الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«يَغْزُو جيشٌ الكعبةَ، فإذا كانوا بِبَيْدَاءَ مِن الأرضِ، يُخْسَفُ بأوَّلِهِم وآخِرِهِم». قالت: قلتُ: يا رسول اللَّهِ، كيف يُخْسَفُ بأوَّلِهِم وآخِرِهِم، وفيهم أسواقُهُم، ومَن ليس منهم؟! قال: «يُخْسَفُ بأوَّلِهِم وآخِرِهِم، ثم يُبْعَثُونَ على نِيَّاتِهِم».


رواه البخاري برقم (2118) واللفظ له، ومسلم برقم: (2884)، من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
وفي رواية عند مسلم برقم: (2883)، من حديث حفصة -رضي الله عنها-. «فلا يَبقَى إلا الشَّريدُ الذي يُخبر عنهم».
وفي رواية عند مسلم -أيضًا- برقم: (2882)، من حديث أُمِّ سلمة -رضي الله عنها-: «فقلت: يا رسول الله! ‌فكيف ‌بمن ‌كان ‌كارهًا؟».
وزاد أحمد برقم: (26860)، والترمذي برقم: (2184)، من حديث صفية نبت حُيَيٍّ – رضي الله عنها - «ولم ‌يَنْجُ أَوسطهم».  


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«يغزو»:
أي: يقصد. مرقاة المفاتيح، الملا علي القاري (5/ 1866).
قال ابن منظور-رحمه الله-:
يقال: غزا الشيء غزوًا: أراده وطلبه. لسان العرب(15/ 123).

«ببيداء»:
البيداء: البقيع من الأرض الذي لا عمران فيه. تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي (ص: 561).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
البيداء: المفازة التي لا شيء بها. النهاية (1/ 171).

«يخسف»:
والخسف: انحطاط الأرض بمن تخسف به، وغيبتهم فيها. تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي (ص: 561).
وقال ابن منظور -رحمه الله-:
الخسف: سؤوخ (أي: الحركة والجلجلة) الأرض بما عليها، خسفت تخسف خسفًا وخسوفًا، وانخسفت وخسفها الله، وخسف الله به الأرض خسفًا أي: غاب به فيها؛ ومنه قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} القصص:81. لسان العرب (9/ 67).

«أسواقُهُم»:
هو إن كان جمع سُوق فالمراد: أهلها، وإن كان جمع سَوَقة، وهم الرعية فظاهر. مجمع بحار الأنوار، للفتني (3/ 150).

«يبعثون»:
البعث: الإحياء من الله للموتى، ومنه قوله -جلَّ وعزَّ-: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} البقرة:56، أي: أحييناكم. تهذيب اللغة، للأزهري (2/ 201-202).

«نياتهم»:
النِّيَّة: ما ينوي الإنسان بقلبه من خير أو شرٍّ، والنَّوى والنِّيَّة: واحد، وهي: النِّية، مخففة، ومعناها: القصد، والنَّوى: الوجه الذي يقصده. العين، للفراهيدي (8/ 394).


شرح الحديث


قوله: «يغزو جيش الكعبة»:
قال الكرماني -رحمه الله-:
«يغزو جيش الكعبة» أي: يقصد عسكر من العساكر تخريب الكعبة. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (10/ 13).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «يغزو جيش الكعبة» أي: يقصد جيشٌ الكعبة في آخر الزمان ليخرِّبها. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 361).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «يغزو جيش» إخبار عما يقع في آخر الزَّمان، والجيش هو جيش السُّفياني مَلِك مصر في عهد المهدي الموعود. لمعات التنقيح (5/ 454).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «يغزو جيش الكعبة» في رواية مسلم: «عَبَثَ النبي -صلى الله عليه وسلم- في منامه، فقلنا له: صنعتَ شيئًا لم تكن تفعله، قال: العجب أن ناسًا من أمتي يَؤمُّون هذا البيت لرجل من قريش»، وزاد في رواية أخرى: أن أُمَّ سلمةَ قالت: ذلك زمن ابن الزبير، وفي أخرى أن عبد الله بن صفوان أحد رواة الحديث عن أُمِّ سلمةَ قال: والله ما هو هذا الجيش. فتح الباري (4/ 340).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
كما قد ظهر أنَّ ذلك الجيش لم يخسف به. المفهم (7/ 226).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
قال العاقولي: والأوْلَى إجراء الحديث على إطلاقه، وعدم تقييده بأَحد. دليل الفالحين (1/ 61).

قوله: «فإذا كانوا ببيداء من الأرض، يخسف بأوَّلِهم وآخرهم»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «ببيداء من الأرض»، في رواية مسلم: «بالبيداء»، وفي حديث صفية على الشَّكِّ، وفي رواية لمسلم عن أبي جعفر الباقر قال: هي بيداء المدينة، انتهى، والبيداء: مكان معروف بين مكة والمدينة. فتح الباري (4/ 340).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- معلقًا:
«فإذا كانوا ببيداء من الأرض» أي: بقعة فيحاء، ومفازة واسعة منها، ولا دلالة فيه على المحلِّ المعروف قرب المدينة، كما جزم به ابن حجر. مرقاة المفاتيح (5/ 1866).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «فإذا كانوا ببيداء من الأرض» وفي رواية: «ببيداء المدينة» قال العلماء: كُلُّ أرض ملساء لا شيء بها، وبيداء المدينة الشَّرف الذي قُدَّام ذي الحليفة، أي: إلى جهة مكَّة. شرح صحيح مسلم (18/ 5).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«يخسف بأوَّلِهم وآخرهم» أي: دخلوا قعر الأرض كلهم جميعًا بشؤم؛ قصدهم تخريب الكعبة. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 362).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
إن غزو الكعبة سيقع، فمرَّة يهلكهم الله قبل الوصول إليها، وأخرى يمكِّنهم، والظَّاهر أن غزو الذين يخرِّبونه متأخِّر عن الأوَّلَين. فتح الباري (3/ 461).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وهل هي بيداء المدينة أم لا؟ اختلف في ذلك أبو جعفر وعبد العزيز بن رفيع، كما ذكر في الأصل (أي: في صحيح مسلم). المفهم (7/ 226).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«ببيداء» هي المفازة التي لا شيء فيها، والمراد هنا: موضع مخصوص بين مَكَّة والمدينة. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (7/ 61).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
وحاول بعضهم أن يحمل هذا الحديث على من غزا عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهم-، وهو مستعيذ بمكَّة، ولكن سيأتي أن عبد الله بن صفوان ردَّ على من زعم ذلك، فقال: أمَا والله ما هو بهذا الجيش، وقد ثبت صدقه بأن الجيش الذي هجم على ابن الزبير -رضي الله عنه- لم يُخسف به، فظهر أن المراد في الحديث جيش آخر، ولم أطَّلِع في التاريخ على جيش يمكن أن يجعل مصداق هذا الحديث، فالظَّاهر كما قال الأُبي: أنه سوف يكون في المستقبل، والله أعلم. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (26/ 69).
وقال محمد الأُبي -رحمه الله-:
الأظهر في هذا الخسف أنه لم يقع بعد، وأنه لا بُدَّ منه لوجوب صدق خبره -صلى الله عليه وسلم-. إكمال إكمال المعلم (7/237-238).

قولها: «كيف يخسف بأوَّلِهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم، ومن ليس منهم؟»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
ولأبي نعيم من طريق سعيد بن سليمان عن إسماعيل بن زكريا: «وفيهم أشرافهم» بالمعجمة والرَّاء والفاء، وفي رواية محمد بن بكَّار عند الإسماعيلي: «وفيهم سواهم». وقال: وقع في رواية البخاري: «أسواقهم» فأظنُّه تصحيفًا، فإن الكلام في الخسف بالنَّاس لا بالأسواق.
قلتُ: بل لفظ «سواهم» تصحيف، فإنه بمعنى قوله: «ومن ليس منهم»، فيلزم منه التَّكرار بخلاف رواية البخاري، نعم أقرب الرِّوايات إلى الصَّواب رواية أبي نعيم، وليس في لفظ «أسواقهم» ما يمنع أن يكون الخسف بالنَّاس، فالمراد بالأسواق أهلها، أي: يخسف بالمقاتلة منهم، ومن ليس من أهل القتال كالباعة. فتح الباري (4/ 340).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «يخسف بأوَّلِهم وآخرهم» وزاد الترمذي في حديث صفية: «ولم ينجُ أوسطهم»، وفي مسلم أيضًا في حديث حفصة: «فلا يبقى إلَّا الشَّريد الذي يخبر عنهم»...
وقال بعضهم (أي: ابن حجر): بل لفظ: «سواهم» تصحيف، فإنه بمعنى قوله: «ومن ليس منهم» فيلزم منه التَّكرار بخلاف رواية البخاري -رضي الله تعالى عنه-، نعم أقرب الرِّوايات إلى الصَّواب رواية أبي نعيم.
قلتُ: لا نُسلِّم لزوم التَّكرار؛ لأن معنى «أسواقهم» أهل أسواقهم، كما ذكرنا، والمراد بقوله: «ومن ليس منهم» الضُّعفاء والأسارى الذين لا يقصدون التَّخريب، ولا نُسلِّم أيضًا أن أقرب الرَّوايات إلى الصَّواب رواية أبي نعيم؛ لأن أشرافهم هم عظماء الجيش الذي يقصدون التَّخريب، ورواية البخاري على حالها صحيحة على التَّفسير الذي ذكرنا.
وقوله: بل لفظ «سواهم» تصحيف، غير صحيح؛ لأن معناه: وفي الجيش الذين يقصدون التَّخريب سواهم ممن لا يقصد ولا يقدر.
قوله: قال: «يخسف بأولهم وآخرهم» أي: قال -صلى الله عليه وسلم- في جواب عائشة: «يخسف بأوَّلِهم وآخرهم» يعني: كُلَّهم، هذا الذي يُفهم منه بحسب العرف. عمدة القاري (11/ 236-237).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«كيف يخسف بأوَّلِهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم؟» أي: أسواق لهم، هذا موضع الدَّلالة من الحديث، ورواه بعضهم: «وفيهم أشرافهم»، ورواه الإسماعيلي: «وفيهم سواهم». واستشكل رواية البخاري، فإن الخسف إنما يكون بأهل الأسواق، لا بالأسواق، وهذه شبهة واهية؛ فإنه مثل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} يوسف:82، وسأل الوادي، بتقدير المضاف كما قرَّروا. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (4/ 408-409).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «أسواقهم» أي: أهل أسواقهم أو رعاياهم «ومن ليس منهم» أي: من ليس ممن يقصد التَّخريب بل هم الضُّعفاء والأسارى، فإن قلتَ: لم يعلم منه العموم؛ إذ حكم الوسط غير مذكور (في قوله: بأوَّلِهم وآخرهم)، قلتُ: العرف في مثل هذا التَّركيب يحكم به أو أن الوسط آخر بالنسبة إلى الأوَّلِ أو بالنسبة إلى الآخر. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (10/ 13).
قال المظهري -رحمه الله-:
«ومن ليس منهم» أي: ليس في الكفر والقصد بخراب الكعبة، بل هم ضعفاء وأسارى. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 362).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«أسواقهم» أي: أهل أسواقهم، أو رعاياهم، ورُبَّما تصحَّفت بـ«أشرافهم» بالمعجمة والفاء، وفَهِمَ البخاري منه أن أسواق جمع: سوق، ونبَّه به على أنه ليس من شرطه حديث: «أبغض البلاد إلى الله أسواقها»، وقد رواه مسلم في «الصلاة».
ويحتمل أن الأسواق هنا الرعايا... لكن هذا يتوقَّف على أن سوقة يجمع على أسواق، وذكر صاحب الجامع (صحيح البخاري): أنها تجمع على سُوَق كقُثَم.
«ومن ليس منهم» أي: من ليس ممن يقصد التَّخريب، بل هم الضُّعفاء والأسارى.
«بأوَّلِهم وآخرهم» لم يذكر الوسط؛ لأنه أمر نسبيٌّ، فهو داخل إمَّا في الأوَّلِ، أو الآخر، ويشهد لذلك العرف. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (7/ 61).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
أقول: فالعطف في «ومن ليس منهم» للتَّفسير والبيان. الكاشف عن حقائق السنن (6/ 2045).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«وفيهم أسواقهم» أي: أهلها، فالأسواق جمع سُوق لا سُوقَة؛ إذ جمعها سوق، كسورة وسور، قال: «يخسف بأوَّلِهم وآخرهم» أي: بشؤم الأشرار. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (4/ 543).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
إن قيل: ما ذنب من أُكرِهَ على الخروج منهم، أو من جمعه وإياهم الطريق؟
فالجواب: أنه يكون أَجَله قد حضر، فيكون موته بالخسف فيبعث على نِيَّته. كشف المشكل (4/ 376).
وقال العيني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: ما ذنب من أُكره على الخروج أو من جمعه وإياهم الطريق؟
قلتُ: إن عائشة لَمَّا سألت وأُمَّ سلمة أيضًا سألت، «قالت: فقلتُ: يا رسول الله، فكيف بمن كان كارهًا؟» رواه مسلم، أجاب -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «يُبعثون على نِيَّاتهم»، فماتوا حين حضرت آجالهم، ويُبعثون على نِيَّاتهم. عمدة القاري (11/ 237).

قوله في رواية: «فلا يبقى إلا الشَّريد الذي يُخبر عنهم»:
قال ابن قرقول -رحمه الله-:
أي: الطَّريد الذَّاهب على وجهه. مطالع الأنوار على صحاح الآثار (6/ 29).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
يعني به هنا: المُنفرد عن ذلك الجيش الذي يُخسف به. المفهم (7/ 226).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فلا يبقى منهم إلا الشريد الذي» يشرد عن موضع الخَسف أي: يفر فـ«يخبر» الناس «عنهم» أي: عن خبرهم، أي عن خبر ما وقع بالجيش من الخَسف. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم(26/ 71).

قوله: «ولم يَنْجُ أوسطهم»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«ولم ‌يَنْجُ ‌أوسطهم» المراد أنهم هَلكوا كُلهم. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (25/ 123).
وقال محمد عبد الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
«ولم يَنْجُ أوسطهم» أي: يقع الهلاك في الدنيا على جميعهم. تحفة الأحوذي (6/ 347).

‌قولها: «فكيف ‌بمن ‌كان ‌كارهًا؟»
قال السهارنفوري -رحمه الله-:
«كيف بمن كان كارهًا؟» أي: أُخْرِجَ في الجيش وهو كَارهٍ للقتال. بذل المجهود (12/ 332).
وقال العظيم أبادي -رحمه الله-:
«كيف بمن كان كارهًا؟» أي: غير راضٍ، كأن يكون مُكرهًا، أو سالك الطريق معهم، ولكن لا يكون راضيًا بما قصدوا. عون المعبود(11/ 256).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
كأنها (أي: أم سلمة) تعجَّبتْ من كون مثلهِ يُخسف به مع المُعذبين، مع أنه لم يرضَ بفعلهم. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (26/ 69).

قوله: «يخسف بأوَّلِهم وآخرهم، ثم يُبعثون على نِيَّاتهم»:
قال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «ثم يُبعثون على نِيَّاتهم» يعني: يهلك هناك أخيارهم وأشرارهم، والأخيار يُهلكون بشؤم الأشرار، لكن يُبعث كُلُّ واحد منهم على نِيَّته يوم القيامة، فإن كانت نِيَّته الإسلام والخير فهو من أهل الجنَّة، وإن كانت نِيَّته الكفر فهو من أهل النَّار. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 361-362).
وقال العيني -رحمه الله-:
ذكر ما يستفاد منه: يستفاد منه قطعًا قصد هذا الجيش تخريب الكعبة، ثم خسفهم بالبيداء وعدم وصولهم إلى الكعبة لإخبار المخبر الصَّادق بذلك، وقال ابن التين: يحتمل أن يكون هذا الجيش الذي يخسف بهم هم الذين يهدمون الكعبة، فينتقم منهم فيخسف بهم.
رُدَّ عليه بوجهين:
أحدهما: أن في بعض طرق الحديث عند مسلم: «أن ناسًا من أمتي»، والذين يهدمونها من كُفَّار الحبشة.
والآخر: أن مقتضى كلامه: يخسف بهم، بعد الهدم وليس كذلك، بل خسفهم قبل الوصول إلى مكَّة فضلًا عن هدمها.
ومِمَّا يستفاد منه: أن من كثَّر سواد قوم في معصية وفتنة أن العقوبة تلزمه معهم إذا لم يكونوا مغلوبين على ذلك.
ومن ذلك: أن مالكًا استنبط من هذا أنّ مَن وجد مع قوم يشربون الخمر، وهو لا يشرب أنه يعاقب، واعترض عليه بعضهم بأن العقوبة التي في الحديث هي الهجمة السَّماوية، فلا يُقاس عليها العقوبات الشَّرعية، وفيه: نظر؛ لأن العقوبات الشَّرعية أيضًا بالأمور السَّماوية. ومن ذلك: أن الأعمال تُعتبر بنِيَّة العامل والشَّارع أيضًا، قال: «ولكُلِّ امرئ ما نوى». ومن ذلك: وجوب التَّحذير من مصاحبة أهل الظُّلم ومجالستهم، وتكثير سوادهم إلا لمن اضطر.
فإن قلتَ: ما تقول في مصاحبة التَّاجر لأهل الفتنة؟ هل هي إعانة لهم على ظلمهم أو هي من ضرورات البشرية؟
قلتُ: ظاهر الحديث يدلُّ على الثاني، والله أعلم. عمدة القاري (11/ 237).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: تجنُّب أهل المعاصي والبعد عنهم، وتجنُّب مجالس الظُّلم وجموع البغي؛ لئلا يعمَّ البلاء، ويحيق بالجميع المكر.
وفيه أن من كثَّر سواد قوم فهو منهم، وأن المعاصي إذا كثرت ولم تنكر ولم تغيَّر، عمَّتِ العقوبة، قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} الأنفال:25، وهو من معنى قوله في الحديث المتقدِّم: «أنهلك وفينا الصَّالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخَبَثُ». إكمال المعلم (8/ 416).
وقال النووي -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث من الفقه: التَّباعُد من أهل الظُّلم والتَّحذير من مجالستهم، ومجالسة البُغاة، ونحوهم من المبطلين؛ لئلا ينالَه ما يعاقبون به.
وفيه أن من كثَّر سواد قوم جرى عليه حكمهم في ظاهر عقوبات الدُّنيا. شرح النووي على مسلم (18/ 7).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
يستفاد من هذا مشروعية الهرب من الكُفَّار ومن الظَّلَمة؛ لأن الإقامة معهم من إلقاء النَّفس إلى التَّهلُكة، هذا إذا لم يعنهم ولم يرضَ بأفعالهم، فإن أعان أو رضي فهو منهم، ويؤيِّده أمره -صلى الله عليه وسلم- بالإسراع في الخروج من ديار ثمود.فتح الباري(13/ 61).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
في الحديث تحذير وتخويف عظيم لمن سكت عن النهي، فكيف بمن داهن؟! فكيف بمن رضي؟! فكيف بمن عاون؟! نسأل الله السَّلامة، قلتُ (أي: ابن حجر): ومقتضى كلامه أن أهل الطَّاعة لا يصيبهم العذاب في الدُّنيا بجريرة العُصاة. فتح الباري (13/ 61).

وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا)


ابلاغ عن خطا