هَجَّرْتُ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا، قال: فَسَمِع أصوات رَجُلَين اخْتَلَفا في آية، فخرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُعْرَفُ في وجهه الغَضب، فقال: «إنما هَلَك من كان قبلكم باخْتِلَافِهِم في الكِتَاب».
رواه مسلم، برقم (2666)، من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«هَجَّرْتُ»:
بالتشديد، أي: أتيتُ في الهاجرة، أي: الظهيرة...مرقاة المفاتيح (1/ 237).
والتَّهجِير: التَّبْكِير إلى كل شيء، والـمُبَادَرة إليه.النهاية في غريب الحديث والأثر(5/246).
وقال النووي -رحمه الله -:
«هَجَّرْتُ يَوْمًا»: أَيْ بَكَّرْتُ.شرح صحيح مسلم (16/ 218).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
«هجَّرتُ»: أي أتيتُه وقت الهاجرة، وهو نصف النهار عند اشتداد الحر، كذا فسَّره بعض العلماء، والأشبهُ أن يكون معنى هجَّرتُ: بكَّرْتُ، ومنه التهجير إلى صلاة الجمعة، وهو التبكير، وقد سبق في مسند أبي هريرة: «مَثَلُ الْمُهَجِّرِ إلى الجمعة، كمَثَلِ الذي يُهْدِي بَدَنَةً».كشف المشكل من حديث الصحيحين (4/ 127).
شرح الحديث
قوله: «هَجَّرْتُ»:
قال المظهري -رحمه الله-:
يعني: مَشَيتُ قبل الزَّوال إلى باب رسول الله -عليه السلام-، أو إلى مسجد رسول الله -عليه السلام-، وإنما مشى عبد الله في هذا الوقت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ليكون حاضرًا في المسجد، أو في بابه قبل خروجه، حتى إذا خرج عليه لا يَفُوتُه شيء مما يَصْدُر عنه من الأفعال والأقوال.
وفي فعل عبد الله تَحْرِيض الناس على تَحَمّل الحرارة والمشقة والإسراع إلى المسجد، وفي طلب العلم.المفاتيح في شرح المصابيح (1/255).
وقال ابن الْمَلكِ -رحمه الله-:
وفيه: إشارة إلى اهتمام الرَّاوي بأمر الدِّين، واقْتِبَاس العلم.شرح المصابيح (1/ 159).
قوله: «فسمع أَصْوَات رَجُلَين»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فسمع» أي: النبي -صلى الله عليه وسلم- من حُجْرَتِه، «أصْوَات رَجُلَين» صرَّح الرَّضِيُّ بأنه إذا أُضِيف الجزءان إلى مُتَضمِّنَيْهِما، وكان المتضمِّنان بلفظ واحد، فلفظ الإفراد في المضاف أولى من لفظ المثنى، ولفظ الجمع فيه أولى من الإفراد، ولكن في عدِّ الأصوات أجزاء منهما محل نظر.
والظاهر: أن جمع الأصوات على حقيقته، فإن كل حرف من كلمات الرجلين صوت مُعْتَمد على مَخْرَجه.
وفي تفسير الجَلَالَين عند قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} التحريم: 4، أطلق قُلُوب على قَلْبَين، ولم يعبّر به؛ لاستثقال الجمع بين تثنيتين فيما هو كالكلمة الواحدة.مرقاة المفاتيح (1/237).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «فسمع صوت رجلين» أي: فسمع رسول الله -عليه السلام- من حجرته صوت رجلين في المسجد، أو في موضع قريب من حُجْرته.المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 255).
وقال محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
لم أرَ مَن ذكر اسم الرجلين، ولا عَيَّن تلك الآية.الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (24/583).
قوله: «اخْتَلَفا في آية»:
قال ابن المَلَك -رحمه الله -:
أي: تنازَعَا وتخاصَمَا.مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 237).
وقال محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «اختلفا في» تفسير «آية» مِن آي القرآن.الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (24/583).
وقال ابن المَلك -رحمه الله-:
صفة «رجلين» أي: تنازعا وتخاصما.
«في آية» أي: في معنى آية مُتَشابهة، ويُحتمل: أن يكون اختلافهما في لفظها حتى ارتفعت أصواتهما.شرح مصابيح السنة (1/ 159).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«في آية» أي: في معنى آية متشابهة، ويحتمل: أن يكون اختلافهما في لفظها اختلاف قراءة.مرقاة المفاتيح (1/ 238).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«اختلفا في آية» أي: تنازعا وتخاصما في آية، واختلافهما في الآية يحتمل: أن يكون في آية متشابهة يَبْحَث أحدهما في معناها، وينهاه الآخر عنه، ويحتمل: أن يختلفا في ألفاظها؛ فيقول أحدهما: لفظها هكذا، ويقول الآخر: بل هكذا.المفاتيح في شرح المصابيح (1/255).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وقد سبق بيان الاختلاف في الآيات، وأنه اختلاف في اللغات، وقد أجاز لهم القراءة على لغاتهم، وإنما خاف من اختلافهم؛ لئلا يجحد بعضهم ما هو من القرآن فيكفر.كشف المشكل من حديث الصحيحين (4/ 127).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
هذا الاختلاف لم يكن اختلافًا في القراءة؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- قد سوَّغ أن يُقْرَأ القرآن على سبعة أحرف كما تقدَّم، ولم يكن أيضًا في كونها قرآنًا؛ لأن ذلك معلوم لهم ضَرُورة، ومثل هذا لا يَخْتَلف فيه المسلمون، ولا يُقَرُّون عليه فإنه كفر، فلم يَبْقَ إلا أنه كان اختلافًا في المعنى.
ثم تلك الآية يُحتمل: أنها كانت من المحْكَمات الظَّاهرة المعنى، فخالف فيها أحدهما الآخر، إما لقُصور فَهْم، وإما لاحتمالٍ بَعِيد.
فأنكر النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك؛ إذ قد تُرك الظاهر الواضح، وعُدِل إلى ما ليس كذلك، ويحتمل: أن كانت من المتشابه، فتعرَّضوا لتأويلها، فأنكر النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك، فيكون فيه حجَّة لمذهب السلف في التسليم للمتشابهات، وترك تأويلها.المفهم(6/698).
قوله: «فخَرجَ يُعْرَفُ في وجْهِهِ الغَضب»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«فخرج» عليه الصلاة والسلام «يُعرف في وجهه الغضب» جملة حالية من فاعل (خرج).شرح المصابيح (1/ 159).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وكان ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا يغضب لنفسه، وإنما كان يغضب لله، فَيَشْتد به ذلك الغضب، حتى يُرَى أَثَرُه من حُمْرة اللون ونحوها في وجهه الكريم.مرقاة المفاتيح (1/238).
وقال السُّيوطيُّ - رحمه الله -:
وإنَّما غضب؛ لأنَّ القَدر سرٌّ من أسرار الله، وطلب سرِّ الله تعالى منهيٌّ عنه، ولأنَّ من يبحث في القدر لم يأمن أن يصير قدَريًّا أو جبْريًّا، بل العباد مأْمُورون بقبول ما أمرهم الشرع من غير أن يطلبوا سِرَّ ما لا يجوز طلب سرِّه.قوت المغتذي على جامع الترمذي (1/ 496).
قال محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«يُعرف في وجهه الغضب» أي: أثر غضبه؛ من احْمِرَارِ وجهه بعد أن كان أبيض.الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (24/583).
قال الشيخ موسى شاهين-رحمه الله-:
الظاهر أن عبد الله بن عمرو وقف معهما حتى خرج إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.فتح المنعم شرح صحيح مسلم (10/204).
قوله: «إنما هَلَك من كان قَبْلَكم»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
قوله: «إنما هلك مَن كان قبلكم» من اليهود والنصارى «باختلافهم في الكتاب» المنزَّل على نبيهم من التوراة والإنجيل، بأنْ قال كل واحد منهم ما شاء من تلقاء نفسه.شرح المصابيح (1/ 159)
وقال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «إنما هَلَكَ من كان قبلكم» أي: تسبَّبُوا في إهلاك أنفسهم بالكفر والابتداع، «باختلافهم في الكتاب».فيض القدير (3/4).
قوله: «باختلافهم في الكتاب»:
قال العَزِيزي -رحمه الله-:
أي: الكتب المنزلة على أنبيائهم، فكفَرَ بعضهم بكتاب بعض.السراج المنير شرح الجامع الصغير (2/166).
وقال المناوي -رحمه الله-:
يعني: أنّ الأُممِ السابقة اختلفوا في الكتب المنزلة، فكَفر بعضُهم بكتاب بعض، فهلكوا، فلا تختلفوا أنتم في هذا الكتاب.فيض القدير (3/4).
وقال المظهري -رحمه الله-:
يعني: هلك اليهود والنصارى، وخابوا وخسروا، حين اختلفوا في التوراة والإنجيل، وقال كُلّ واحد منهم مَا شاء مِن تِلْقَاء نفسه من غير عِلم، ومن غير أن يسأل العلماء عن ذلك.المفاتيح في شرح المصابيح (1/255).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
أي: ما هلك الأوَّلون في دينهم إلا أنهم اختلفوا في ألفاظ كتابهم المنزل عليهم...، وهو نهي عن التَّفرق والاختلاف في كتاب الله، فإنه مَنْشَأٌ لكل شر.التنوير شرح الجامع الصغير (4/200).
وقال النووي -رحمه الله-:
الاختلاف في القرآن محمول عند العلماء على اختلاف لا يجوز، أو اختلاف يُوقِع فيما لا يجوز، كاختلاف في نفس القرآن، أو في معنى منه لا يسوغ فيه الاجتهاد، أو اختلاف يُوقِع في شك، أو شُبهة، أو فتنة وخصومة أو شِجَار، ونحو ذلك.
وأما الاختلاف في استنباط فروع الدين منه، ومناظرة أهل العلم في ذلك على سبيل الفائدة، وإظهار الحق، واختلافهم في ذلك فليس منهيًا عنه، بل هو مأمور به، وفضيلة ظاهرة، وقد أجمع المسلمون على هذا من عهد الصحابة إلى الآن، والله أعلم.شرح صحيح مسلم (16/ 218-219).
وقال المناوي -رحمه الله-:
والمراد بالاختلاف ما أوقع في شك أو شبهة أو فتنة أو شحناء ونحو ذلك (لا) الاختلاف في وجوه المعاني واستنباط الأحكام والمناظرة لإظهار الحق فإنه مأمور به فضلًا عن كونه منهيًا عنه.
وقال عبد الحق الدِّهْلوي -رحمه الله-:
المراد اختلاف يُوْقِع في الفَتْنَةِ والشَّك والشّبْهَة في الدِّين، مثل الاختلاف في نفس الكتاب، أو في معنى لا مَدْخَل فيه للرأي، لا اختلاف العلماء في استنباط الأحكام منه، أو في العُلوم التي هي مَبَادِيْها ومُقَدِّمَاتُها، فإن ذلك رحمة، وسبب لتَوْسِيع الدِّين، وما زال السلف على ذلك، وما نُهوا عنه، بل مأمورون بذلك.لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح (1/470).
وقال ناصر الدِّين البيضاويُّ- رحمه الله -:
المراد منه: هو النهي عن الاقتراح والسؤال عما لا يعنيهم ولا يليق بهم، فإنه تضييع للعمر، ودليل على التردد في الأمر، وقد يصير سبب الوقوع في الزيغ والبدع؛ لسوء الفَهم وضعف البصيرة، ومن أجله ضَلَّ مَن قبلهم من الأُمم السالفة، واستزلوا، واستوجبوا اللعن، والمسخ، وغير ذلك من البلايا والمحن.تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/130).
وقال المازري -رحمه الله-:
وأما قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إنما هلك من كان قبلَكم باختلافهم في الكتاب»...، مَحْمَله عند أهل العلم عَلىَ أنَّ المرَاد به اختلاف لا يجوز، أو يُوقِع فيما لا يجوز، كاختلافهم في تفسير القرآن، واختلافهم في معانٍ لا يسوغ فيها الاجتهاد، أو اختلاف يُوقِع في التشاجر والشّحناء.
وأمّا الاختلاف في فروع الدِّين، وتَمَسّك كل صاحب مذهب بظواهرَ من القرآن، وتأويله الظَّاهِر على خلاف ما تأوّله صاحبه، فَأمْر لا بد مِنه في الشّرع، وَعَليه مضى السلف، وانقرضت الأعصَار.المعلم بفوائد مسلم (3/ 322)
وقال المظهري -رحمه الله-:
نهاهم عن الاختلاف في القرآن؛ لأن الاختلاف إن كان في معنى آية متشابهة فلا يجوز؛ لأن الآية المتشابهة يجب الإيمان بها ولا يُتَعرَّض لمعناها، وإن كان الاختلاف في ألفاظ القرآن لا يجوز أيضًا؛ لأنه إذا أشْكل على قوم لفظٌ من ألفاظ القرآن أنه كيف هذا اللفظ؟ وأنه من القرآن أم لا؟ فلا يجوز التَّكلم به من تلقاء أنفسهم، بل ليسألوا أهل القرآن عن ذلك اللَّفظ، فما ثبت عند القُراء أنه جاء عن النبي -عليه السلام- يجب قبوله، ولا يجوز الاختلاف فيه، وما لم يثبت أنه جاء عن رسول الله -عليه السلام- لا يجوز قبوله.المفاتيح في شرح المصابيح (1/255).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
من فوائد الحديث:
بيان تحريم الاختلاف في القرآن الكريم ...
ومنها: شفقة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- على أمَّته، حيث قام بتحذيرهم مما يؤدّي إلى ما هلكت الأمم السابقة بسببه.
ومنها: بيان أن الاختلاف شرّ، لا خير فيه، ولا سيّما في القرآن الكريم؛ فإنه سبب للهلاك السريع، فالواجب على المسلمين أن يعملوا بما علموا منه، ويَكِلُوا عِلم ما لم يعلموا إلى الله -سبحانه وتعالى-.البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (41/ 583-584).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
نُهيت هذه الأمة أن تضرب آيات الله بعضها ببعض؛ لأن مضمون الضرب الإيمان بإحدى الآيتين، والكفر بالأخرى، إذا اعتقد أن بينهما تضادًا؛ إذ الضدان لا يجتمعان، ومثل ذلك ما رواه مسلم أيضًا عن عبد الله بن رباح الأنصاري أن عبد الله بن عمرو قال: هجرت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا، فسمعت أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرف في وجهه الغضب، فقال: «إنما هلك من كان قبلكم من الأمم باختلافهم في الكتاب» فعلل غضبه -صلى الله عليه وسلم- بأن الاختلاف في الكتاب هو كان سبب هلاك من قبلنا؛ وذلك يوجب مجانبة طريقهم في هذا عينًا، وفي غيره نوعًا.اقتضاء الصراط المستقيم (ص: 36).
وقال -رحمه الله- أيضًا:
وأما الاختلاف في الكتاب الذي يُذَم فيه المختلفون كلهم، فمثل أن يؤمن هؤلاء ببعض دون بعض، وهؤلاء ببعض دون بعض، كاختلاف اليهود والنصارى، كاختلاف الثنتين وسبعين فرقة.درء تعارض العقل والنقل (5/ 283)
وقال البغوي -رحمه الله-:
وقيل: إنما جاء هذا في الجِدال بالقرآن من الآي التي فيها ذكر القَدَر والوعيد، وما كان في معناهما على مذهب أهل الكلام والجدل، وفي معناه الحديث الأول، دون ما كان منها في الأحكام، وأبواب الإباحة والتحريم، فإن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد تنازعوها فيما بينهم، وتحاجُّوا بها عند اختلافهم في الأحكام، قال الله -عز وجل-: {فَإِنْ تَنَازَعْتُم فِي شَيءٍ فَرُدُوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} النساء: 59.شرح السنة (1/ 262).