«مَن رَأى مُبتَلًى فقال: الحَمدُ للّهِ، الذي عَافَانِي ممَّا ابْتَلاكَ به، وفَضَّلنِي على كثيرٍ ممَّن خلقَ تفضيلًا، لم يُصِبه ذلك البَلاءُ».
رواه الترمذي برقم: (3432)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
ورواه ابن ماجه برقم: (3892)، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
ورواه البزار برقم: (9106) ولفظه: «فإنَّه إذا قال ذلك كان شُكرَ تلك النِّعمَة».
صحيح الجامع برقم: (555)، ورقم: (6248)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (602) ورقم: (2737).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«مُبتَلى»:
أي (مصاب) في أمرٍ بدنيٍّ كبَرَصٍ وقِصَرٍ فاحشٍ أو طولٍ مُفْرِطٍ أو عَمًى أو عَرَجٍ أو اعوجاجِ يدٍ ونحوها، أو ديني بنحو فِسْقٍ وظلمٍ وبدعة وكفر وغيرها. مرقاة المفاتيح، للقاري (4/ 1686).
والبلاءُ في الخير والشَّر، والله يُبلي العبدَ بلاءً حسنًا، وبلاءً سيِّئًا، وأبلَيتُ فُلانًا عُذرًا، أي: بيّنتُ فيما بيني وبينَه ما لا لومَ عليَّ بعده.العين، للفراهيدي (8/ 340).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
وابتَلاه ابتلاءً بمعنى: امتحنَه، والاسم بلاءٌ، مثل: سلامٌ، والبَلوى والبَليَّةُ مثلُه. المصباح المنير (1/ 62).
«الحمد»:
هو الثَّناء على المحمُودِ بجميل صفاته وأفعاله، والشُّكر الثَّناء عليه بإنعامه على الشاكر، ونقيض الحمد الذمُّ، ونقيض الشُّكر الكُفر، والحمد أعمّ. تهذيب الأسماء واللغات، للنووي (3/ 70).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
يُقال: حَمدتُه علَى شجَاعته وإحسانه حمدًا: أثنيتُ عليه، ومن هنا كان الحمدُ غيرَ الشكر؛ لأنه يُستعمل لصفة في الشخص، وفيه معنى التَّعجب، ويكونُ فيه معنى التَّعظيم للممدوح، وخضوع المادحِ. المصباح المنير، للفيومي (1/ 149).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
الحمد والشكر متقاربان، والحمد أعمُّهما؛ لأنك تحمد الإنسان على صفاته الذاتية، وعلى عطائه، ولا تشكره على صفاته. النهاية (1/ 437).
«عافاني»:
عافاه الله مُعافاةً وعافيةً، مصدر كالعاقِبة والخاتِمة: أصحَّه وأبْرَأه. المحكم، لابن سيده (2/ 374).
وقال ابن منظور -رحمه الله-:
أمّا العافِية فهو أن يُعافيَه الله تعالى من سُقْمِ أو بليَّة، وهي الصحَّة ضد المرض...، وقيل: هي مُفاعلة من العفو، وهو أنْ يعفُو عن الناس، ويَعفُوا هم عنه. لسان العرب (15/ 72).
«وفضَّلني»:
يُقال: فَضَّلَه على غيرِه تَفضِيلًا: مَزَّاهُ أي: أثبَتَ له مَزِيَّةً، أي: خَصلَةً تُميِّزه عن غيره، أو فَضَّله: حُكِمَ له بالتَّفضِيل، أو صَيَّره كذلك. تاج العروس، للزبيدي (30/ 173).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
فضَّلتُه على غَيره تفضِيلًا: صَيَّرتُه أفضلَ مِنه. المصباح المنير (2/ 475).
شرح الحديث
قوله: «مَن رَأى مُبتَلَى»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«مَن رَأى» بعينِه أو سمع به، إن حُمل (رأى) على القَلبِيَّة، «مُبتَلًى» في دِينه أو دُنياه أو بَدِنه. التنوير (10/ 226).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«مَن رأى مُبتَلَى» فِي بدنه أَو دِينه، أَي: عَلِمَ بِحُضُورِهِ...، الكلام في عاصٍ خَلَعَ الرِّبْقَةَ من عُنُقه، لا في مُبتَلَى بنحو مرض، أو نقص خِلْقَة. التيسير (2/ 418).
وقال ابن الحاج -رحمه الله-:
«مَن رأى منكم...» ولا شكّ أنَّ الابتلاء في الدِّين أعظم من الابتلاء في البَدن، سيَّما إذا انضاف إلى ذَلِك تعلُّق حقِّ الغير به، فهو أعظمُ في الابتلاء. المدخل (3/ 174).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
قال بعض المحقِّقين: الظَّاهر أنَّ المراد بالرُّؤية العلم؛ ليشمل مَن سمِع صوتًا من مُبتَلَى وإن لم يره. الفتوحات الربانية (6/ 186).
قوله: «فقال: الحمدُ لِله الذي عافانِي مِمَّا ابْتَلاكَ به»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«فقال: الحَمدُ لِلّه الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلاكَ بِهِ» أَي: نجّاني وأنقذني مِنْهُ. التيسير (1/ 97).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فقال» ذلك الشّخص الذي رأى المُبتَلَى: «الحمد» والشكر «لله الذي عافَانِي» وسلَّمني «ممَّا» أي: من المرض الذي «ابْتَلاكَ» الله واختبرك «به» أي: بذلك المرض. مرشد ذوي الحجا والحاجة (23/ 155).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فقال» عَقِب رُؤيته، يقولُه في نفسِه، أو بحيث لا يسمعُه؛ لئلا يكون شامتًا به. التنوير (2/ 56).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فقال: الحمدُ لله الذي عافَانِي مِمَّا ابْتَلاكَ به»؛ فإنّ العافية أوسعُ من البَليَّة؛ لأنها مَظِنَّة الجَزع والفِتنَة، وحينئذٍ تكون محنةً، أيَّ مِحنة «والمؤمنُ القويُّ أحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف» كما ورد. مرقاة المفاتيح (4/ 1686).
وقال المناوي -رحمه الله-:
والخطاب في قوله: «ابْتَلاكَ» و«عليك» يُؤْذِنُ بأنْ يُظهر له ذلك ويُسمعُه إيَّاه، وموضعُه ما إذا لم يَخف فتنته. فيض القدير (1/ 351).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
لكنَّه إذا رأى مُبتَلًى ببلاءٍ ظاهر كالمريض وسوء الخِلْقَة، يقول ذلك سرًّا ولا يُسمعه؛ كيلا يتأذَّى به وينكسر به قلبُه، وإذا رأى فاسقًا يجهر به ويُسمِعُه؛ لينزجر به ويتوب عنه. لمعات التنقيح (3/ 610).
وقال النووي -رحمه الله-:
قلتُ: قال العلماءُ من أصحابنا وغيرهم: ينبغي أنْ يقول هذا الذِّكر سرًّا، بحيث يسمعُ نفسَه، ولا يسمعه المُبتَلَى؛ لئلا يتألَّم قلبُه بذلك، إلا أنْ تكون بليَّتُه معصية، فلا بأس أن يُسمعه ذلك، إن لم يخف من ذلك مفسدة، والله أعلم. الأذكار (ص: 489).
وقال ابن علان -رحمه الله- مُعلِّقًا:
قوله: (أي: النووي): إلا أنْ تكون بليّتُه معصية، أي: من معصيته، كالقَطْعِ المرتَّب على السَّرقة، أو المراد: إلا أنْ يكون البلاءُ نفسُه في الدِّين، كمعصية وسوء عقيدةٍ، فيأتي بالذِّكر في الحالين جهرًا، إن لم يخشَ تولُّدَ فتنة، نعم إن تاب من الذنب الذي عُوقب بسببه بالقطع فلا يجهر بالذِّكر المذكور له، والله أعلم. الفتوحات الربانية (6/ 188).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «مِمَّا ابْتَلاكَ به» هذا الخطابُ فيه إشعارٌ بأن المُبتلى لم يكن مريضًا أو ناقصًا في خَلْقِهِ، بل كان عاصيًا متخَلِّعًا خليع العذار، ولذلك خاطبه بقوله: «ممَّا ابْتَلاكَ»، ولو كان المرادُ به المريض لم يَحسُن الخطاب، وينصُرُه تعقيبه: «وفضَّلنِي على كثير ممّن خَلَقَ تفضِيلًا». الكاشف عن حقائق السنن (6/ 1898).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- معلقًا:
أقول: الصَّواب أنه يأتي به؛ لوُرُود الحديث بذلك، وإنما يعدِل عن رفع الصَّوتِ إلى إخفَائِه في غير الفاسق، بل في حقِّه أيضًا إذا كان يترتب عليه مفسدة؛ ولذا قال الترمذي بعد إيراد الحديث المرفوع: وقد روي عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: إذا رأى صاحب بلاء يتعوذ ويقول ذلك في نفسه، ولا يُسمع صاحب البلاء اهـ. ويُسمعُ صاحب البلاء الدِّيني إذا أراد زجره، ويرجو انزجاره. مرقاة المفاتيح (4/ 1686 - 1687).
وقال ابن علان -رحمه الله- معلقًا:
ولا يُنافِي ندبُ السِّر بالذِّكْرِ عند رؤية نحو المُبتَلَى الذي لم يعصِ بسبب بلائه أو تاب منه قوله في الحديث: «الذي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلاكَ» أي: بصيغة الخِطاب؛ لأن الخطاب لا يقتضي الجهرَ؛ فإن الإنسان قد يُخاطِب مَن لا يسمع متصورًا لخطابه ذهنًا لا خارجًا...
وقوله (أي: الطيبي): لم يَحْسُن الخطاب، ممنوعٌ بل هو حَسنٌ؛ لأن القَصدَ منه شُكر نِعمة العافية في الدِّين والبدن. الفتوحات الربانية (6/ 187-188).
وقال الصنعاني -رحمه الله- معقبًا على كلام الطيبي:
دعوى الطيبي أنه فيمَن ابتُلى بمعصية، وأنه يسمعه ذلك؛ ليزجُره عنها خلاف الظاهر. التنوير (2/ 56).
وقال الشيخ الألباني -رحمه الله-:
يُسْمِعُ نفسَه فقط...، إلا في وضع يكون هو في موضع المعلِّم، إذا كان في موضع المعلم يريد أنْ يعلِّم غيره حينئذٍ يرفع صوته، أما إذا لم يكن كذلك فالأصل في كل الأذكار والأوراد هو الإسرار فيها دون الإجهار...، وبخاصة إذا ترتب من وراء الجهر أحيانًا إزعاج لأخيه المسلم، كالمريض المُبتَلَى فأنت تُسمعه تقول: الحمدُ لله الذي عافَانِي مما ابْتَلاكَ به، فهذا فيه إزعاج، فهنا يتأكد الإسرار...، هو إسماع النفس هو الإسرار. جامع تراث العلامة الألباني في الفقه (17/ 194).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«عافَانِي مِمَّا ابْتَلاكَ به» استُشكِل عدُّ العافية من البلاء فضلًا، مع ما أعده الله للمُبتلين، ممَّا إذا شاهده المعافُون تمنَّوا أن لو كانوا ابتُلوا؛ ليحصل لهم مثلُ ذلك كما ورد.
ويُجاب: بأنَّ البلاء مظِنَّة الجزع، وعدم الصَّبر، وحينئذٍ يكون مِحنة أيّ محنة وفتنة!، فالسلامة منه بالنّظر إلى هذا فضيلة؛ ولذا أمر -صلى الله عليه وسلم- بسؤال العافية فقال: «عافيتك أَوْسَعُ لي»، و«لا تتمنوا لقاء العدو فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم، ولكن سَلُوا الله العافِية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واثبتوا». الفتوحات الربانية (6/187).
قوله: «وفضَّلنِي على كثير مِمَّن خَلَقَ تفضِيلًا»:
قال المناوي -رحمه الله-:
أي: صيَّرني أفضلَ منك، أي: أكثر خيرًا، أو أحسن حالًا. فيض القدير، للمناوي (1/ 351).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«وفضَّلنِي» بالعافية والسَّلامة «على كَثِيرٍ ممن خلقـ» ـهم «تفضيلًا» وعلوًّا بالعافية من الأمراض. مرشد ذوي الحجا والحاجة (23/ 155).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
قوله: «وفَضَّلنِي...» لا يُخالف ذلك؛ لأن التفضيل شاملٌ للتفضيل في البدن والدِّين. الفتوحات الربانية (6/ 187-188).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وفضَّلنِي على كثير مِمَّن خَلَقَ تفضِيلًا» أي: في الدِّين والدُّنيا، والقَلب والقَالبِ. مرقاة المفاتيح (4/ 1687).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«وفضَّلنِي على كثير مِمَّن خَلَقَ تفضِيلًا» أي: بزيادة الفضيلة الدِّينيَّة أو البدنيَّة المُستعَان بها على الأمور الأُخروية. الفتوحات الربانية (6/ 187).
قوله: «لم يُصِبه ذلك البلاءُ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ذلك البلاء» والمرض الذي نزل بذلك المُبتَلَى أيًّا كان ذلك المرض الذي نزل بذلك المُبتَلَى، مُنَفِّرًا كان أو غيره. مرشد ذوي الحجا والحاجة(23/ 155).
قوله: «فإنه إذا قال ذلك كان شُكرَ تِلك النِّعمَة»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«كان» قولُه هذا «شُكرَ تلك النِّعمة» أي: نِعمَة العافِية من الابتلاء والسَّلامة. التنوير (2/ 56).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«كان شكر تِلك النِّعمة» أي: كان قوله ما ذُكر قيامًا بشُكر تلك النَّعمة المُنعَم بها عليه، وهي معافاته من ذلك البَلاء. التيسير (1/ 97 - 98).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وكذا يُستحبُّ الدعاء عند رؤية الظالمين والفاسقين، بل المُبتلين بالدُّنيا... والحاصل: أنَّ رُؤية الصالحين والفاسقين بمنزلة سماع آيات الوعد والوعِيد، فينبغي أنْ يطلبَ في الأول، ويستعيذَ في الثاني. مرقاة المفاتيح (7/ 2761).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
قال إبراهيم النَّخعي: كانوا يكرهون أن يسألوا الله العافية بحضرة المُبتَلَى. بهجة المجالس (ص: 83).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
فيه: أنه ينبغي للعبد ألا يزال ذاكرًا نِعَمَ الله عليه، مُعتبرًا في رؤية العباد، ومقرًّا أن ما به مِن نعمة فمِن الله. التنوير (10/ 226 - 227)
وقال الدميري -رحمه الله-:
يُسنُّ عند رؤية المُبتَلَى أنْ يُقال ما رواه الترمذي عن ابن عمر أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَن رأى صاحب بلاء»...، (و) مصيبة الدِّين أعظم من مصيبة الدنيا؛ ولهذا كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اللهم؛ لا تجعل مصيبتنا في ديننا». النجم الوهاج (2/ 282).
قال العزيزي -رحمه الله-:
يُستحب مع ذَلِك أن يسجد شكرًا لله تعالى على سلامته من ذَلِك. السراج المنير (4/ 294).
وقال الدميري الشافعي -رحمه الله-:
روى الحاكم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- «سجد مرة لرؤية زَمِن» (وهو المريض الذي يطول مرضه)، ومرَّ به أبو بكر فنزل وسجد شكرًا لله، ومرَّ به عمر فنزل وسجد شكرًا لله، و«كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى القِرْدَ سجد لله تعالى شكرًا»، «ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلًا نُغَاشيًّا فخر ساجدًا، ثم قال: أسال الله العافية» رواه البيهقي مرسلًا، وله شاهد يؤكده، و(النُّغاشي) بضم النون، وبالغين والشين المعجمتين، قيل: الناقص الخَلْقِ، الضَّعيف الحركة، وقيل: المُبتَلَى، وقيل: المُختلط العقل...، واستحباب السجود لرؤية العاصي يؤخذ منها استحبابه لرؤية الكافر من باب أولى. النجم الوهاج (2/ 282).
قال ابن القيم -رحمه الله-:
ولكن قد يتخلف عنه أثره، إِمّا لضعفه في نفسه ..، أو لضعفِ القلب وعدم إقباله على الله، وجمعيته عليه وقت الدعاء، فيكون بمنزلة القوس الرخو جدًّا... الداء والدواء(ص: 9).