الأربعاء 26 رمضان 1446 هـ | 26-03-2025 م

A a

«حُوْسِبَ رَجُلٌ ممن كان قبلكم فلم يُوْجَد له من الخَيْرِ شَيء، إلا أنه كان يُخَالِط الناس وكان مُوْسِرًا، فكان يَأْمُر غِلْمَانَه أن يَتَجَاوَزُوا عن الـمُعْسِر، قال: قال الله -عزَّ وجلَّ-: نحن أحقُّ بذلك منه، تَجَاوَزُوا عنه».


رواه مسلم، برقم: (1561) من حديث أبي مسعود -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«حُوْسِبَ»:
أي: حاسبه الله تعالى على أعماله التي قدَّمها. التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني(5/384).

«يُخَالِط الناس»:
أي: يُعَاملهم بالبيوع والمُدَايَنَةِ. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/165).

«مُوْسِرًا»:
الميسرة: السَّعة والغِنى. لسان العرب (5/296).

«يَتَجَاوَزُوا»:
الجَوَازُ: التَّساهل والتّسامح في البيع والاقتضاء.النهاية (1/315).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
أي: يُسَاهِلُوه في القضاء، ولا يُشَاحِحُونَه فيه.التنوير شرح الجامع الصغير (5/385).

«المُعْسِر»:
الْمُعسِرُ: نقيض الْمُوسِر. وأَعْسَر، فهو مُعْسِر: صار ذا عُسْرَة، وقِلَّة ذات يد، وقيل: افْتَقَر. لسان العرب (4/564).


شرح الحديث


قوله: «حُوْسِبَ رَجُل»:
قال ابن الجوزي -رحمه الله-:
أي: نُظِرَ فيما له وعليه. كشف المشكل (2/204).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «حُوْسِبَ رَجُلٌ» يعني: يحاسب رَجُلٌ يوم القيامة، فأورده بصيغة الماضي؛ لتحقق وقوعه. فيض القدير (3/398).
وقال محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «حُوْسِبَ» أي: نُوقش في الحساب على أعماله يوم القيامة أي: يُحاسب يوم القيامة. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (17/219).
وقال الكنكوهي -رحمه الله-:
وينبغي أن يُعلم أنَّ هذه المحاسبة له قد وقع في القبر، على خلاف ما جرت به العادة من أنهم يحاسبون يوم القيامة لا قبله، وكثيرًا ما يُعَبَّر عن أحوال الحشر بلفظ المضي؛ لتَيَقُّن وقوعِها، ويبعد أن يكون المذكور في الرواية جاريًا على تلك الطريقة، أو يكون قد كُشف عليه -صلى الله عليه وسلم- فذكره بلفظ الماضي لمَّا أنه قد شاهده وعاينه، وهذا كثير في الكتاب والسنة.
أو يقال: إن المراد بالمحاسبة هو النظر إليها، والمقابلة بين سيئاته وحسناته، والموازنة فيها من غير ميزان، لا المحاسبة الحقيقية.
ثم اعلم أنَّ المذكور في أخبار أحوال القبر، وأهوال الحشر، إنما هو حال الكفرة الخُلَّص، أو المؤمنين الكُمَّل، وأما ما يجده في القبر فُسَّاق الأُمَّة وفُجَّارها فقد طوى ذكرها في الأحاديث، والذي يُعلم بعد تتبعها: أنهم يعذبون في قبورهم، ومع ذلك فيُراحُون، ويُوعَد لهم الخيرات، ولا يقنطون، فكان تعذيبهم كتعذيب الآباء والأمهات أولادهم، أو كتعذيب الأطباء أو الجراحين المرضى والجرحى؛ بإشرابهم أدوية كريهة الطعم، وشقِّ الجروح، إلى غير ذلك، فإنَّ هؤلاء ما يُقاسون كل ذلك، لا ييأسون عن بُرْئِهم وصحتهم، ولا يبغضون مَن عذَّبهم، ويعلمون أنهم يغسلون بذلك التعذيب عن دنس الأوساخ التي ارتكبوها في الدنيا من منهياته تعالى. الكوكب الدري على جامع الترمذي (2/337-338).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي-رحمه الله-:
قوله: «حُوسِبَ» قيل: معناه: يحاسَب يوم القيامة، وإنما أورده بصيغة الماضي؛ لتحقّق وقوعه، كما في قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} النحل: 1.
وعندي أن كونه بمعنى الماضي لا بُعد فيه، بل هو الأولى؛ فقد يُعذّب عند خروج روحه، أو في قبره، وقد سبق قوله -صلى الله عليه وسلم-: «تلقَّت الملائكة رُوحَ رَجُلٍ»، وقوله: «رَجُلٌ لقي ربه، فقال: ما عملتَ؟» فكلّ هذا ظاهر أنه وقع في الدنيا قبل يوم القيامة، فتبصّر، والله تعالى أعلم. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (27/407).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وفيه: دليل على أنَّه قد يكون الحساب قبل يوم القيامة. التنوير شرح الجامع الصغير (5/384).

قوله: «ممن كان قبلكم»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
أي: من الأمم الكائنة قبلكم. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/165).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
أي: من الأمم السابقة؛ كبني إسرائيل. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (27/407).

قوله: «فلم يُوْجَد له من الخَيْرِ شَيء»:
قال المناوي -رحمه الله-:
أي: من الأعمال الصالحة. فيض القدير (3/398).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
فإن قيل: قوله: «لم يُوجد له من الخير شيءٌ» دليل على أنه كان كافرًا؛ لأن المؤمن لا يخلو من شيء.
فالجواب: أنه قد قال ابن عقيل -رحمه الله-: هذا رجل لم تبلغه شريعة، وعَمِل بخصلة من الخير. كشف المشكل (2/204).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فلم يوجد له من الخير شيء» لا قليل ولا كثير، أي: لم يوجد فعل بِرٍّ في المال إلا إنظار المعسر، هذا مفاد ما في شرح الأبّيِّ، قال: وإلا فله خير الإيمان؛ ولذلك جاز له الغفران. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (17/219).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
«فلم يُوجَد له من الخير شيء» أي: من الأعمال الصالحة، عام مخصوص؛ لأن عنده الإيمان. السراج المنير شرح الجامع الصغير (3/ 98).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
هذا العموم مخصوص قطعًا بأنه كان مؤمنًا، ولولا ذلك لما تجاوز عنه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} النساء: 48، وكان قائمًا بفرائض دينه من الصلاة والزكاة، وما أشبههما، وهذا هو الأليق بحاله؛ فإن هذا الحديث يشهد بأنه كان ممن وُقِي شُحَّ نفسه، وعلى هذا فيكون معنى هذا العموم: أنه لم يوجد له شيء من النَّوافل إلا هذا.
ويحتمل: أن يكون له نَوافل أُخر غير أن هذا كان الأغلب عليه، فنودي به وجُوزِي عليه، ولم يذكر غيره اكتفاءً بهذا، والله تعالى أعلم.
ويحتمل: أن يكون المراد بالخير المال، فيكون معناه: أنه لم يوجد له فعل بِرٍّ في المال إلا ما ذكر من إنظار المعسر، والله تعالى أعلم. المفهم (4/437).
وقال الكنكوهي -رحمه الله-:
أي: من الخير الذي يُوجِب له انفتاح الغُرفة إلى الجنة، ورفع الدرجات، وأما أصل الإيمان فغير منفيٍّ عنه. الكوكب الدري على جامع الترمذي (2/337).
وقال الكنكوهي -رحمه الله- أيضًا:
من ههنا يُعلم أنَّ الرَّجُلَ إذا فعل خيرًا، ولم ينوِ به الثواب، بل إنما كان لاعتياده كريمَ الأخلاق، أو لمقتضى طبْعِه أن يَرْحَم بني نَوْعِه، فإنه يُثاب عليه؛ إذ لو كان الرُّجل المذكور في الحديث ينوي بإنظاره ذلك أجر الآخرة لما قيل: «فلم يُوجَد له من الخير شيء». الكوكب الدري على جامع الترمذي (2/ 335).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
لا حاجة إلى هذه الاحتمالات التي فيها تكلُّف ظاهر، بل ما دلّ عليه ظاهر النصّ، من أنه لا خير عنده أصلًا، إلا الإيمان هو الأولى والأظهر، فتبصّر، والله تعالى أعلم. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (27/407).

قوله: «إلا أنه كان يُخَالِط الناس»:
قال ابن الجوزي -رحمه الله-:
المراد بمخالطته الناس: معاملتهم. كشف المشكل (2/204).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«وكان يُخَالط الناس» أي: يُعَامِلهم ويُضَارِبهم. فيض القدير (3/398).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وكان يخالط الناس» أي: يعاملهم ويضاربهم. التنوير شرح الجامع الصغير (5/ 385).
وقال محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«إلا أنه» أي: لكن أنه «كان يُخالط» أي: يُعامل «الناس» معاملة الدَّيْن. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (17/220).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
أراد بمخالطتهم: مخالطتهم بالتَّعامل معهم بالبيع والشراء. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (27/407).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«كان يخالط الناس» أي: يعاملهم بالبيوع والْمُدَايَنَة. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/ 165).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
يبيع بالأَجَل، ويُقْرِضُ، ويخالط الناس بمعاملات أخرى، كالشركة، والقراض، ونحو ذلك. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (6/ 276).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
قوله: «كان يخالط الناس» دليل على جواز الخُلْطَة، وأجْوَز ما تكون في زمان السلامة، وأكْرَه ما تكون عند فساد الناس والأموال. عارضة الأحوذي (6/43).

قوله: «وكان مُوْسِرًا»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
أي: قام به اليَسَار، واتَّصف به. التنوير شرح الجامع الصغير (5/385).
وقال محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«وكان مُوْسِرًا» أي: كثير المال. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (17/220).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي-رحمه الله-:

«وكان مُوسِرًا» أي: غنيًّا. البحر المحيط الثجاج (27/407).

قوله: «فكان يَأْمُر غِلْمَانَه أن يَتَجَاوَزُوا عن المُعْسِر»:
قال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «وكان يأمر غِلْمَانه» وفي رواية بَدَله «فتيانه» الذين يَتَقَاضون ديونه، أن «يَتَجاوزُوا عن الـمُعْسِر» أي: الفقير الـمُقِلِّ المديون له؛ بأن يحُطُّوا عنه، أو يُنظِروه إلى مَيْسَرة. فيض القدير (3/398).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
قوله: «وكان يأمر غِلْمَانه» بكسر الغين المعجمة، وفي رواية لمسلم: «فِتْيَانه».
«أن يَتَجَاوزوا عن المعسر» بالإنْظَار وبالوضْعِ. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/165).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر» أي: يُسَاهِلُوه في القضاء، ولا يُشَاحِحُونَه فيه. التنوير شرح الجامع الصغير (5/ 385).
وقال المباركفوري -رحمه الله-:
«أن يتجاوزوا عن المعسر» أي: الفقير، أي: يتسامحوا في الاقتضاء والاستيفاء، وقبول ما فيه نقص يسير، «بذلك» أي: بالتجاوز، «تَجَاوَزُوا عنه» أي: تسامحوا عنه. تحفة الأحوذي (4/ 445).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
التجاوز: الإبطاء، والإمهال، والتأخير، والتجاوز: المساهلة في الطلب، وعدم المضايقة والمناقشة، ويدل عليه الرواية بعد: «أُيَسِّرُ على الموْسِر» الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (4/ 376).
وقال الكوراني أيضًا عن الراوية الأخرى:
قال لفتيانه: «تجاوزوا عنه؛ لعل الله أن يتجاوز عنّا»، هذه النية أوجبت له تَجَاوُز الله عنه. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (4/ 377).
وقال الشيخ موسى شاهين-رحمه الله-:
الغلمان: المراد الخدم أحرارًا كانوا أو عبيدًا، وتجاوز الفتيان تجاوز منه، يُنسب إليه بالأصالة، وللفتيان بالمباشرة.
والتجاوز: المسامحة في الاقتضاء والاستيفاء، أعني في الكَمِّ والكيف، فيتسامح في الكَمِّ بالتنازل عن جزء الدَّين، ويتسامح في كيفية الأداء بالتقسيط وتأخير السداد، وهو على هذا يصلح أن يُعامَل به الموسر والمعسر...
والإنظار: هو تأخير وقت السداد، وهو يصلح أن يعامَل به الموسر والمعسر، وإذا كانت روايات مسلم لم تأت بإنظار الموسر، فإن روايات البخاري جاءت به، ففي بعضها: «أَنْظِرُوا الموسر»، وفي بعضها: «أن يُنْظِرُوا ويتجاوزوا عن الموسر»، ولهذا ترجم البخاري: «باب من أنْظَر موسرًا»، ثم «باب من أنْظَر معسرًا». فتح المنعم شرح صحيح مسلم (6/ 277).
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقوله: «كان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر» دليل على جواز إذن السيد لعبده في التجارة. المفهم (4/438).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي-رحمه الله-:
وفيه: دليل على استحباب إذن السيّد لعبده في التَّجَاوز. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (27/407).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
وفيه: إنظار المعسر أمر يوجبه الحق، ويقتضيه الحكم، فكيف فيه هذا الفضل العظيم، والأمر الجسيم؟! والتحقيق فيه: أنَّ الأجر العظيم إنما يكون في امتثال الفرائض، وثوابها أكثر من ثواب النوافل، ولكن ذلك الأجر إنما يكون له إذا فعله من قِبَل نفسه، دون أنْ يُحْوِجَهُ إلى إثبات، والتحكُّم، وحاكم، فإنْ رفعه حتى أثبَت، وحُكم له بذلك لم يكن له فيه ثواب؛ وذلك قول الله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} البقرة: 280؛ وذلك من الغريم، فله الأجر الموعود به آنفًا، أو من الحاكم فله أجر القضاء بالحق، ولا يدخل في هذا الباب.
الثانية: الأجر في الوضع أعظم من الأجر في التَّأخير، فإنَّ الوضع إسقاط عين مالٍ، والتأخير إمهال.
الثالثة: قال: «كنت آمر غِلْماني» هذا دليل أن العبد يَتَّجر ويَقْبِض ويُؤجِّر ويُسقِط ويأخذ إذا أذِنَ له في ذلك سيِّده، وفكَّ عنه الحَجْر الذي اقتضاه الرّق عليه.
الرابعة: يدل على جواز التِّجارة وابتغاء الرِّبح الزائد على القُوت، وإذا انضاف إلى ذلك الصدقة فقد ربح الدنيا والآخرة. عارضة الأحوذي (6/43).

قوله: «قال الله -عزَّ وجلَّ-: نحن أحقّ بذلك منه، تَجَاوَزُوا عنه»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«قال الله -عزَّ وجلَّ-: نحن أحق» أي: أولى «بذلك» أي: بالتَّجاوز «منه» وهذا تقريب للأذهان، وإلا فلا مشاركة بين الخالق والمخلوق في وصفٍ بالحقيقة، حتى يفاضَل بينهما فيه، «تَجَاوَزُوا عنه» سهَّل عليه في معاملته معه، كما سهَّل هو في معاملته مع الخلق. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/165).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فقال الله -عزَّ وجلَّ- لملائكته: نحن أحق بذلك منه» كلام حق؛ لأنه المتفضِّل على الحقيقة؛ إذ لا حق عليه لأحد، «تَجَاوزوا عنه» أي: عن ذنوبه. فيض القدير (3/398).
وقال الكنكوهي -رحمه الله-:
قوله: «نحن أحق بذلك منه» لأنه أتى به مع كونه مفتقرًا، متطمِّعًا إلى غير ذلك. الكوكب الدري على جامع الترمذي (2/338).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فقال الله -عَزَّ وَجَلَّ-» أي: بعد حسابه، وعدم وِجْدَان كل خير إلا هذا، «لملائكته» أي: الذين حاسبوه، «نحن أحقّ بذلك» أي: بالتجاوز عنه؛ لأنه تعالى أكرم الكرماء، «منه» أي: من ذلك الرَّجُل، «تَجَاوَزُوا عنه» أي: عن ذنوبه.
والحديث حثَّ على المسامحة، وأن التّجاوز عن العِبَاد سبب لِتَجَاوز الله عن عبده. التنوير شرح الجامع الصغير (5/385).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«قال الله -عزَّ وجلَّ-» لملائكته: «نحن أحق بذلك» التَّجاوز والتَّسامح «منه» أي: من ذلك الرَّجُل، فـ«تجاوَزوا» يا ملائكتي، وتسامحوا له «عنه»، أي: عن ذنوبه. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (17/220).
وقال أبو العباس القرطبيّ -رحمه الله-:
قوله: «نحن أحقّ بذلك منه» صدقٌ وحق؛ لأنه تعالى متفضّل ببذل ما لا يُستحقّ عليه، ومسْقِط بعفوه عن عبده ما يجب له من الحقوق عليه، ثم يتلافاه برحمته، فيُكرمه ويقرِّبه منه وإليه، فله الحمد كِفَاءَ إنعامه، وله الشكر على إحسانه. المفهم (4/436).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وفيه: أنَّ الله قد تَجاوز عنه بذلك، وغفر ذنوبه، وأنه لا يُسْتَحقر شيء من فعل الخير، أو لأمرهم بالحض عليه، وأن الله قد يَفسح لعبده، ويتجاوز عنه، وينجِّيه من عذابه بالقليل مِن عمل الخير، كمثل هذا الذي قد اعترف أنه لم يعمل من الخير شيئًا إلا هذه المسامحة والإنظار. إكمال المعلم (5/229).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
هذا يدل على أن البَاري تعالى يغفر الذنوب بِفَضْلِه من غير توبة، إذا أُسْنِدت إلى عمل صالح، ولو كانت خصلة واحدة، ولا سيما الصدقة، فإنها حجابُ النار، وتُقاةُ العذاب، والله أعلم. عارضة الأحوذي (6/43).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
فيه: أنَّ الرب -جلّ جلاله- يغفر الذنوب بأقل حسنة توجد للعبد، وذلك -والله أعلم- إذا خلُصتْ النية فيها لله، وأن يريد بها وجهه، وابتغاء مرضاته، فهو أكرم الأكرمين، ولا يُخيِّب عبده من رحمته، وقد قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيم} الحديد: 11.
وفيه أيضًا: أن المؤمن يلحقه أجرُ ما يأمر به من أبواب البر، وإن لم يتولَّ ذلك بنفسه.
وفيه: أن العبد يُحاسَب عند موته بعض الحساب.
وفيه: أنه إن أنْظَرَه، أو وَضَع عنه ساغ ذلك، وهو شرع من قبلنا، وشرعنا لا يخالفه، بل ندب إليه.
وقوله: «تجاوزوا عنه» يدخل فيه الإنظار، والوضيعة، وحسن التقاضي. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (14/ 137).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي-رحمه الله-:
«تَجَاوَزُوا عنه» أمرٌ للملائكة الذين يحاسبونه في أعماله أن يسامحوه فيما فرّط فيه. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (27/408).
وقال المناوي -رحمه الله-:
أي: عن ذنوبه، ومقصود الحديث: الحث على الـمُساهلة والمسامحة في التَّقاضي، وبيان عظيم فضل ذلك، وأن لا يحتقر من الخير شيئًا وإن قلَّ، وأنه تعالى يَتَجَاوز عن القليل من العمل.
وجواز الإذن للعبد في التجارة، والتوكيل في التَّقاضي، وأنه بركة ظاهرة، وكرامة بيِّنة، وسبب للغفران، ومَرْقَاة لدخول الجنان. فيض القدير (3/398).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
جازاه الله -عز وجل- بمثل ما يجازي به الناس، يعني: بمثل ما يفعل هذا الرجل في الناس، عامله الله -عز وجل-، فتجاوز عنه؛ وذلك لأن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه؛ ولأن الجزاء من جنس العمل، ففي هذا الحديث -حديث أبي هريرة- والحديثين بعده دليل على فضيلة إنظار المعسر، والتجاوز عنه وإبْرَائِه. شرح رياض الصالحين (5/ 409).
وقال الشيخ محمد الخولي -رحمه الله-:
التجاوز عن المعسرين، وتفريج كَرْبِ المكروبين، من أعظم الأعمال مثوبة، وأكثرها عند الله أجرًا، وعند الناس حمدًا وشكرًا، ولقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «من سرَّه أن ينجيه الله من كَرْب يوم القيامة فليُنَفِّسْ عن مُعْسِر، أو يَضَعْ عنه»، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «من فرَّجَ عن مؤمنٍ كُربة من كُرب الدّنيا، فرَّج الله عنه كُربة من كُرب يوم القيامة»، وقد يأتي على المرء شدّة ومسغبة يضيق بها واسع رِحابه، وتُمْسك بتَلابيبه، وتصبح الدنيا أمامه كسَمِّ الخِيَاط؛ يودُّ الخلاص منها بأي ثمن وإن غلا، ويودُّ أن لو ابتلعته الأرض؛ لديون تراكمت، وأزمات به حلَّت، لم تُبْقِ على رَطْب ولا يابس، ولا صَامِتٍ من مَالِه ولا ناطق، فإذا ما أنقَذَه دائِنُه مما هو فيه، وحطَّ عنه بعضَ دَينه، أو تجاوَز له عما شُغلَت به ذمَّتُه، كان كمن رُدَّت إليه الحياة، وقد كادت تزهق، أو انتُشِل من براثن الهلاك، وقد أوشك أن يغرق.
وناهيك إذا كان المتجاوِز تاجرًا شأنه البيع والشراء للربح والكسب، فهو جدُّ حريصٍ على زيادة ماله، وإنماء ثروته، وتقليب تجارته في الأسواق، يبتغي المال الوفير، والربح الكثير، فإذا ما وضَع عن غريمه بعض ما عليه دل ذلك على إخلاصه، وسلامة نفسه من الشُّح، ورغبته في الخير، وابتغاء الأجر؛ فلا غَرْو أن يتجاوز الله عن سيئاته، ويحطَّ من أوزاره، ويعفو برحمته عن هفواته، وهو الغفور الرحيم. الأدب النبوي (ص: 268).


ابلاغ عن خطا