«مَن قام مِن مجلسِهِ ثم رجع إِليه فهو أَحَقُّ به».
رواه مسلم برقم: (2179)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«أَحَقُّ»:
أحقُّ في كلام العرب له معنيان:
أحدهما: استيعاب الحقِّ كلِّه.
والثاني: على ترجيح الحقِّ وإن كان للآخر فيه نصيب. الزاهر، الأزهري (ص: 201).
وقال ابن سيده -رحمه الله-:
مُشتقٌّ من قولهم: حقُّ الشيء: إذا ثبت. المحكم والمحيط الأعظم (2/ 475).
شرح الحديث
قوله: «مَن قام مِن مجلسِهِ»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«مَنْ قَامَ» «مَن» شرطيّة جوابها «فهو أحقُّ»، «مِنْ مَجْلِسِهِ» متعلّق بـ«قام». البحر المحيط الثجاج (35/ 640).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«مَنْ قام من مجلسه» يعني: مَنْ كان جالسًا في مجلس فقام منه ليتوضأ أو ليقضي شغلًا يسيرًا، سواء ترك في موضعه خُمرةً ونحوها. شرح المصابيح (5/ 183- 184).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«من مجلس» مباح من مسجد ومدرسة ورِباط و خانقاه (أي: مكان أو بيت التعبد). شرح سنن أبي داود (18/ 562- 563).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«من قام من مجلسه» أي: مُريدًا للرجوع إليه قريبًا. مرقاة المفاتيح (7/ 2973).
وقال المناوي -رحمه الله-:
أي: الجالس لنحو إفتاء أو قراءة أو إقراء علم شرعيٍّ. فيض القدير (1/ 413).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «إذا قام أحدكم من مجلسه» أي: على نية الرجوع إليه في ذلك الوقت، وعلامة ذلك: أنْ يترك بعض ما عليه في ذلك الموضع، كما يُفهم من بعض الأحاديث. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه (2/ 401).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«إذا قام الرجل من مجلسه» الظاهر من المسجد، والمراد الذي قد استحقَّه ونُسِبَ إليه وتقدَّم له لُبْثٌ به؛ بدليل «قام» لا الذي يتحجَّزه بوضع ثياب فيه فإنه لا يستحقُّهُ، أو وضع سُجَّادة كما يفعل كثيرًا في اليمن في يوم الجمعة وغيرها. التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 163).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«من مجلس» أي: لحاجة على نية الرجوع. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (13/ 271).
قوله: «ثم رجع إِليه»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«ثم رجع إليه» أي: إلى مجلسه. البحر المحيط الثجاج (35/ 640).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«ثم رجع إليه» يُفهم أنه إذا لم يرجع إليه، بل ذهب في حاجة له فإنه يسقط حقُّه. شرح سنن أبي داود (18/ 562- 563).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ثم رجع إليه» أي: من قريب... وإنما قيّدنا بقرب الرجوع، فإن من أخذ مكانًا في عرفة أو منى مثلًا، ورجع إليه سنة أخرى، فليس أحقَّ ممن سبقه خلافًا لِمَا يتوهَّمُه العامة. مرقاة المفاتيح (7/ 2973).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ثم رجع إليه» لتقدُّمِ بقائه فيه، ويَحتمِلُ أنه أعمُّ من المسجد، وأنه كل موضع يباح فيه الجلوس. التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 163).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«ثم رجع إليه» أي: إلى ذلك المجلس. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (13/ 271).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
أكثر أصحاب الإمام أحمد لم يقيدوه بالعود قريبًا، كما هو ظاهر الحديث.
ولكن الذي ذكرناه قول وسط، وهو: أنه إذا عاد بعد مدة طويلة بناءً على استمرار العذر فهو أحقُّ به، أما إن انتهى العذر، ولكنه تهاون وتأخَّر، فلا يكون أحقَّ به. الشرح الممتع على زاد المستقنع (5/ 104).
قوله: «فهو أَحَقُّ به»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«فهو أحقُّ به» فإذا وجد فيه قاعدًا فله أن يُقيمه؛ لأنه لم يَبْطُلِ اختصاصُه به. شرح المصابيح (5/ 183- 184).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- مُتعقِّبًا ابن الملك:
والظاهر: أنه إذا لم يترك فيه شيئًا بَطَلَ اختصاصُه، رجوعًا للمباح إلى أصله، ويدلُّ عليه ما سيأتي أنه -صلى الله عليه وسلم- «إذا جلس فقام، فأراد الرجوع نزع نعله...» الحديث، وقد ذكر النوويُّ ما سبق من غير تعميم. مرقاة المفاتيح (7/ 2973).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«فهو أحقُّ به» أي: بذلك المجلس، وهذا إذا كان المحلُّ من حقوق العامة، وأما إذا كان المحلُّ مملوكًا لأحد فهو أحقُّ به. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (13/ 271).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«فهو أحقُّ به» في تلك الصلاة التي جلس لأجلها، وكذا من كان في مجلس علمٍ فهو أحقُّ به في ذلك المجلس، سواء كان معلِّمًا أو متعلِّمًا، فإن كان قد قعد فيه غيره فله أن يُقيمَه، وعلى القاعد أن يُفارقَه لهذا الحديث، هذا هو الصحيح عند أصحابنا (أي: الشافعية)، وأنه يجب على من قعد فيه أن يُفارقَه إذا رجع الأول، وإن امتنع من ذلك فللحاكم والنَّاظر في ذلك أن يَقهرَه ويُزعجَه عنه (أي: يطرده منه). شرح سنن أبي داود (18/ 562- 563).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فهو أحقُّ به» أي: من غيره إن كان قام منه ليعود إليه؛ لأن له غرضًا في لزوم ذلك المحلِّ ليألفه الناس. فيض القدير (1/ 413).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وهذا لأن المجلس لمن جلس فيه، ولا بُدَّ أن يَعرِضَ للإنسان حوائجُ لازمة، فجعل عند الذهاب فيها كأنه لم يرح. كشف المشكل (3/ 565).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
قال العلماء: لو جلس على شارع للحرفة أو لمعاملة، فهو أحقُّ بالموضع، ما لم يفارقه تاركًا، أو قاعدًا في موضع آخر، أو باذلًا حقَّه لآخر، ولو فارق على أن لا يعود إليه، ومضى زمن انقطع عنه معاملوه بطل حقُّه، ودونه فلا...، ولا يبطل حقُّه بالرجوع إلى البيت ليلًا. الأزهار شرح مصابيح السنة مخطوط لوح (408).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
«فهو أحقُّ به» وإذا كان هذا بعد قيامه فما لم يقم منه أولى، وذهب آخرون أنه على الندب، قالوا: وهو موضع غيرُ متملَّكٍ لأحد قبل الجلوس، فكذلك بعده، والأوَّلُ أظهر.
وكذلك اختلفوا في معنى حديث أبي هريرة إذا قام منه وأنه أحقُّ به.
وأما معنى القيام المذكور، فذهب مالك إلى أن ذلك على الندب؛ وذلك إذا كانت أوبتُه قريبةً، وإن بَعُدَ ذلك حتى يذهب فيتغدَّى فلا أرى ذلك، وأنه لَحَسنٌ من محاسن الأخلاق، وقال محمد بن مسلمة: معنى الحديث في مجلس العالم هو أولى به إذا قام لحاجة، فإذا قام تاركًا له فليس هو بأولى.
وعلى هذا اختلف العلماء فيمن ترسَّم من العلماء والقُرَّاء بموضع من المساجد للتدريس والفتيا، فحُكِيَ عن مالك أنه أحقُّ به إذا عُرِفَ به، والذي عليه الجمهور أن هذا استحسان، وليس بحقٍّ واجب، ولعله مراد مالك.
وكذلك قالوا فيمن قعد من الباعة في موضع من أفنية الطريق وأقضية البلاد غير المتملَّكة وأصحاب الحوائج والمرافق: فهو أحقُّ به ما دام به جالسًا، فإذا قام منه، ونيته الرجوع إليه من عنده بمتاعه، واختلفوا فقيل: هو أحقُّ به حتى يتمَّ غرضُه، وحكاه الماوردي عن مالك قطعًا للتنازع، وقيل: هو وغيره فيه بَعْدَ قيامه سواء، والسَّابق يُعدُّ أحقَّ به، وهو قول الجمهور. إكمال المعلم (7/ 71).
وقال أبو العباس القرطبي –رحمه الله-:
قوله: «إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به» هذا يدلُّ على صحَّة القول بوجوب اختصاص الجالس بموضعه إلى أن يقوم منه؛ لأنه إذا كان أولى به بعد قيامه؛ فقَبلَه أحرى وأوْلَى.
وذهب آخرون: إلى أن ذلك على الندب؛ لأنَّه موضع غير متملَّك لأحد، لا قبل الجلوس، ولا بعده، وهذا فيه نظر، وهو أن يقال: سلَّمنا أنه غيرُ متملَّك له، لكنه يختصُّ به إلى أن يفرغ غرضه منه، فصار كأنه يملك منفعته؛ إذ قد منع غيره من أن يزاحِمَه عليه.
وحمله مالك على النَّدب إذا كانت رجعته قريبةً، قال: وإن بَعُدَ ذلك حتى يذهب ويتغدَّى فلا أرى ذلك، وأنه من محاسن الأخلاق، وعلى هذا فيكون هذا عامًّا في كل المجالس، وقال محمد بن مسلمة: الحديث محمول على مجلس العلم، هو أولى به إذا قام لحاجة، فإذا قام تاركًا له، فليس هو بأوْلَى.
وقد اختلف العلماء فيمن ترتَّب من العلماء والقُرَّاء بموضع من المسجد للفتيا، وللتدريس، فحكي عن مالك: أنه أحقُّ به إذا عرف به، والذي عليه الجمهور: أن هذا استحسان، وليس بواجب، ولعلَّه مراد مالك، وكذلك قالوا فيمن قعد من الباعة في موضع من أفنية الطُّرق، وأفضية البلاد غير المتملَّكة فهو أحقُّ به ما دام جالسًا فيه، فإن قام منه، ونيَّته الرجوع إليه من غده؛ فقيل: هو أحق به حتى يتمَّ غرضه... قطعًا للتنازع، وقيل: هو وغيره سواء، والسَّابق إليه بَعْدَ ذلك أحقُّ به. المفهم (5/ 511- 512).
وقال النووي -رحمه الله-:
قال أصحابنا: هذا الحديث فيمن جلس في موضع من المسجد أو غيره لصلاة مثلًا ثم فارقه ليعود؛ بأن فارقه ليتوضأَ، أو يقضي شغلًا يسيرًا ثم يعود لم يَبْطُلِ اختصاصُه، بل إذا رجع فهو أحقُّ به في تلك الصلاة، فإن كان قد قعد فيه غيره فله أن يُقيمَه، وعلى القاعد أن يفارقَه لهذا الحديث، هذا هو الصحيح عند أصحابنا (أي: الشافعية)، وأنه يجب على من قعد فيه مفارقته إذا رجع الأوَّلُ.
وقال بعض العلماء: هذا مستحبٌّ ولا يجب، وهو مذهب مالك، والصواب الأوَّلُ.
قال أصحابنا(أي: الشافعية): ولا فرق بين أن يقوم منه ويترك فيه سجادة ونحوها أم لا، فهذا أحقُّ به في الحالين، قال أصحابنا (أي: الشافعية): وإنما يكون أحقَّ به في تلك الصلاة وحدها دون غيرها، والله أعلم. شرح مسلم (14/ 161- 162).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
ليس للإمام ولا غيره من الوُلَاة أن يأخذ ممن يرتفق بالجلوس والبيع ونحوه في الشارع عِوضًا قطعًا.
ولو جلس فيه للمعاملة، أي: وكذا الصناعة كخياطة ونحوها، ثم فارقه، أي: فارق موضع جلوسه، فإن فارقه؛ تاركًا للحرفة أو منتقلًا إلى غيره بَطَلَ حقُّه؛ لإعراضه عنه، وإن فارقه ليعود لم يَبْطُلْ، إلا أن تطول مفارقته بحيث ينقطع معاملوه عنه ويألفون غيره؛ لأن الغرض من الموضع المتعين أن يُعرَفَ فيعامل، وسواء فارق بعذر أو بغيره، واحتُرِزَ بالمعاملة عمَّا إذا جلس لاستراحة وشِبْهِهَا فإن حقَّه يَبْطُلُ بمفارقته.عجالة المحتاج إلى توجيه المنهاج (2/ 955- 956).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
نعم، إن أقيمت الصلاة في غيبته واتَّصلت الصفوف فالوجه سدُّ الصفِّ مكانَه؛ لمصلحة تمام الصفوف. أسنى المطالب في شرح روض الطالب(2/ 451).
وقال البكري -حمه الله-:
من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحقُّ به، لكن لغيره الجلوس فيه ما دام غائبًا؛ لئلا تتعطَّلَ منفعة الموضع في الحال. إعانة الطالبين (3/ 209).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
فمن سبق إلى موضع مباح سواء كان مسجدًا أو غيره في يوم جمعة أو غيرها، لصلاة أو لغيرها من الطاعات فهو أحقُّ به، ويَحرمُ على غيره إقامته منه والقعود فيه، إلا أنه يستثنى من ذلك: الموضع الذي قد سبق لغيره فيه حقٌّ، كأن يقعد رجل في موضع، ثم يقوم منه لقضاء حاجة من الحاجات، ثم يعود إليه، فإنه أحقُّ به ممن قعد فيه بعد قيامه؛ لحديث أبي هريرة وحديث وهب بن حذيفة المذكورين في الباب، وظاهرهما عدم الفرق بين المسجد وغيره، ويجوز له إقامة من قعد فيه، وقد ذهب إلى ذلك الشافعية والهادوية. نيل الأوطار (3/ 296).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
هذا الحديث يدلُّ على احترام المؤمن، وإنَّ مكانه قد تلبَّسَ لحرمة جلوسه فيه، فكان أحقَّ به، فإذا قام ثم عاد كان أحقَّ بمكانه الذي سبق اختياره له، وتوطيده إياه، وهذا يُفهم منه أنه محمول على من قام من مجلسه، ففَهِمَ الباقون أنه عائد إليه، فيكون في جلوسِ غيره في مجلسه إشارةٌ إلى أنه قد كان متطلِّعًا إلى مكانه، وقد استراح إلى قيامه فأخذ مكانه.
والذي أرى في هذا الحديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكره مُوقِظًا به فِطَنَ الإخوان للتنبيه إلى مراعاة حسن الآداب في الصحبة، ومجانبة كُلِّ ما يكلِّف وجوه الصفا بينهم حتى في هذا. الإفصاح (8/ 107).
وقال الشيخ فيصل بن مبارك -رحمه الله-:
فيه: أنَّ من قام من مجلسه لعذر، ثم عاد إليه، فهو أحقُّ، سواء ترك فيه متاعًا أو لا. تطريز رياض الصالحين (ص: 505).