الأربعاء 26 رمضان 1446 هـ | 26-03-2025 م

A a

«اقرَءُوا القُرْآنَ، ولا تَغْلُوا فيه، ولا تَجْفُوا عنه، ولا تأكُلُوا بِهِ، ‌ولا ‌تستَكثِرُوا ‌به».


رواه أحمد برقم: (15529)، وأبو يعلى الموصلي برقم: (1518)، والطبراني في المعجم الأوسط برقم: (2574)، من حديث عبد الرحمن بن شِبْل -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (1168)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (‌‌3057).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«لا تَغْلُوا»:
الغلو: الارتفاع في الشَّيء ‌ومجاوزة ‌الحدِّ فيه. جمهرة اللغة، ابن دريد (2/ 961).
وقال العيني -رحمه الله-:
«لا تغلوا» من الغلوِّ بالغين المعجمة، وهو: التَّشدُّد والمجاوزة عن الحدِّ. عمدة القاري (21/ 264).

«لا تَجْفُوا»:
أي: تعاهدوه، ولا تُبعدوا عن تلاوته...والجفاء أيضًا: ترك الصِّلة والبِرِّ. النهاية، ابن الأثير (1/ 281).
وقال الزبيدي -رحمه الله-:
أي: لا تبعدوا عن تلاوته، وجفاه: فعل به ما ساءه. تاج العروس (37/ 360).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
الجفاء: هو البعد عن الشَّيء. شرح سنن أبي داود (4/ 320).


شرح الحديث


قوله: «اقرؤوا القُرْآنَ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«اقرؤوا ‌القرآن» أي: اغتنموا قراءته، وداوموا على تلاوته. مرقاة المفاتيح (4/ 1460).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
فإن المراد من تلاوته المأمور بها بأن يقرأه لتدبُّر معانيه؛ ولِمَا أعدَّ الله من الأجر لتاليه. التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 611).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
والذين يقرؤون القرآن ينقسمون إلى قسمين:
قسم لا يعمل به: فلا يؤمنون بأخباره، ولا يعملون بأحكامه، هؤلاء يكون القرآن حُجَّة عليهم.
وقسم آخر يؤمنون بأخباره، ويصدِّقون بها، ويعملون بأحكامه، فهؤلاء يكون القرآن حُجَّة لهم يُحاجُّ عنهم يوم القيامة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «القرآن حُجَّة لك أو عليك». وفي هذا دليل على أن أهمَّ شيء في القرآن العمل به، ويؤيِّد هذا قوله تعالى: {‌كِتَابٌ ‌أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} ص: 29، أي: يتفهَّمُون معانيها ويعملون بها، وإنما أخَّر العمل عن التَّدبُّر؛ لأنه لا يمكن العمل بلا تدبُّر، إذا أنّ التَّدبُّر يحصل به العلم، والعمل فرع عن العلم، فالمهمُّ أن هذا هو الفائدة من إنزال القرآن: أن يتلى ويعمل به، ويؤمن بأخباره، يعمل بأحكامه، يمتثل أمره، يجتنب نهيه. شرح رياض الصالحين (4/ 636- 638).

قوله: «ولا تَغْلُوا فيه»:
قال ابن كثير -رحمه الله-:
قوله: «لا تغلوا فيه» أي: لا تبالغوا في تلاوته بسرعة في أقصر مُدَّة، فإن ذلك ينافي التَّدبُّر غالبًا؛ ولهذا قابله بقوله: «ولا تجفوا عنه». تفسير القرآن العظيم (1/ 83).
وقال الشيخ محمد بن سالم الحفني -رحمه الله-:
أي: لا تتعدُّوا حدوده من حيث لفظه، كترك تجويد حروفه، أو معناه: كترك أوامره... إلخ، أو لا تغلوا في كثرة تلاوته؛ لئلا تَملُّوا، أو لا تغلوا في التَّبحُّر في معانيه المتشابهة؛ لئلا يؤدي إلى الاعتقاد الفاسد، أو لا تغلوا في السُّلوك به مسلك المجادلة مع الناس. حاشية الحفني على الجامع الصغير (1/278).
وقال البقاعي -رحمه الله-:
الغلوُّ: المبالغة المؤدية للملل، وهي ضِدُّ الجفوة، والمراد: التَّوسُّط والرِّفق، والاقتصاد. يُبَيَّنَه ما رواه أبو عبيد في الغريب عن علي -رضي الله عنه- قال: «خير هذه الأُمَّة: النَّمط الأوسط، يلحق بهم التَّالي، ويرجع إليهم الغالي». النَّمط: الطَّريق، والغالي: المتعمِّق حتى يخرجه ذلك إلى إكفار الناس، كنحو من مذاهب الخوارج، وأهل البدع. مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور.(1/ 344- 345).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
يريد لا تغلوا في القرآن بأن تبذلوا جهدكم في قراءته وتجويده من غير تفكُّر وتدبُّر. الكاشف عن حقائق السنن(10/ 3186).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
الغالي فيه: المتجاوز فيه عن الحدِّ، وقيل: هو الذي يقول في القرآن برأي من عند نفسه، قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ ‌الْكِتَابِ ‌لَا ‌تَغْلُوا ‌فِي ‌دِينِكُمْ} النساء: 171. أي: لا تتجاوزوا الحدَّ في الدِّين الذي أنتم مطلوبون به، فالغلوُّ: التَّجاوز عن الحدِّ والقرب. فتح القريب المجيب (2/ 20).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ولا تغلوا فيه» من الغلوِّ، وهو التَّشدُّد في الشَّيء ومجاوزة الحدِّ. وفي معناه: «حامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه»...، ولعلَّ المراد بالغلوِّ المبالغة في تلاوته والمسارعة في ختمه، كما يرشد إليه الجفاء، وهو البعد عنه. التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 608).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«الغالي» المتجاوز للحدِّ في التَّشدُّد في العمل به، وتتبع ما خفي منه، واشتبه من معانيه، وانكشف عن علله الدَّقيقة التي لا يصل إليها عقله بما يبتدعه في الدِّين؛ ليَضِلَّ ويُضِلَّ غيره، ويجاوز حدود قراءته ومخارج حروفه ومدوده. شرح سنن أبي داود (18/ 546).

قوله: «ولا تَجْفُوا عنه»:
قال أبو موسى المديني -رحمه الله-:
أي: تعاهدوه ولا تبعدوا عن تلاوته، والجفاء: ترك الصِّلة والبِرِّ، وأجفاه: أبعده وأقصاه، وجفوته جفوة، بالكسر، والجفوة: المرَّة. المجموع المغيث (1/ 337).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«ولا تجفوا عنه» أي: تعاهدوه، ولا تبتعدوا عن تلاوته...، كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو: «لم يفقه من قراءة القرآن في أقل من ثلاثة»، أو «لا تجفوا عنه» بأن تتركوا قراءته، وتشتغلوا بتأويله وتفسيره. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3186).
وقال الملا على القاري -رحمه الله-:
أي: تعاهدوه، ولا تُبعدوا عن تلاوته بأن تتركوا قراءته، وتشتغلوا بتفسيره وتأويله؛ ولذا قيل: اشتغل بالعلم بحيث لا يمنعك عن العمل، واشتغل بالعمل بحيث لا يمنعك عن العلم. مرقاة المفاتيح (8/ 3114- 3115).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ولا تجفوا عنه» بالمثنَّاة الفوقية فجيم ساكنة من الجفاء، وهو البعد عن الشيء، أي: تعاهدوه ولا تُبعدوا عن تلاوته، وتقدَّم أن أطول مدَّة أُذِنَ بالبعد في إتمامه أربعون يومًا. التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 607- 608).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
والجافي أي: التارك له، البعيد عن تلاوته والعمل بما فيه من الجفاء، وهو البعد عن الشيء، فجفاه إذا بعد عنه، وفي الحديث: «اقرؤوا القرآن، ولا تجفوا عنه» أي: تعاهدوه، ولا تبعدوا عن تلاوته حتى تنسوه، لا سيّما من أعرض عنه بكثرة النَّوم والبطالة والإقبال على الدُّنيا والشَّهوات، بل ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بليله إذ الناس نائمون، وبنهاره إذ الناس مفطرون، وببكائه إذ الناس يضحكون، وبصمته إذ الناس يخوضون، فما أقبح بحامل القرآن أن يتلفَّظ بأحكامه وهو لا يفهم ما يقول! فما حال مثل هذا إلا كمثل الحمار يحمل أسفارًا. شرح سنن أبي داود (18/ 546- 547).
وقال المناوي -رحمه الله-:
فالجفاء عنه: التَّقصير. والغلوُّ: التَّعمُّق فيه. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 193).

قوله: «ولا تأكُلُوا بِهِ»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «ولا تأكلوا به» أي: بالقرآن؛ مثل أن يستأجر رجلًا يقرأ على رأس قبر، قيل: هذه القراءة لا يستحِقُّ بها الثَّواب لا للميِّت ولا للقارئ. البناية شرح الهداية (10/ 279).
وقال العيني -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «ولا تأكلوا به» أي: بمقابلة القرآن، أراد: لا تجعلوا له عوضًا من سُحت الدُّنيا. عمدة القاري (21/ 264).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ولا تأكلوا به» لا تجعلونه مكسبًا تأكلون به أموال الناس، كما يفعله المرتزقة بتلاوته. التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 608).

قوله: «‌ولا ‌تستَكثِرُوا ‌به»:
قال البقاعي -رحمه الله-:
«ولا تستكثروا به» وفي نسخة: «ولا تستأثروا به». وشكَّ أبو عبيد (في كتاب فضائل القرآن) فقال: «أو تستكثروا به». مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور (1/ 344).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«‌ولا ‌تستكثروا ‌به» تجعلوه سببًا للاستكثار من الدُّنيا. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 193).
وقال السندي -رحمه الله-:
«ولا تستكثروا به» أي: المال، أي: لا تطلبوا به أمرًا دنيويًّا، سواء كان حاجة أصليَّة، كالأكل، أو زائدة، كزيادة المال. حاشيته على مسند أحمد (3/520).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ولا تستكثروا به» الأخذ. التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 609).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
إن قلتَ: حديث البخاري: «إن أحقَّ ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله» يعارضه.
قلتُ: قيل: ذلك أي: حديث النَّهي عن الأكل به فيما إذا تعيّن عليه تعليمه فإنه لا تَحِلُّ له الأجرة؛ لأنها على واجب، وعليه يحمل حديث أبي داود عن عبادة بن الصامت: أنه علَّم رجلًا من أهل الصُّفَّة، فأهدى له قوسًا، فقال له -صلى الله عليه وسلم-: «إن سرَّك أن يُطوَّق بها طوقًا من نار فاقبلها». وأجاب من أجاز أخذ الأجرة مطلقًا بضعف الحديث، وقيل: التَّعليم على ثلاثة وجوه:
أحدها: للحسبة؛ فلا يأخذ به عوضًا.
الثاني: أن يُعلِّم بالأجرة.
الثالث: أن يُعلِّم بغير شرط، وإذا أهدي إليه قبل.
فالأول مأجور، وعليه عمل الأنبياء والرسل، والثاني مختلف فيه، والأرجح الجواز، والثالث يجوز مطلقًا؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان مُعلِّمًا للخلق، وكان يقبل الهديَّة. التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 608).
وقال الطحاوي -رحمه الله-:
قال أصحابنا: لا تجوز الإجارة على تعليم القرآن والأذان والصَّلاة، ولا على تعليم الفرائض والفقه. وقال مالك: لا بأس بأخذ الأجرة على تعليم القرآن والأذان، وتكره الإجارة على تعليم الفقه. وقال الحسن بن حيٍّ: تكره أجرة المعلم. وقال الشافعي: يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والأذان والصَّلاة بهم.
قال أبو جعفر (الطحاوي):...عن خارجة بن الصَّلْت عن عمِّه أنه قال: أقبلنا من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأتينا على حيٍّ من أحياء العرب، فقالوا لنا: إنكم جئتم من عند الحَبْر بخير، فهل عندكم رقية لمعتوه عندنا؟ فقلنا: نعم. فقرأت عليه فاتحة الكتاب ثلاثة أيام غدوة وعشيَّة، أجمع بزاقي ثم أتفل، وكأنما أنشط من عقال، فأعطوني جُعلًا، فقلت: لا، حتى أسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسألته، فقال: «كُلْ؛ فَلَعمري لمن أكل برقية باطل، لقد أكلت برقية حقٍّ»... (و) عن أبي سعيد الخدري -رضي الله- أن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كانوا في غزاة، فذكر نحوه في ملدوغ فأعطوهم غنمًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «خذوها، واضربوا لي معكم فيها بسهم».
قال أبو جعفر (الطحاوي): إنما ذكر في ذلك أخذ الجُعْل على الرقية، والرقية ليست بواجبة، والأذان والصَّلاة واجبة، وكذلك تعليم القرآن، وقد روى يحيى بن أبي كثير... عن عبد الرحمن بن شِبْل الأنصاري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «اقرؤوا القرآن، ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ‌ولا ‌تستكثروا ‌به». مختصر اختلاف العلماء(4/ 99- 100).
وقال الفرغاني الحنفي -رحمه الله-:
وبعض مشايخنا استحسنوا الاستئجار على تعليم القرآن اليوم؛ لأنه ظهر التَّواني في الأمور الدِّينية، ففي الامتناع تضييع حفظ القرآن، وعليه الفتوى. الهداية في شرح بداية المبتدي (3/ 238).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
وأمَّا مَن علَّم القرآن على أنه لله، وأن يأخذ من المتعلِّم ما دفعه إليه بغير سؤال ولا استشراف نفس فلا بأس به، وأمَّا حديث عمران بن حصين فليس فيه إلا تحريم السُّؤال بالقرآن، وهو غير اتِّخاذ الأجر على تعليمه.
وأمَّا حديث عبد الرحمن بن شِبْل فهو أخصُّ من محلِّ النزاع؛ لأن المنع من التَّأكُّل بالقرآن لا يستلزم المنع من قبول ما دفعه المتعلِّم بطيبة. نيل الأوطار (5/ 344).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
أما القراءة بأجر ولو بلا شرط فذهبت الحنفية والحنابلة إلى أنه لا ثواب فيها، وأن الآخذ والمعطي آثمان؛ لحديث عبد الرحمن بن شِبْل أن النبي -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم- قال: «اقرؤوا القرآن واعملوا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به، ‌ولا ‌تستكثروا ‌به»... وذهبت الشافعية والمالكية إلى جواز أخذ الأجر على قراءة القرآن؛ لإطلاق حديث ابن عباس أن النبي -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم- قال: «إن أحقَّ ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله» أخرجه البخاري، وحمله الأوَّلُون على خصوص ما ورد فيه من الرُّقى جمعًا بين الأحاديث. المنهل العذب المورود (8/ 261- 262).

وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)


ابلاغ عن خطا