«لا يَستُرُ اللهُ على عبدٍ في الدُّنْيا، إلَّا سَتَرَهُ اللهُ يومَ القيامةِ».
رواه مسلم برقم: (2590)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«يَستُرُ»:
ستَر الشيءَ يَسْتُرُه ويَسْتِرُه سَتْرًا وسَتَرًا أخفاهُ. المحكم، لابن سيده (8/ 465).
وقال ابن منظور -رحمه الله-:
والسَّتر بالفتح: مصدر سترت الشيء أستره إذا غطيته، فاستتر هو، وتستَّر، أي: تغطَّى، وجارية مستَّرة أي: مُخدَّرة. لسان العرب (4/ 343).
شرح الحديث
قوله: «لا يَستُرُ اللهُ على عبدٍ في الدُّنْيا»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«لا» نافية؛ ولذا رُفع الفعل بعدها «يَسْتُرُ اللهُ على عَبْدٍ فِي الدُّنيا» بأن لم يفضحه بإظهار ذنبه بين النَّاس. البحر المحيط الثجاج (40/ 633).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«لا يستر الله» -سبحانه وتعالى- «على عبد» عيبًا من عيوبه «في الدُّنيا» كالزِّنا والسَّرقة وشرب المسكر. الكوكب الوهاج (24/ 373).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
وأمَّا ستر المسلم فيجوز أن يكون إذا رآه على ذنب يستره، أو يكون يستره بما يحمله على أَنْ لا يهتك ستر نفسه؛ مثل أن يكون محتاجًا إلى النِّكاح فيتوصل في تزويجه، أو إلى الكسب، فيقم له وجه بضاعة، فيتَّجِر بها. الإفصاح عن معاني الصحاح (8/ 51-52).
قوله: «إلَّا سَتَرَهُ الله يومَ القيامةِ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«إلّا ستره الله» سبحانه على عيبه ذلك «يوم القيامة» فلا يطلعه على ملائكته، ولا يؤاخذه به. الكوكب الوهاج (24/ 373).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
يكون ستره له ستر عيوبه ومعاصيه عن إذاعتها على أهل المحشر، وقد يكون ترك محاسبته عليها، وذكرها له، والأَوَّل أظهر؛ لِمَا جاء في الحديث الآخر: «سترك بذنوبه» يقول: «سترتها عليك في الدُّنيا، وأنا أغفرها لك اليوم». إكمال المعلم (8/ 61).
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
قلت: ويجوز الأمران: فلا يُذيع معاصيه وعيوبه لأهل الموقف، ويَترك محاسبته عليها. شرح سنن أبي داود(19/٣٩)
وقال صفي الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
معنى الحديث: أنَّ العبد إذا أذنب ذنبًا، فلم يفضحه الله في الدُّنيا، فإنه لا يفضحه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، بل يستر ذنبه، ويغفر له. منة المنعم في شرح صحيح مسلم (4/ 188).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«إلَّا ستره الله يوم القيامة» إمَّا بأن يمحو ذنبه، ولا يسأله عنه ابتداءً، أو يسأله عنه من غير أن يُطْلِعَ عليه أحدًا من الخلق، كما في حديث ابن عمر في ذلك في الصَّحيح، ثم يعفو عنه. دليل الفالحين (3/ 32).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
إذا شاء، وهذا القيد ضروري، فكثير ممن يسترهم الله في جرائمهم في الدُّنيا يكشفهم ويفضحهم يوم القيامة، وهذا الحديث يشير إلى حديث: «أنَّ الله يُدني المؤمن يوم القيامة، فيقرِّره بذنوبه بينه وبينه، حتى إذا ظنَّ أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدُّنيا، وأنا أغفرها لك اليوم». فتح المنعم شرح صحيح مسلم (10/ 69).
وقال المناوي -رحمه الله- عن حديث أبي موسى: «ما ستر الله على عبد ذنبًا في الدنيا، فيعيِّره به يوم القيامة»:
يُحتمل: أنَّ المراد عبدٌ مؤمنٌ مُتَّقٍ متحفِّظ، وقع في الذَّنب؛ لعدم العصمة، ولم يُصِرَّ بعد فعله، وخاف من ربِّه، ورأى فضيحته حيث نظره مولاه وملائكته، وخواص المؤمنين، وندم، فطلب المغفرة، وهي السِّتر، فستره بين خلقه عطفًا منه عليه، فإذا عُرِضت أعماله يوم القيامة، حقَّق له ما أمَّلَه من ستره، ولم يعيِّره، أي: هو أكرم من أنْ يفعل ذلك، فإنه ستَّار، يحب من عباده السَّاترين. فيض القدير (5/ 449).
وقال الصنعاني -رحمه الله- عن حديث أبي موسى أيضًا:
هو في عبد أذنب ذنبًا، ثم علم أنَّ الله يأخذه به، فندم، وتاب، فإنه لا يحاسب بذلك الذَّنب، ولا يُذكر له، فيكون هذا في التَّائب. التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 401).
وقال الطحاوي -رحمه الله-:
«لا يستر الله على عبد في الدُّنيا إلَّا ستر عليه في الآخرة » وهو ما يجب أنْ يكون العباد من حسن ظنونهم بربِّهم -عزَّ وجلَّ- فيما يتولَّاه من أمورهم في الآخرة؛ لأنه أهل التَّقوى، وأهل المغفرة، فيكون المرجو منه فيما ستر عليهم في الدُّنيا، مما لم يخرجوا به عن الإسلام، أنْ يكون لا يؤاخذهم به في الآخرة. شرح مشكل الآثار (5/ 430).
وقال الزبيدي -رحمه الله-:
يُستدلُّ بإظهار الله تعالى الجميل، وستره القبيح عليه (أي: العبد) في الدُّنيا أنه كذلك يفعل به في الآخرة؛ إذ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما ستر الله على عبد ذنبًا» من ذنوبه «في الدُّنيا» بأن لم يفضحه به «إلَّا ستره عليه في الآخرة» فلا يفضحه به على رؤوس الأشهاد. إتحاف السادة المتقين (8/ 284).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
قد وردت أحاديث تدلُّ على أنَّ مَن ستر الله عليه في الدُّنيا، فإن الله يستر عليه في الآخرة، كحديث ابن عمر في النَّجوى، وقد خرَّجه البخاري في التَّفسير، وخرَّج الترمذي وابن ماجه عن علي مرفوعًا: «مَن أذنب ذنبًا في الدُّنيا، فستره الله عليه، فالله أكرم أنْ يعود في شيء قد عفا عنه»، وفي المسند عن عائشة مرفوعًا: «لا يستر الله على عبد ذنبًا في الدُّنيا إلَّا ستره عليه في الآخرة»، وروي مثله ذلك عن علي وابن مسعود من قولهما، وقد يحمل ذلك كُلُّه على التَّائب من ذنبه، جمعًا بين هذه النُّصوص. فتح الباري (1/ 84).
وبوب النووي -رحمه الله-:
باب بشارة مَن ستر الله تعالى عَيبه في الدّنيا، بأن يَسترَ عليه في الآخرة.شرح صحيح مسلم(4/٢٠٠٢)
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: هذا الحديث):
1. منها: بيان سِعَة فضل الله -سبحانه وتعالى-، وعظيم كرمِه، حيث إنه يستر عباده على ذنوبهم.
2. ومنها: الحثُّ على سَتْر الإنسان نفسه إذا وقع في معصية؛ لينال هذا الفضل العظيم.
3. ومنها: أنه يُستفاد منه من لم يستر على نفسه لم يستره الله -عزَّ وجلَّ-؛ لأنه من المجاهرين، والمجاهرة بالمعاصي مبارَزة لله تعالى. البحر المحيط الثجاج (40/ 634).