).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
فيه: دليل على قيام رمضان بالجماعة.
وفيه: فضيلة تطويل القيام والقراءة إذا رضي المأمومون.
وفي هذا الحديث: دليل ظاهر على فضيلة إفراد العشر الأُخر من رمضان، لا سيما الثالث والعشرون، والخامس والعشرون، والسابع والعشرون.
وفي الحديث: دليل على أنَّ الأفضل لمن قام في أفراد هذه العشر أنَّ الليلة الثالثة لما قبلها يكون القيام فيها أكثر، ألا ترى أنه زاد في الليلة الخامسة والعشرين على الثالثة والعشرين سُدس قيام ليلة؛ فإنه قام بهم في الثالثة ثلث الليل، وفي الخامسة نصف الليل، وكذا في السابعة والعشرين سدس قيام ليلة...، فلما كانت الليلة الثالثة التي بقي بعدها ثلاث ليال، وهي ليلة السابع والعشرين، ورواية النسائي: «ولم يقم حتى بقي ثلاث من الشهر، فقام بنا في الليلة الثالثة». شرح سنن أبي داود (6/ 622-626).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
وفيه: أنه كان يتخوَّلهم بقيام الليل؛ لئلا يثقل عليهم، كما كان ذلك ديدنه -صلى الله عليه وسلم- في الموعظة، فكان يقوم بهم ليلة ويدع القيام أخرى.
وفيه: تأكد مشروعية القيام في الأفراد من ليالي العشر الآخرة من رمضان؛ لأنها مظنة الظَّفَر بليلة القدر. نيل الأوطار (3/ 63).
وقال الشوكاني -رحمه الله- أيضًا:
فيه: استحباب ندب الأهل إلى فعل الطاعات، وإنْ كانت غير واجبة.نيل الأوطار(3/٦٣)
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
وفيه تأكُّد مشروعية القيام في الإفراد من ليالي العشر الآخرة من رمضان؛ لأنها مظنة الظَّفَر بليلة القدر، واهتم -صلى الله عليه وسلم- في السابعة والعشرين بجمع أهله وغيرهم؛ لأنها أرجاها. مرعاة المفاتيح (4/ 319).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: هذا الحديث):
منها: ما بوَّب له المصنف (النسائي) -رحمه الله تعالى-، وهو بيان ثواب من صلى مع الإمام حتى ينصرف.
ومنها: زيادة الاعتناء بقيام الليلة السابعة والعشرين، وحثُّ الناس على ذلك.
ومنها: مشروعية السحور في رمضان. ذخيرة العقبى (16/ 30).