«لا تقُومُ الساعةُ حتَّى يَتَبَاهَى الناسُ في المساجدِ».
رواه أحمد برقم: (14020)، وأبو دواد برقم: (449)، والنسائي برقم: (689)، وابن ماجه برقم: (739)، وابن حبان برقم: (1613)، من حديث أنس -رضي الله عنه-.
ولفظ النسائي: «من أشراط الساعة أن يتباهى الناس...».
ولفظ ابن حبان: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يتباهى الناس في المساجد».
صحيح الجامع برقم: (5895 ــ 6816)، صحيح أبي داود برقم: (476).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«يتباهى»:
المباهاة: المفاخرة، وقد باهى به يباهي مباهاة. النهاية، لابن الأثير (1/ 169).
شرح الحديث
قوله: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
وقوله: «لا تقوم الساعة» قد يؤخذ منه أنه من أشراطها، والتَّباهي إمَّا بالقول كما عرفت، أو بالفعل كأن يبالغ كُلُّ واحد في تزيين مسجده ورفع بنائه، وغير ذلك.
وفيه دلالة مفهمة بكراهة ذلك، وأنه من أشراط السَّاعة، وأن الله لا يُحِبُّ تشييد المساجد ولا عمارتها إلا بالطاعة. سبل السلام (1/ 236).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«لا تقوم السَّاعة» يعني: ساعة البعث، والسَّاعة تقوم إذا أنهى -تبارك وتعالى- هذا العالم نفخ في الصور، فصعق الناس، {ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} الزمر:68، فالسَّاعة لا تقوم حتى يصل الأمر إلى هذا.فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (1/ 621).
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «حتى يتباهى» أي: حتى يتفاخر الناس؛ من المباهاة، وهي المفاخرة؛ والمعنى: أنهم يزخرفون المساجد ويزيِّنونها، ثم يقعدون فيها، ويتمارون ويتباهون، ولا يشتغلون بالذِّكر، وقراءة القرآن والصَّلاة. شرح أبي داود (2/ 343).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«أن يتباهى الناس في المساجد» أي: في شأنها أو بنائها، يعني: يتفاخر كُلُّ أحد بمسجده، ويقول: مسجدي أرفع أو أزين أو أوسع أو أحسن؛ رياء وسمعة واجتلابًا للمدحة. مرقاة المفاتيح (2/ 605).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«يتباهى الناس في المساجد» أي: يتفاخروا بها؛ بأن يقول الرَّجُل: مسجدي أحسن، فيقول الآخر: مسجدي، أو المراد: المباهاة في إنشائها وعمارتها، أو غير ذلك؛ وذلك لأن المباهاة بها من دأب أهل الكتاب. فيض القدير (6/ 340).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«لا تقوم الساعة حتى يتباهى» يتفاخر «الناس في المساجد» يتفاخرون في أبنيتها وتزويقها، وفرشها؛ وذلك من أمارات السَّاعة؛ لأنه معصية في صورة الطاعة، أو يجعلون المساجد مجالس للمفاخرة بالآباء والأموال والأنساب، والكُلُّ منهيٌّ عنه، والنَّوع الأول قد وقع في الأمصار، وفيه النَّهي عن ذلك. والحديث من أعلام النبوة. التنوير شرح الجامع الصغير (11/ 133).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
قال: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد» أي: يتفاخرون في بناء المساجد، يعني: يتفاخر كُلُّ واحد بمسجده يقول: مسجده أرفع، أو أزين، أو أوسع، أو أحسن رياءً وسمعة؛ واجتلابًا للمدحة، ويؤيِّده ما نقله الحافظ من مسند أبي يعلى، وصحيح ابن خزيمة من طريق أبي قِلابة أن أنسًا قال: سمعته يقول: «يأتي على أمتي زمان يتباهون بالمساجد، ثُمَّ لا يعمرونها إلَّا قليلًا». بذل المجهود في حل سنن أبي داود (3/ 160).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «إن من أشراط الساعة» الأشراط: جمع شرط، وهو: العلامة.
«أن يتباهى» أي: يتفاخر؛ يعني: من علامات القيامة أن يتفاخر كُلُّ واحد بمسجد، ويقول: مسجدي أرفع وأكثر زينة من مسجد فلان. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 74).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«من أشراط الساعة» أي: بعض علاماتها «أنْ يتباهى» يتفاخر «الناس في المساجد» في عمارتها وتشييدها، وهل يدلُّ هذا بخصوصه على كراهة تشييدها؟ قيل: لا يدلُّ؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- إنما ذكر علامة من علامات الساعة، وما كُلُّ علاماتها محرَّمة ولا مكروهة، بل بعضها مذموم، كرفع الأمانة، وبعضها لا يُذمُّ ولا يحمد، كانتفاخ الأهلة، ونزول عيسى -عليه السلام-. نعم الأدلَّة على كراهة زخرفة المساجد، أو تحريمها أحاديث أخر معروفة. التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 579-580).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«أن يتباهى» أي: يتفاخر، مبتدأ، و«من أشراط الساعة» خبره، قُدِّم للاهتمام لا للتَّخصيص؛ لأن في أشراطها كثرة؛ ولَمَّا كان هذا الصنيع من قبل الناس، لا سِيَّما من أُمَّتِه، قدَّمه اهتمامًا لمزيد الإنكار عليهم. شرح المشكاة (3/ 940-941).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«نهى أن يتباهى الناس في المساجد» يتفاخرون بالأناقة في عمارتها، وإنشائها وزخرفتها كما سلف؛ لا أن المراد أن يتفاخروا بذكر مناقبهم فيها، فإنه منهيٌّ عنه فيها، وفي غيرها. التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 597).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وهذا أخرجه ابن خزيمة في صحيحه من حديث أبي قِلابة عن أنس مرفوعًا: «يأتي على الناس زمان يتباهون بالمساجد، ثم لا يعمرونها إلا قليلًا»، أو قال: «يعمرونها قليلًا». وقال البخاري: وقال ابن عباس: «لَتُزَخْرِفُنَّهَا كما زَخْرَفَتِ اليهود والنصارى»، وهذا أخرجه أبو داود بإسناد صحيح عنه بعد أن روى عنه مرفوعًا: «ما أمرت بتشييد المساجد». والزَّخرفة: الزَّينة، أي: لَتُزَيِّنُنَّها ولَتُموِّهُنَّها، وأصل الزُّخرف: الذَّهب، والنَّهي خوف شغل المصلي، أو لإخراج المال في غير وجهه، أو لهما. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (5/ 530-531).
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
وفي مسند أبي يعلى، وصحيح ابن خزيمة من طريق أبي قِلابة أن أنسًا قال: سمعته يقول: «يأتي على أمتي زمان يتباهون بالمساجد، ثم لا يعمرونها إلا قليلًا»، ومعنى: «لا يعمرونها» المراد عمارتها بالصلاة، وكثرة ذكر الله تعالى والاعتكاف فيها، وليس به بنيانها، وكذا رواية البخاري: «يتباهون بها» أي: بنقش المساجد وكثرتها.
وروى في شرح السُّنَّة بسنده عن صالح بن رُستم قال: قال أبو قِلابة: غدونا مع أنس بن مالك إلى الزاوية (موضع يبعد عن البصرة مقدار فرسخين)، فحضرت صلاة الصُّبح، فمررنا بمسجد، فقال أنس: أيُّ مسجد هذا؟ قالوا: مسجد أحدث الآن، فقال أنس: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «سيأتي على الناس زمان يتباهون في المساجد، ثم لا يعمرونها إلا قليلًا». شرح سنن أبي داود (3/ 258-259).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وهذا (زخرفة المساجد) بدعة؛ لأنه لم يفعله -عليه السلام-، وفيه موافقة أهل الكتاب. مرقاة المفاتيح (2/ 604).
وقال المناوي -رحمه الله-:
وذلك لأن المباهاة بها من دأب أهل الكتاب. فيض القدير (6/ 340).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
روى المروذي في كتاب الورع بإسناد عن أبي الدرداء قال: إذا حليتم مصاحفكم، وزخرفتم مساجدكم؛ فعليكم الدَّمار. وقال المروذي: ذكرت لأبي عبد الله (أحمد بن حنبل) مسجدًا قد بني وأُنفِقَ عليه مال كثير، فاسترجع وأنكر ما قلت، قال حرب: قلتُ لإسحاق -يعني: ابن راهويه-: فتجصيص المساجد؟ قال: أشدُّ وأشدُّ، المساجد لا ينبغي أن تُزيَّنَ إلا بالصَّلاة والبِرِّ.
وقال سفيان الثوري: يكره النَّقش والتَّزويق في المساجد، وكُلُّ ما تُزيَّن به المساجد، ويقال: إنما عمارته ذكر الله -عز وجل-. وممن كره زخرفة المساجد وتزويقها عمر بن عبد العزيز، وكان قد أراد إزالة الزَّخرفة التي كان الوليد وضعها في مسجد دمشق الجامع، فكَبُرَ ذلك على مَنْ يستحسنه ممن تُعْجِبُه زينة الحياة الدُّنيا، واحتالوا عليه بأنواع الحيل، وأوهموه أنه يغيظ الكُفَّار، حتى كفَّ عن ذلك.
وقد روي عن ابن جريج، قال: أوَّلُ من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك، ذكره الأزرقي.
ولأصحابنا وأصحاب الشافعي في تحريم تحلية المساجد بالذَّهب والفضَّة وجهان، وكرهه المالكية وبعض الحنفية، ومنهم مَنْ رخَّص فيه، وقالوا: إنْ فَعَلَ ذلك من مال الوقف فقد ضمنه من ماله. فتح الباري (3/ 284-285).
وقال الشيخ الألباني -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث كراهة تزويق المساجد وتزيينها بالنُّقوش والحُمرة والصُّفرة، وكُلِّ ما يُلهي المصلِّي، ويشغله عن الخشوع الذي هو روح جسم العبادة، كما قال الصنعاني، وفوق هذا ففيه إضاعة المال بدون أيَّة فائدة للمسجد، وقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قيل وقال وكثرة السُّؤال وإضاعة المال؛ وذلك أنه ليس المقصود من بناء المساجد إلا أن تَكِنَّ النَّاس من الحرِّ والقَرِّ، كما سبق عن عمر رضي الله عنه. وزخرفتها ليس من ذلك في شيء، ولذلك نهى عنه عمر رضي الله عنه بقوله: وإياك أن تُحمِّر أو تُصفِّر. قال ابن بطال: كأن عمر فهم ذلك من ردِّ الشَّارع الخميصة إلى أبي جهم من أجل الأعلام التي فيها وقال: «إنها ألهتني عن صلاتي».
قال الحافظ: ويحتمل أن يكون عند عمر من ذلك عِلمٌ خاصٌّ بهذه المسألة.
ثم ذكر حديث عمر مرفوعًا بلفظ: «ما ساء عمل قوم قط إلَّا زخرفوا مساجدهم» الثمر المستطاب(1/٤٦٥).
قال ابن حجر -رحمه الله-:
وأوَّلُ مَن زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك بن مروان، وذلك في أواخر عصر الصَّحابة، وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك خوفًا من الفتنة ... وقال ابن المنير: لَمَّا شيَّد النَّاس بيوتهم وزخرفوها ناسب أن يصنع ذلك بالمساجد صونا لهًا عن الاستهانة، وتُعقِّب بأن المنع إن كان للحثِّ على اتباع السلف في ترك الرَّفاهية فهو كما قال، وإن كان لخشية شُغل بال المصلِّي بالزَّخرفة فلا؛ لبقاء العلة. فتح الباري(1/٥٤١)
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
فقه الحديث: والحديث يدلُّ على أن زخرفة المساجد والمباهاة بها من علامة القيامة، فيُطلب البُعد عن ذلك، وقد ورد في ذمِّ زخرفة المساجد أحاديث، منها: ما رواه ابن خزيمة وصحَّحه من طريق أبي قِلابة أن أنسًا قال: سمعته -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم- يقول: «يأتي على أمتي زمان يتباهون بالمساجد، ثُمَّ لا يعمرونها إلا قليلًا». المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (4/ 46).
قال ابن حجر -رحمه الله-:
في حديث أنس عَلَم من أعلام النبوة؛ لإخباره -صلى الله عليه وسلم- بما سيقع، فوقع كما قال. فتح الباري(1/٥٤١)
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
وهذا الحدِيث فيه مُعْجزة ظاهِرة؛ لإخباره -صلى الله عليه وسلم- عما سيقع بعدهُ، فإن تزويق المساجد والمبَاهَاة بزخرفتها كَثُرَ من الملوك والأمراء في هذا الزَّمان بالقاهرة، والشَّام، وبيت المقدس، وغَيرهَا؛ بأخذهم أمَوال الناس ظلمًا وعدوانًا، وعمارَتهم بهَا المدَارس على شكل بديع، فنَسأل الله السَّلامة والعَافيَة. شرح سنن أبي داود (3/ 258).
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي -رحمه الله-:
الحديث فيه: معجزة للرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث أخبر بما أطلعه الله عليه من الغيب في المستقبل في أُمَّتِه، فأخبر به، فحصل طبق ما أخبر به -صلى الله عليه وسلم-، فإن التباهي بالمساجد، واتخاذها مثل الكنائس في الزَّخرفة وتعليق الزِّينة من النَّجف وغيره أصبح فاشيًا في النَّاس حتى أصبح كأنه من السُّنَّة، فهو داخل في عموم: «لتركبُنَّ سَنَنَ من كان قبلكم» الحديث.
وفيه: دليل على عدم جواز المباهاة بالمساجد؛ لأنها محلُّ عبادة، فيجب أن يكون بناؤها لله خالصًا من أي شائبة تشوبه، قال تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} الزمر: 3.
ويؤخذ منه: عدم جواز زخرفتها؛ لأن الغالب أنه لا يحمله على ذلك إلا حُبُّ المُباهاة، والله أعلم. شروق أنوار المنن الكبرى الإلهية بكشف أسرار السنن الصغرى النسائية(5/ 1410).