كان الناسُ يَنْصَرِفُونَ في كلِّ وجهٍ، فقال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «لا يَنْفِرَنَّ أحدٌ حتَّى يكونَ آخرُ عهدهِ بالبيتِ».
رواه مسلم برقم: (1327) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.
وفي لفظ للبخاري برقم: (1755) ومسلم برقم: (1328): «أُمِرَ النَّاسُ أنْ يكونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بالبيتِ، إلَّا أنَّه خُفِّفَ عنِ الحائضِ».
ورواه أبو داود برقم: (2002)، والنسائي في الكبرى برقم: (4170) بلفظ: «حتَّى يكونَ آخِرُ عَهْدِهِ الطَّوافَ بالبيتِ».
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«يَنْفِرَنَّ»:
أي: لا يذهبن. شرح المصابيح، لابن الملك (3/ 327).
قال ابن الأثير -رحمه الله-:
«لا ينفرن» أي: لا يرحل أحد عن مكة. الشافي (3/ 501).
«عهدِهِ»:
أي: لقائه بالبيت. مبارق الأزهار، لابن الملك (1/260).
قال نشوان الحمري -رحمه الله-:
يُقال: إنه لقريب العهد به: أي: الالتقاء به. شمس العلوم (7/ 4811).
شرح الحديث
قوله: «كان الناسُ يَنْصَرِفُونَ في كلِّ وجهٍ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«كان الناسُ» إذا فرغوا من حجِّهم أو عمرتهم «ينصرفون» أي: يذهبون من مكة ويتفرقون «في كل وجه». الكوكب الوهاج (14/ 386).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
قوله: «ينصرفون من كل وجه» يريد: يرحلون عن مكة من كل وجه، يكونون نازلين فيها، وقوله: «في كل وجه» يريد: يذهبون في كل جهة يختارون من الطرق، فأما حذفه فإنما حذفها وهي مرادة، تقول: ذهب كل مذهب، أي في كل مذهب. الشافي (3/ 500- 501).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «كان الناس ينصرفون في كل وجه» يعني: إذا فرغوا من الحج يذهبون إلى أوطانهم، ولم يطوفوا طواف الوداع، فنهاهم رسول الله -عليه السلام- عن الذهاب حتى يكون آخر عهدهم بالبيت، حتى يطوفوا طواف الوداع في انشغالهم، ولا يجوز لهم المكث بعد طواف الوداع، فإنْ مكث بعد طواف الوداع لِشُغْلٍ غير شدِّ الرَّحل على الراحلة، فليعُد طواف الوداع، وطواف الوداع واجب في أصح القولين، فإنْ تركه لزمه دم. المفاتيح (3/ 335- 336).
قوله: «فقالَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: لا يَنْفِرَنَّ أحدٌ حتَّى يكونَ آخِرُ عهدِهِ بالبَيتِ»:
قال ابن الأثير -رحمه الله-:
قوله: «لا ينفرنَّ» أي: لا يرحل أحد عن مكة. الشافي (3/ 501).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
«أحدٌ» نكرة في سياق النهي فهي شاملة، «حتى يكون آخر عهده بالبيت» بما في ذلك الحائض على حد رأي وزعم زيد بن ثابت؛ لكن التصريح: «إلا أنه خُفِّف عن المرأة الحائض» يخرجها من هذا العموم. شرح كتاب الحج من صحيح مسلم (20/ 25).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «لا ينفرنَّ أحد» أي النفر الأول، وهو الذي يكون في اليوم الثاني من التشريق لمن تعجَّل، أو النفر الثاني، وهو في اليوم الثالث لمن تأخر، أو لا يخرجن أحد من مكة، والمراد به الآفاقي (مَن يأتي من الآفاق وليس من سكان مكة). البحر المحيط الثجاج (24/ 125).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
قوله: «حتى يكون آخر عهده بالبيت» أي: حتى يودِّعه ويطوف طواف الوداع، وقد صرح به أبو داود في روايته، والباء في قوله: «بالبيت» متعلقة بمحذوف تقديره: واقعة وما جرى مجراه، حتى يكون الجار والمجرور وما عمل فيه خبر (كان)، واسمها قوله: «آخر عهده»، ولا يجوز أن تكون متعلقة بعهده؛ لأنه تبقى (كان) بغير خبر. الشافي (3/ 501).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
المقصود طواف الوداع، وليس مجرد رؤية البيت أو دخوله، والتقدير: حتى يكون آخر عهده بالطواف بالبيت. فتح المنعم (5/ 358).
وقال الرافعي -رحمه الله-:
المقصود أنَّ مَن فرغ من النسك وأراد الخروج من مكة فينبغي أنْ يطوف بالبيت طواف الوداع، وليؤخره عن جميع الأشغال، بحيث يعقُبه الخروج، ولو تركه وخرج ينبغي أنْ يعود إن لم ينتهِ بعدُ إلى مسافة القصر، ويُروى أن عمر -رضي الله عنه- ردَّ رجلًا لم يكن ودَّع البيت من مرِّ الظهران. شرح مسند الشافعي (2/ 353).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
نهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك (أي: عن النفر قبل الوداع) بقوله: «لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت»، فظاهر هذا: أنَّ طواف الوداع واجب على كل حاج أو معتمر غير مكي، وإليه ذهب أبو حنيفة، لكن أزال هذا الظاهر حديث صفية، حيث رخص لها في تركه لما حاضت، ففُهم منه: أنه ليس على جهة الوجوب، وهو مذهب الجمهور.
ثم مَن تركه فهل يلزمه دم أو لا يلزمه شيء؟ فقال أبو حنيفة، والشافعي -في أحد قوليه-: إنه يلزمه دم، وقال مالك: لا يلزمه دم، وهو الصحيح؛ لأن صفية لم يأمرها النبي -صلى الله عليه وسلم- بشيء من ذلك، ولو كان ذلك لازمًا لما جاز السكوت عنه؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، والله أعلم. المفهم (3/ 427).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
«عهده بالبيت» البيت المراد به الكعبة، وعلى هذا يتعيَّن أنْ يكون الطواف بالبيت هو آخر العهد، فلا يقول: أنا صليتُ بالبيت ويكفي، أو سعيتُ ويكفي؛ ولذا جاء التصريح بهذا عند البيهقي وغيره: «حتى يكون آخر عهده بالبيت الطواف» والبيت يكفي عن ذكر الطواف؛ لأن الطواف بالبيت، والصلاة في المسجد. شرح كتاب الحج من صحيح مسلم (20/ 24).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
هذا الطواف (أي: طواف الوداع) قد اختَلف فيه قول الشافعي، فقال في القديم والأم: هو نُسُكٌ يجب بتركه الدم، وبه قال أبو حنيفة وأحمد والفقهاء.
وقال في الإملاء: لا يجب بتركه شيء، فلا يكون على هذا واجبًا مع الأمرين، فإنه يسقط بالعذر، وقد نص عليه حيث قال: رخَّص فيه عن الحائض، وخفَّف عن الحائض، وحديث صفية -زوج النبي صلى الله عليه وسلم- مشهور، وبه قال مالك والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي، ومن تبعهم. الشافي (3/ 501).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
قد اجتمع في طواف الوداع أمره -صلى الله عليه وسلم- به، ونهيه عن تركه، وفعله الذي هو بيان للمُجمل الواجب، ولا شك أنَّ ذلك يفيد الوجوب. نيل الأوطار (5/ 106).
وقال ابن المنذر -رحمه الله-:
اختلفوا في وجوب طواف الوداع على من منزله بالقُرب من الحرم، فكان أبو ثور يقول: طواف الوداع عامٌّ لكل خارج من مكة إلى منزله، قَرُبَ ذلك أم بَعُد، وهذا قياس قول مالك فيما ذكر ابن القاسم.
قال أبو بكر (يعني: نفسه): وهذا يلزم من قال بظاهر الأخبار.
وقال أصحاب الرأي: في أهل بُستان ابن عامر (بُستان ابن معمر بنخلة على ليلة من مَكَّة، والعامة يقولون: بُستان ابن عامرٍ) أو أهل المواقيت أنهم بمنزلة أهل مكة في طواف الصَّدَر. الإشراف (3/ 381).
وقال الشيخ محمد الخضر الشنقيطي -رحمه الله-:
اختلفوا في حد القُرْب، فروي أنَّ عمر -رضي الله تعالى عنه- ردّ رجلًا لم يكن ودّع من مَرِّ الظهران، وبين مرِّ الظهران ومكة ثمانية عشر ميلًا، وعند أبي حنيفة: يرجع ما لم يبلغ المواقيت، وعند الشافعي: يرجع من مسافة لا تُقصر فيه الصلاة، وعند الثوري: يرجع ما لم يخرج من الحرم. كوثر المعاني (13/480).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
القريب هو الذي بينه وبين مكة دون مسافة القصر، والبعيد مَن بلغ مسافة القصر، نصَّ عليه أحمد، وهو قول الشافعي، وكان عطاء يرى الطائف قريبًا، وقال الثوري: حدُّ ذلك: الحرم، فمن كان في الحرم فهو قريب، ومن خرج منه فهو بعيد. المغني (3/ 405).
وقال الباجي -رحمه الله-:
أمَّا مَن أفاض بعد النحر، واتصل خروجه بإفاضته، فليس عليه طواف وداع؛ لأن طواف الإفاضة يجزئ عنه، ويكون آخر عهده بالبيت الطواف، وأما طواف الوداع لمن قدَّم الإفاضة يوم النحر، أو لمن أقام بعد النحر مدة طويلة، ولا يكون آخر عهده الطواف بالبيت إلا بطواف الوداع. المنتقى شرح الموطأ (2/ 295).
قال المازري -رحمه الله-:
في هذا (يعني: الحديث) إثبات طواف الوداع، وعندنا (المالكية) أنه مستحب، ولا دم في تركه، وعند الشافعي أنَّ على تاركه الدم، وعند أبي حنيفة أنه واجب، يحتج أبو حنيفة بما في هذا الحديث؛ ولنا عليه قوله في حديث صفية لما أُخبر -عليه السلام- أنها حاضت فقال: «أحابستنا هي؟ ثم أُخبر أنها أفاضت، فقال: فلا إذًا»، فلو كان طواف الوداع واجبًا لاحتبس من أجله، كما يحتبس من طواف الإفاضة. المعلم (2/ 106).
وقال النووي -رحمه الله-:
فيه (أي: الحديث) دلالة لمن قال بوجوب طواف الوداع، وأنَّه إذا تركه لزمه دم، وهو الصحيح في مذهبنا، وبه قال أكثر العلماء منهم الحسن البصري والحكم وحماد والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال مالك وداود وابن المنذر: هو سُنة لا شيء في تركه، وعن مجاهد روايتان كالمذهبين.
(و) هذا دليل لوجوب طواف الوداع على غير الحائض، وسقوطه عنها، ولا يلزمها دم بتركه، هذا مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد والعلماء كافة، إلا ما حكاه ابن المنذر عن عمر وابن عمر وزيد بن ثابت -رضي الله عنهم- أنهم أمروها بالمقام لطواف الوداع، دليل الجمهور هذا الحديث وحديث صفية المذكور بعده. المنهاج (9/ 78- 79).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وقت طواف الوداع من ثالث النحر، فإنه يجزئ إجماعًا، وهل يجزئ قبله؟ والأظهر عدم إجزائه؛ لأنه آخر المناسك، واختلفوا إذا أقام بعده هل يعيده أم لا؟ قيل: إذا بقي بعده لشراء زاد، وصلاة جماعة لم يُعِدْهُ، وقيل: يعيده إذا قام لتمريض ونحوه، وقال أبو حنيفة: لا يعيد ولو أقام شهرين. سبل السلام (1/ 657).
وقال الشيخ محمد الخضر الشنقيطي -رحمه الله-:
فيه: دليل على وجوب طواف الوداع؛ للأمر المؤكد به، وللتعبير في حق الحائض بالتخفيف، والتخفيف لا يكون إلا من أمر مؤكَّد، ومَن أخَّر طواف الوداع، وخرج ولم يطف -إن كان قريبًا- رجع فطاف، وإن لم يرجع فلا شيء عليه، وقال عطاء والثوري وأبو حنيفة والشافعي -في أظهر قوليه- وأحمد وإسحاق: إن كان قريبًا رجع فطاف، وإن تباعد مضى، فأهراق دمًا. كوثر المعاني الدراري (13/ 480).
قوله: «أُمِرَ النَّاسُ أنْ يكونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بالبيتِ، إلَّا أنَّه خُفِّفَ عنِ الحائضِ»:
قال القسطلاني رحمه الله:
«أُمر الناس» بضم الهمزة مبنيًا للمفعول، و«الناس» رفع نائب الفاعل. إرشاد الساري (3/ 252).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«أُمرَ الناس» هذه الصيغة قال علماء المصطلح: إنَّ لها حُكم الرفع؛ لأن الصحابي إذا قال: «أُمِرَ» فإن الآمر هو الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه ليس فوق مرتبة الصحابة إلا الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فيكون هو الآمر، بل إن هذا أحد الألفاظ في الحديث، وإلا ففيه لفظ آخر صريح بأنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الذي أمر، وقال ابن عباس: كان الناس ينفرون من كل وجه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا ينفر أحدٌ حتى يكون آخر عهده بالبيت»، وهذا مرفوع صريح إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 435).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
لو قال قائل: قد يكون الأمر هنا للاستحباب؟
قلنا: لا يصح؛ لوجهين:
الأول: أن الأصل في الأمر الوجوب إلا بدليل.
الوجه الثاني: أنه قال: «خُفِّف عن الحائض» والتخفيف لا يقال إلا في مقابل الإلزام؛ إذ لو كان الأمر هنا استحبابًا لم يكن هناك فرق بين الحائض وغير الحائض؛ لأنه خفف عن الجميع، إذ إن المستحب لا يُلزم به الإنسان. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 436).
وقال ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
«الناس» هذه لفظ عام لكن يُراد به الخاص، من هذا الخاص؟ هم الذين ينفرون من الحج؛ لقول ابن عباس: «كان الناس ينفرون من كل وجه»، وقيل: هم الحُجَّاج سواء نفروا أم لم ينفروا، وعلى هذا يكون الطواف للوداع لا للسفر، ولكن لانتهاء أعمال الحج، وأن الإنسان عليه أن يودِّع سواء سافر أم لم يسافر، كما أنه إذا ودَّع فإنه لو بقي شهرين أو ثلاثة في مكة لا يعيد الطواف، ولكن جمهور أهل العلم على أن المراد بالناس هنا: النافرون من الحج؛ لقول ابن عباس: «كان الناس ينفرون من كل وجه» ولا ينفر أحد في وقت الحج إلا من كان حاجًّا، هذا هو الغالب. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 435).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «إلا أنه خُفِّف عن المرأة الحائض» حُجة في أنَّ الحائض إذا كانت طافت طواف الإفاضة أنه يجزئها من طواف الوداع، وهو مفسَّر في حديث الأنصارية بعده، وفي حديث صفية، وعلى هذا جماعة الفقهاء ولا خلاف، وروي عن بعض السلف أنها لا تنفر حتى تودِّع. إكمال المعلم (4/ 416-417).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«إلا أنه خُفِّف عن الحائض» يعني: خُفِّف الأمر عن الحائض، والحائض معروفة، وهل مثلها النفساء؟
فيها خلاف بين العلماء؛ فابن حزم يرى أنَّ النفساء لا يمتنع عليها الطواف...، ولكن الجمهور يرون أنَّ النفساء كالحائض لا تطوف بالبيت، ويجيبون عن هذا الحديث بأنه من باب التغليب، والقيد إذا كان أغلبيًا لا يكون له مفهوم. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 436).
وقال ابن المنذر -رحمه الله-:
اختلفوا فيمن طاف طواف الوداع، ثم حضرت صلاة مكتوبة فصلى مع الناس، فكان عطاء يقول: يُعيد حتى يكون آخر عهده بالبيت، وقال مالك والشافعي: يصليها ولا يعيد طوافًا.
واختلفوا فيمن طاف طواف الوداع، ثم بدا له في شراء حوائج من السوق، فقال عطاء: إذا لم يبق إلا الركوب ختم سبعة به، فكان آخر عهده بالبيت، وقال: إنما هو خاتم يختم به، وقال بنحو قول عطاء الشافعي، وهذا على مذهب الثوري وأحمد وأبي ثور.
وقال مالك: لا بأس أنْ يشتري بعض جهازه وطعامه بعد الوداع وحوائجه في السوق، وقال الشافعي: إذا اشترى شيئًا على طريقه لم يُعد. الإشراف (3/ 381- 382).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
اختلف العلماء: هل طواف الوداع من المناسك؟ على قولين:
الأول: أنه من المناسك، وهذا أحد القولين عند الشافعية والمالكية، وهو ظاهر مذهب الحنفية، وقد نص الشافعي على أنه نُسك، ونقل ابن عبد البر الإجماع على ذلك، واستدلوا بقول ابن عمر -رضي الله عنهما-: «لا ينفر أحدكم حتى يطوف بالبيت؛ فإنَّ آخر النسك الطواف بالبيت»، فإخباره بأن طواف الوداع آخر المناسك دليل على أنه من مناسك الحج.
القول الثاني: أنه ليس من المناسك، بل هو عبادة مستقلة، يؤمَر بها كل من أراد مفارقة مكة، سواء كان مكيًّا أم آفاقيًّا، وهذا هو القول الثاني في مذهب الشافعية والمالكية، وهو مذهب الحنابلة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، واستدلوا بحديث العلاء بن الحضرمي -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا»، ووجه الدلالة: أنَّ طواف الوداع يكون عند الرجوع، وسماه قاضيًا للمناسك قبل الوداع.
والقول بأنه من مناسك الحج قول قوي؛ فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر به الحُجَّاج دون غيرهم من المعتمرين أو المقيمين، ولم يَرِدْ أنه أمر به أمرًا مطلقًا، فدل على أنه نُسك مختصٌّ بالحاج، ولا يلزم على القول بأنه من المناسك أنه يجب على المكي أو من أقام، بدليل أن طواف القدوم من المناسك، وهو لا يشرع لمن أحرم من مكة، فدل على أن هذه الملازمة غير لازمة، ومما يؤيد ذلك عموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لتأخذوا مناسككم»؛ فإنه يفيد أن ما أَمَر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذه الحجة فهو مناسكها، وأما حديث العلاء فلا دلالة فيه؛ لأن المراد به قضاء المناسك المؤقتة بوقت معين كالوقوف والمبيت والرمي، أو يُحمل على قضاء نسكه، ومنها طواف الوداع. منحة العلام (ص: 276).
وقال اللَّخْمي -رحمه الله-:
اختُلف في طواف الوداع، هل يجزئ عن طواف الإفاضة؟
فقال مالك: يجزئه، وقال محمد بن عبد الحكم: لا يجزئه، وأصل المذهب: ألا يجزئ التطوع عن الواجب، فمن تطوع بركعتين ثم ذكر أن عليه صلاة الفجر، أو بصوم يومٍ ثم ذكر أن عليه صوم يوم من رمضان؛ لم تجزئه تلك الصلاة، ولا ذلك الصوم عن الفرض. التبصرة (3/ 1185- 1193).
وقال ابن حزم -رحمه الله-:
مَن أراد أن يخرج من مكة من معتمرٍ أو قارِن أو متمتع بالعمرة إلى الحج؛ ففرض عليه أن يجعل آخر عمله الطواف بالبيت. المحلى (5/١٧٨).
وقال ابن رشد -رحمه الله-:
أجمعوا على أنَّ المكي ليس عليه إلا طواف الإفاضة، كما أجمعوا على أنَّه ليس على المعتمر إلا طواف القدوم (أي: طواف العمرة). بداية المجتهد (2/ 109).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
لا خلاف بين العلماء أنَّ المعتمر إذا طاف وخرج إلى بلده أنه يجزئه من طواف الوداع، كما فعلت عائشة، وأما إنْ أقام بمكة بعد عمرته ثم بدا له أنْ يخرج منها، فيستحبون له طواف الوداع. شرح صحيح البخارى (4/ 445).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
طواف الوداع للمعتمر إذا كان من نيته حين قدم مكة أن يطوف ويسعى ويحلق أو يقصر ويرجع فلا طواف عليه؛ لأن طواف القدوم صار في حقه بمنزلة طواف الوداع، أما إذا بقي في مكة فالراجح أنه يجب عليه أن يطوف للوداع؛ وذلك للأدلة التالية:
أولًا: عموم قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت» و«أحد» نكرة في سياق النهي فتعُمُّ كل من خرج.
ثانيًا: أن العمرة كالحج، بل سماها النبي -صلى الله عليه وسلم- حجًّا كما في حديث عمرو بن حزم المشهور، الذي تلقَّته الأمَّة بالقبول، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «والعمرة هي الحج الأصغر».
ثالثًا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «دَخَلَت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».
رابعًا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ليعلى بن أمية: «اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك»، فإذا كنت تصنع طواف الوداع في حجِّك فاصنعه في عمرتك، ولا يخرج من ذلك إلا ما أجمع العلماء على خروجه مثل الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة والمبيت بمنى، ورمي الجمار، فإن هذا بالإجماع ليس مشروعًا في العمرة؛ ولأن الإنسان إذا طاف صار أبرأ لذمته وأحوط، والله الموفق. فتاوى أركان الإسلام (ص: 569- 570).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
الحديث دليل على أنَّ طواف الوداع خاص بالحج، وأنَّ العمرة ليس لها وداع؛ وذلك من وجهين:
الأول: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك في حَجَّة الوداع، وخاطب به الحُجَّاج، كما تفيده رواية مسلم، ولم يُنقل أنه قال ذلك في عُمْرَة من عُمَرِه.
الثاني: أنَّ الأوصاف المذكورة لا تنطبق إلا على الحج؛ لأنه لولا الوداع لكان الناس ينفرون من منى بعد رمي الجمرات إلى حيث شاؤوا، فأُمروا أن يكون آخر عهدهم بالبيت. منحة العلام شرح بلوغ المرام (ص: 277).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
في هذا الحديث: لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت. كشف المشكل (2/ 445).
وقال الرافعي -رحمه الله-:
في الحديث: دلالة على أن الحائض لها أن تنفر وتترك طواف الوداع، ولا يلزمها بذلك شيء، وبه قال عامة العلماء. شرح مسند الشافعي (2/ 358).
قال ابن حجر -رحمه الله-:
فيه: دليل على وجوب طواف الوداع للأمر المؤكد به، وللتعبير في حق الحائض بالتخفيف كما تقدم، والتخفيف لا يكون إلا من أمر مؤكد. فتح الباري (3/ 585).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
يُستفاد من الحديث عدة فوائد:
من فوائد هذا الحديث: أنه يجب أن يكون الوداع آخر عهد الإنسان؛ لقوله: «آخر عهدهم»، ولكن إذا بقي الإنسان بعد الطواف للصلاة، أو اشترى حاجة في طريقه، أو تغدَّى أو تعشى، أو ما أشبه ذلك من الأشياء الخفيفة، فإنَّ هذا لا يضر؛ لأنه سبق لنا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- صلى الفجر بعد طواف الوداع...
ومن فوائد الحديث: سقوط طواف الوداع عن الحائض؛ لقوله: «خُفِّف عن الحائض»...
ومن فوائد الحديث: تحريم جلوس الحائض في المسجد؛ لأن العلة من منع الحائض من الطواف المكث في المسجد، والطواف مُكْثٌ، فلا يحل لها أن تمكث في المسجد حتى لو كان للدرس..
ومن فوائد الحديث: رحمة الله -سبحانه وتعالى- بعباده؛ حيث خفف عن الحائض فلم يلزمها أن تبقى كما تبقى المرأة التي لم تطف طواف الإفاضة، بل تستمر في سفرها وليس عليها شيء. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 436-437).
وقال الشيخ محمد بن علي الأثيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: هذا الحديث):
منها: أنه استَدَلَّ به من قال بوجوب الطهارة للطواف بالبيت، وهو استدلال واضح.
ومنها: بيان أن قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا ينفرن...» إلخ، فيه دلالة على أن طواف الوداع لا يجب إلا على من أراد الخروج من مكة من أهل الآفاق، فلا يجب على أهل مكة؛ لأنهم لا ينفرون. البحر المحيط الثجاج (24/ 128- 129).