«شهرانِ لا ينقصان شهرا عيدٍ: رمضانُ وذو الحِجَّةِ».
رواه البخاري برقم: (1912) واللفظ له، ومسلم برقم: (1089)، من حديث أبي بكرة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
شرح الحديث
قوله: «شهران لا ينقصان»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «لا ينقصان» أي: معًا في سنة واحدة، قال الخطابي: غالبًا، وقيل: لا ينقص الثواب بسبب نقص العدد، وقيل: لا ينقص أحدهما عن الآخر في الأجر، وهذا أضعفها. فتح الباري (1/ 198).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«شهران لا ينقصان» مبتدأ وخبره، يعني: لا يكاد يتفق نُقْصانُهما جميعًا في سنةٍ واحدة غالبًا، وإلا فلو حُمِلَ الكلام على عمومه اخْتَلَّ ضرورة؛ لأن اجتماعهما ناقصين في سنة واحدة قد وُجِدَ. فيض القدير (4/ 165).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وهذا معناه عندنا -والله أعلم-: أنهما لا ينقصان في الأجر، وتكفير الخطايا، سواء كانا من تسع وعشرين أو من ثلاثين. التمهيد (2/ 46).
وقال البيهقي -رحمه الله-:
المراد بالحديث -والله أعلم-: أنهما وإن خرجا تسعًا وعشرين؛ فهما كاملان فيما يتعلق بهما من الأحكام. السنن الكبرى (8/570).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
لا ينقصان في عامٍ بعينه. المفهم (3/ 146).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وهو العام الذي قال فيه -صلى الله عليه وسلم- تلك المقالة، وهذا حكاه ابن بزيزة، ومِنْ قبله أبو الوليد بن رشد، ونقله المحب الطبري عن أبي بكر بن فَوْرَك. فتح الباري (4/ 125).
وقال العيني -رحمه الله-:
وقال قوم منهم أبو بكر بن فَوْرَك: إن الإشارة بهذا كانت إلى سنة معلومة. نخب الأفكار (8/ 300).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
(و) منهم من حمله على ظاهره فقال: لا يكون رمضان ولا ذو الحجة أبدًا إلا ثلاثين، وهذا قول مردود معاند للموجود المشاهد، ويكفي في رَدِّهِ قوله -صلى الله عليه وسلم-: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة»؛ فإنه لو كان رمضان أبدًا ثلاثين لم يُحتَجْ إلى هذا. فتح الباري (4/ 125).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
وصح عن جماعة من الصحابة: «صُمنا مع رسول الله تسعًا وعشرين أَكثر مما صُمنا معه ثلاثين»، ومِن ثمّ قال بعض الحفاظ: «صام -صلى الله عليه وسلم- تسعة رمضانات؛ منها رمضانان فقط ثلاثون»؛ بل إن ثوابهما المرتب عليهما من حيث الصيام والقيام والحج، وغير ذلك، ومن ثم خُصَّا بالذكر؛ لأنه ليس لغيرهما من الفضائل التي يتوهم نقصها بنقصهما مثل ما لهما، لا اختصاص ذلك بهما. فتح الإله في شرح المشكاة (6/455-456).
وقال الطحاوي -رحمه الله-:
وأما قوله: «شهرا عيد لا ينقصان: رمضان وذو الحجة»؛ فليس ذلك عندنا على نقصان العدد، ولكنهما فيهما ما ليس في غيرهما من الشهور؛ في أحدهما الصيام، وفي الآخر الحج، فأخبرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهما لا ينقصان، وإن كانا تسعًا وعشرين، وهما شهران كاملان، كانا ثلاثين ثلاثين، أو تسعًا وعشرين تسعًا وعشرين؛ ليعلم بذلك أن الأحكام فيهما وإنْ كانا تسعًا وعشرين تسعًا وعشرين متكاملة فيهما، غير ناقصة عن حكمها إذا كانا ثلاثين ثلاثين، فهذا وجه تصحيح هذه الآثار التي ذكرناها في هذا الباب، -والله أعلم-. شرح معاني الآثار (2/ 58).
وقال النووي -رحمه الله-:
الأصح أنَّ معناه: لا ينقص أجرهما والثواب المرَتَّب عليهما، وإنْ نقص عددهما، وقيل: معناه: لا ينقصان جميعًا في سنة واحدة غالبًا، وقيل: لا ينقص ثواب ذي الحجة عن ثواب رمضان؛ لأن فيه المناسك -حكاه الخطابي-، وهو ضعيف، والأول هو الصواب المعتمد، ومعناه: أن قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه»، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا»، وغير ذلك؛ فكل هذه الفضائل تحصل سواء تم عدد رمضان أم نقص، -والله أعلم-. شرح صحيح مسلم (7/ 199).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقال الزين ابن المنير: لا يخلو شيء من هذه الأقوال عن الاعتراض، وأَقربها: أن المراد: أن النقص الحسي باعتبار العدد ينجبر بأن كلًّا منهما شهر عيد عظيم، فلا ينبغي وصفهما بالنقصان، بخلاف غيرهما من الشهور، وحاصله: يرجع إلى تأييد قول إسحاق. فتح الباري (4/ 125).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قيل فيه وجوه: فمنهم مَن قال: لا ينقصان معًا في سنة واحدة، حملوه علي غالب الأمر.
ومنهم من قال: إِنه أراد به تفضيل العمل في العشرِ من ذي الحجة، وأنه لا ينقص في الأجر والثواب عن شهر رمضان.
ومن قائلٍ ثالثٍ: أَنهما لا يكونان ناقصين في الحُكم، وإنْ وُجدا ناقصين في عددِ الحِساب، وهذا الوَجه أقومُ الوجوهِ وأَشبهها بالصَّواب.
وذكر في "النهاية" الوجوه، ثم قال: يعني لا ينقصان في الحُكم، وإنْ نقصَا في العدد، أي: لا يَعرض في قلوبكم شَكٌّ إذا صُمتم تسعةً وعشرين يومًا، أو وقع في يوم الحج خطأٌ، لم يَكن في نُسككم نقصٌ.الكاشف عن حقائق السنن(5/١٥٨٠).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
وقد سمعتُ أنَّ مَن حسبهما وجدهما ناقصين عددًا؛ فيرجع ذلك إلى الفضل، والمسألة قريبة، فإنه لا يتعلَّق بها علم ولا عمل، فإنَّ الأجر كامل بالاتفاق، وما وراء ذلك تعب غير مُثمر. عارضة الأحوذي(3/171).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وفيه بحثان:
الأول: أنه كيف يستوي الكثير والقليل في العبادة، وقد قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} الأنعام: 160.
والثاني: أنَّ ذا الحِجّة ليس في نقصانه الثواب، حتى يُقال: ثواب ذي الحجة ناقص العدد ككامله.
وقد يُجاب عن الأول؛ بأن الثواب الإجمالي الوارد في رمضان، كقوله: «من صام رمضان غفر له» يكون على وجه الكمال، سواء تم أو نقص الهلال، ويمكن أن يكون هذا أيضًا جوابًا عن الثاني، ووجه الاختصاص بالتفضيل الإلهي الخاص بهذين الشهرين. مرقاة المفاتيح (4/ 1375).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
فإنْ قال قائل: إن كان أراد بقوله -عليه السلام-: «لا ينقصان» من الأجر والحكم، وإن كانا ناقصين في العدد؛ فإنا نجد رمضان يُصام كُله، فيكون مرة تامًّا ومرة ناقصًا، ونقصانه في آخره، وذو الحجة إنما يقع الحج في العشر الأول منه، فلا حرج على أحد في نقصانه ولا تمامه؛ لأن العبادة منه في أوله خاصة.
قيل: قد يكون في أيام الحج من النقصان والإِغماء مثل ما يكون في آخر رمضان، وذلك أنه قد يُغمى هلال ذي القعدة، ويقع فيه غلط بزيادة يوم أو نقصان يوم، فإذا كان ذلك وقع وقوف الناس بعرفة مرة اليوم الثامن من ذي الحجة، ومرة اليوم العاشر منه. شرح صحيح البخاري(4/ 30-31).
وقال الكوراني -رحمه الله- متعقبًا:
قال بعضهم: قد يغمى هلال ذي القعدة، ويقع فيه نقصان أو زيادة، فيقف الحجاج اليوم الثامن بعرفة أو اليوم العاشر، فلا ينقص أجر الواقفين غلطًا عن الواقفين صوابًا.
وهذا ليس بشيء، أما أولًا: فلأنه ليس الكلام مسوقًا بخطأ الواقف وبيان صحة حجته وفساده، بل الكلام إنما هو في نفس الشهر.
وأما ثانيًا: فلأن الزيادة في الشهر بأن يقفوا اليوم العاشر ليس في الترجمة بها إشعار ولا في الحديث.
والصواب: أنه أراد أن شرف رمضان إنما هو بوقوع الصوم فيه، وليس للإنسان قُدرة على الإتمام، فإذا صرف مقدوره حصل له الأجر كاملًا، وكذلك الحاج بعد ذي الحجة؛ فإن شرف هذا الشهر إنما هو بوقوع المناسك فيه، فإذا أتى بها الحاج على وجه الكمال حصل له ما وُعِدَ عليه من الأجر، سواء كان الشهر كاملًا أو ناقصًا. الكوثر الجاري (4/ 266).
وقال البيهقي -رحمه الله-:
وإنما خَصَّ بالذِّكر هذين الشهرين لاختصاصهما بتعلق حكم الصوم والعيد والحج بهما -والله أعلم. معرفة السنن والآثار(6/ 243).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
ظاهر سياق الحديث: في بيان اختصاص الشهرين بمزية ليست في سائرهما، وليس المراد: أن ثواب الطاعة في سائرهما قد ينقص دونهما، فينبغي أن يُحمل على الحُكم، ورفع الجناح والحرج عمَّا عسى أن يقع فيه خطأ في الحكم؛ لاختصاصهما بالعيدين، وجواز احتمال الخطأ فيهما، ومن ثم لم يقل: شهر رمضان وذي الحجة -والله أعلم. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1580-1581).
قوله: «شهرا عيد: رمضان وذو الحجة»:
قال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «شهرا عيد لا ينقصان» أراد بأحد الشهرين: رمضان؛ لأنه يأتي بعده عيد، والثاني: ذا الحجة؛ لأن العيد فيه. المفاتيح في شرح المصابيح (3/14).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
فإن قيل: كيف سُمّي رمضان شهر عيد وإنما العيد في شوال؟ فقد أجاب عنه الأثرم بجوابين:
أحدهما: أنه قد يرى هلال شوال بعد الزوال في آخر يوم من شهر رمضان.
والثاني: أنه لما قَرُبَ العيد من الصوم أضافه إليه، والعربُ تُسَمِّي الشيء باسم الشيء إذا قرب منه. كشف المشكل (2/11).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «رمضان وذو الحجة» أطلق على رمضان أنه شهر عيد لقُرْبِهِ من العيد، أو لكون هلال العيد ربما رُؤِيَ في اليوم الأخير من رمضان قاله الأثرم، والأول أولى.
ونظيره قوله -صلى الله عليه وسلم-: «المغرب وتر النهار» أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر، وصلاة المغرب ليلية جهرية، وأطلق كونها وتر النهار لقربها منه، وفيه إشارة إلى أن وقتها يقع أول ما تغرب الشمس. فتح الباري (4/ 126).
وقال السندي -رحمه الله-:
..عَدّ رمضان شهر عيد مع أن العيد بعده، فالجواب: أن المقاربة مُجَوِّزَةٌ للإضافة، -والله أعلم-. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه (1/ 509).
وقال الساعاتي -رحمه الله-:
إطلاق شهر العيد على ذي الحجة ظاهر، وعلى رمضان من ضروب المجاز؛ لعلاقة المجاورة. الفتح الرباني (9/ 274).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
في الحديث: حجة لمن قال: إن الثواب ليس مُرتَّبًا على وجود المشقة دائمًا، بل لله أن يتفضَّل بإلحاق الناقص بالتام في الثواب.
واستَدَلَّ به بعضهم لمالك في اكتفائه لرمضان بِنِيَّةٍ واحدة، قال: لأنه جعل الشهر بجملته عبادة واحدة، فاكتفى له بالنية.
وهذا الحديث يقتضي أن التسوية في الثواب بين الشهر الذي يكون تسعًا وعشرين وبين الشهر الذي يكون ثلاثين إنما هو بالنظر إلى جعل الثواب متعلقًا بالشهر من حيث الجملة، لا من حيث تفضيل الأيام. فتح الباري (4/ 126).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- متعقبًا على الاستدلال لمالك:
هذا الاستدلال ليس بواضح، والظاهر: أن النية لا بد منها في كل يوم؛ لانفصال الأيام بعضها عن بعض بتخلل الليالي بينها، فليُتَأَمَّل. البحر المحيط الثجاج (20/ 488).
وقال العيني -رحمه الله-:
ومما يُستفاد من هذا الحديث: أنه يقتضي التسوية في الثواب بين الشهر الكامل وبين الشهر الناقص، فافهم. عمدة القاري (10/ 286).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: هذا الحديث):
منها: بيان أن شهرَيْ رمضان وذي الحجة لا ينقص الأجر المرتب عليهما، وإن كان تسعة وعشرين...
ومنها: أن فائدة هذا الحديث رفع ما يقع في القلوب من شك لمن صام تسعًا وعشرين، أو وقف في غير يوم عرفة...
ومنها: أن في الحديث حجة لمن قال: إن الثواب ليس مرتبًا على وجود المشقة دائمًا، بل لله أن يتفضل بإلحاق الناقص بالتام في الثواب.
ومنها: أنه استَدَلَّ به بعضهم لمالك في اكتفائه لرمضان بنية واحدة، قال: لأنه جعل الشهر بجملته عبادة واحدة، فاكتفى له بالنية. البحر المحيط الثجاج (20/ 487).