«صليتُ خلفَ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فكان إذا انصرفَ انحرفَ».
رواه أحمد برقم: (17476)، وأبو داود برقم: (614)، والنسائي برقم: (1334)، من حديث يزيد بن الأسود -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (4687)، صحيح أبي داود برقم: (627).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«انصرف»:
أي: انتهى من الصلاة. دليل الفالحين، لابن علان (6/ 420).
«انحرف»:
مَال، ويقال: انحرف مزاجه: مَال عن الاعتدال.المعجم الوسيط(1/١٦٧).
شرح الحديث
قوله: «صليتُ خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان إذا انصرف انحرف»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «إذا انصرف انحرف» يعني: إذا انصرف من الصلاة انحرفَ، واستقبل القوم، والمراد من الانصراف: السَّلام. شرح أبي داود(3/ 132).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«قال: صليتُ خلف النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكان إذا انصرف» أي: من صلاته بالسَّلام «انحرف» أي: مال عن شقه الأيمن، أو الأيسر، وروى ابن حبان عن قَبِيصَة بن هُلْب رجل من طيء، عن أبيه: أنه صلى مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكان ينصرف عن شقيه.
قال أصحابنا (الشافعية): إذا أراد أن ينفتل (ينصرف) في المحراب، ويقبل على الناس للذِّكر والدُّعاء وغيرهما جاز أن ينفتل كيف شاء، وأما الأفضل فقال البغوي: الأفضل أن ينفتل عن يمينه. شرح سنن أبي داود (4/ 26-27).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«كان إذا انصرف» من صلاته بالسَّلام «انحرف» بجانبه، أي: مال على شقه الأيمن أو الأيسر، فيندب ذلك للإمام، والأفضل انتقاله عن يمينه؛ بأنْ يدخل يمينه في المحراب، ويساره إلى الناس، على ما ذهب إليه أبو حنيفة، أو عكسه على ما عليه الشافعي. فيض القدير (5/ 111).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
الانحراف: مصدر انحرف عن كذا: إذا مال عنه، والمراد به هنا ميل الإمام عن جهة القبلة إلى جهة المأمومين. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (15/ 329).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«ينحرف» أي: ينصرف ويتحول إلى شقه الأيمن أو الأيسر «بَعْدَ التَّسْلِيمِ» أي: بعد الفراغ من الصَّلاة.
«فكان» أي: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «إذا انصرف» عن الصَّلاة «انحرف» أي: تحوَّل، وقد وردت الرِّوايات المختلفة في الانصراف عن الصَّلاة، فروى البخاري من حديث سَمُرةَ بن جُندُب قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلَّى صلاة أقبل علينا بوجهه»، وأخرج مسلم من حديث أنس قال: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ينصرف عن يمينه».
وأخرجا عن عبد الله بن مسعود قال: «لا يجعل أحدكم للشَّيطان شيئًا من صلاته، يرى أن حقًّا عليه أن لا ينصرف إلَّا عن يمينه، لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا ينصرف عن يساره». بذل المجهود في حل سنن أبي داود (3/ 533).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
قوله: «فكان إذا انصرف انحرف» أي: إذا سلَّم من الصَّلاة مال عن القبلة يمينًا أو شمالًا، وفي نسخة: «انحرف على شقه الأيمن»، ويؤيِّده ما رواه الترمذي من طريق قَبِيصَة بن هُلْب عن أبيه قال: «كان رسول الله -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم- يؤمنا فينصرف على جانبيه جميعًا على يمينه وعلى شماله». ثم قال: حديث هُلْب حسن، وعليه العمل عند أهل العلم، أنه ينصرف على أيِّ جانبيه شاء؛ إن شاء عن يمينه، وإن شاء عن يساره، وقد صحَّ الأمران عن النبي -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلَّم-. المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (4/ 346).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
والأفضل جعل يمينه إلى المحراب، ويساره إلى الناس عند الحنفي، وعكسه عند الشافعي، ورجَّح بعضهم الصِّفة الأولى في محراب المدينة؛ لأنه إن فعل الثَّانية استدبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو قبلة آدم، فمَن بعده من الأنبياء. شرح الزرقاني على المواهب اللدنية (10/ 461).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وأما مُكث الإمام في مُصلَّاه بعد السَّلام، فقد كرهه أكثر العلماء إذا كان إمامًا راتبًا، إلا أن يكون مكثه لعِلَّة كما فعل -عليه السَّلام- من أجل انصراف النِّساء قبل أن يدركهن الرِّجال، هذا قول الشَّافعي، وأحمد بن حنبل، وقال مالك: يقوم ولا يقعد في الصَّلاة كُلِّها إذا كان إمام مسجد جماعة، وإن كان إمامًا في سفر، فإن شاء قام، وإن شاء قعد.
وقال أبو حنيفة: كُلُّ صلاة بعدها نافلة فإنه يقوم لها، وما لا نافلة بعدها كالعصر والفجر، فإن شاء قام، وإن شاء قعد، وهو قول أبي مجلز.
وقال (أبو) محمد (ابن أبي زيد القيرواني): ينتقل في الصَّلوات كُلِّها؛ ليتحقَّق المأموم أنه لم يبقَ عليه شيء من الصَّلاة من سجود سهو ولا غيره. شرح صحيح البخاري (2/ 461-462).
قال العيني -رحمه الله-:
وقد اختلف الفقهاء في هذا الباب، فقال أبو حنيفة: كُلُّ صلاة يُتنفَّل بعدها يَقُوم، وما لا يُتنفَّل بعدها كالعَصْر والصُّبح فلا. وقال أبو محمد (ابن أبي زيد القيرواني): ينتقل في الصَّلوات كُلَّها؛ ليتحقَّق المأموم أنه لم يبقَ عليه من سجوده سهو ولا غيره، وقال مالك: لا يثبت الإمام بعد سلامه، وقال أشهب: له أن يَتنفَّل في موضعه، أخذًا بما رُوي عن القاسم بن محمد. شرح أبي داود (3/ 132).
وقال الكاساني -رحمه الله-:
إذا فرغ الإمام من الصلاة فلا يخلو: إما إن كانت صلاة لا تُصلَّى بعدها سُنَّة، أو كانت صلاة تُصلَّى بعدها سُنَّة؛ فإن كانت صلاة لا تصلى بعدها سُنَّة كالفجر والعصر فإن شاء الإمام قام، وإن شاء قعد في مكانه يشتغل بالدُّعاء؛ لأنه لا تطوَّعَ بعد هاتين الصَّلاتين، فلا بأس بالقعود، إلا أنه يُكره المُكث على هيئته مستقبل القبلة؛ لِمَا روي عن عائشة -رضي الله عنها- «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا فرغ من الصلاة لا يمكث في مكانه إلا مقدار أن يقول: اللهمَّ أنت السَّلام، ومنك السَّلام، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام».
وروي أن جلوس الإمام في مُصلَّاه بعد الفراغ مستقبل القبلة بدعة؛ ولأن مُكثه يُوهِمُ الدَّاخل أنه في الصلاة فيقتدي به، فيفسد اقتداؤه، فكان المكث تعريضًا لفساد اقتداء غيره به فلا يمكث، ولكنه يستقبل القوم بوجهه إن شاء، إن لم يكن بحذائه أحد يُصلِّي؛ لِمَا روي «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا فرغ من صلاة الفجر استقبل بوجهه أصحابه، وقال: هل رأى أحدكم رؤيا؟»، كأنه كان يطلب رؤيا فيها بشرى بفتح مَكَّة.بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (1/ 159).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
كان (-صلى الله عليه وسلم-) إذا سلَّم استغفر ثلاثًا، وقال: «اللهم أنت السَّلام، ومنك السَّلام، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام».
ولم يمكث مستقبل القبلة إلا مقدار ما يقول ذلك، بل يسرع الانفتال إلى المأمومين.
وكان ينفتل عن يمينه وعن يساره، قال ابن مسعود: «رأيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا ينصرف عن يساره»، وقال أنس: «أكثر ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينصرف عن يمينه»، والأوَّلُ في الصَّحيحين، والثَّاني في مسلم، وقال عبد الله بن عمرو: «رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينفتل عن يمينه وعن يساره في الصَّلاة، ثم كان يُقبل على المأمومين بوجهه، ولا يخصُّ ناحية منهم دون ناحية». زاد المعاد (1/ 341).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
كان أنسٌ ينفتل عن يمينه وعن يساره، ويعيب على مَن يتوخَّى أو يعمد الانفتال عن يمينه.
الانفتال: هو الانحراف عن جهة القبلة إلى الجهة التي يجلس إليها الإمام بعد انحرافه، وحكمه حكم الانصراف بالقيام من محلِّ الصَّلاة، وقد نصَّ عليه إسحاق وغيره، وقد ذكر البخاري عن أنسٍ أنه كان ينفتل عن يمينه ويساره، ويعيب على مَن يتوخَّى الانفتال عن يمينه، يعني: يتحرَّاه ويقصده.
وفي مسند الإمام أحمد من رواية أبي الأوبر الحارثي، عن أبي هريرة قال: «كان النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- ينفتل عن يمينه وشماله»، وخرَّج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيبٍ عن أبيه، عن جده، قال: «رأيتُ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- ينفتل عن يمينه وعن يساره في الصَّلاة»، وفي رواية للإمام أحمد: «ينصرف» بدل: «ينفتل»، وخرَّج مسلمٌ في هذا الباب حديث البراء بن عازب قال: «كنَّا إذا صلِّينا خلف رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- أحببنا أن نكون عن يمينه، فيقبل علينا بوجهه»، وخرّجه من روايةٍ أخرى ليس فيها: «ثم يقبل علينا بوجهه». فتح الباري (7/444- 449).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قيل: الحكمة في استقبال المأمومين: أن يُعلِّمهم ما يحتاجون إليه، فعلى هذا يختصُّ بمن كان في مثل حاله -صلى الله عليه وسلم- من قصد التَّعليم والموعظة. وقيل: الحكمة فيه تعريف الدَّاخل بأن الصَّلاة انقضت؛ إذ لو استمرَّ الإمام على حاله لأوهم أنه في التَّشهُّد مثلًا.
وقال الزين ابن المنير: استدبار الإمام المأمومين إنَّما هو لحقِّ الإمامة، فإذا انقضت الصَّلاة زال السَّبب، فاستقبالهم حينئذٍ يرفع الخيلاء والتَّرفُّع على المأمومين، والله أعلم. فتح الباري (2/ 334).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قال الجامع -عفا الله تعالى عنه-:
دعوى الاختصاص فيه نظر. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (15/ 331).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- أيضًا:
خلاصة القول في هذه المسألة: أنَّ الأحاديث الصِّحاح تدلُّ على أنه يُستحبُّ للإمام أن يقبل على المأمومين بعد السَّلام، إن شاء من جهة يمينه، وإن شاء أقبل عليهم جميعًا، وله أن يذهب لحاجته، ويترك الإقبال عليهم، والله تعالى أعلم بالصَّواب. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (15/ 331-332).