«إذا أرادَ اللهُ بقومٍ عذابًا، أصابَ العذابُ مَن كان فيهم، ثم بُعِثُوا على أعمالِهِم».
رواه البخاري برقم: (7108)، ومسلم برقم: (2879)، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«بُعِثُوا»:
البعث في كلام العرب على وجهين:
أحدهما: الإرسال؛ كقول الله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى} الأعراف:103، معناه: أرسلنا.
والبعث أيضًا: الإحياء من الله للموتى، ومنه قوله -جلَّ وعزَّ-: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} البقرة:56، أي: أحييناكم. تهذيب اللغة، للأزهري (2/ 201-202).
شرح الحديث
قوله: «إذا أرادَ اللهُ بقومٍ عذابًا»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقوله: «إذا أراد الله بقوم عذابًا أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بُعِثُوا على نِيَّاتهم» يعني: إذا أراد الله أخذ قوم بما ظهر فيهم من المنكر، أهلك جميعهم بعذاب يرسله على جميعهم، صالحِهم وطالحِهم، فأمَّا تعذيب الصَّالح فترفيع له في درجاته، وتكثير لثوابه، ثم يحشر على نِيَّته الصَّالحة، فتَتِمُّ له الصَّفقة الرَّابحة، وأمَّا تعذيب الطَّالح فانتقام منه، والمؤخَّر له أعظم من الواقع به، وهذا نحو مِمَّا قالته عائشة -رضي الله عنها-: «أنهلك وفينا الصَّالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخَبَثُ». المفهم (7/ 143-144).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«إذا أنزل الله بقوم عذابًا» أي: عقوبة لهم على سَيِّءِ أعمالهم. إرشاد الساري (10/ 196).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«إذا أراد الله بقوم عذابًا» أي: عقوبة في الدُّنيا كقحط وفناء وجَوْرٍ. فيض القدير (1/ 265).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«إذا أراد الله بقوم عذابًا» أي: هلاكًا في الدُّنيا؛ لسوء صنيعهم، وشِدَّة مخالفتهم لرسولهم. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (26/ 58).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«إذا أراد الله بقوم عذابًا أصاب العذاب من كان فيهم» ممن لا يستحِقُّ العذاب، وهو نظير أحد الوجوه في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} الأنفال:25، ويأتي أحاديث: «أنه يهلك الصَّالحون مع غيرهم، ويُبعثون على نِيَّاتهم»، وهذا خاصٌّ بمن عدا المهلكين من الأمم التي فيهم رسل الله، فإنه تعالى يُنجِّي رسله كما أنجى موسى وقومه حين أغرق فرعون وقومه، وأنجى لوطًا وأهله إلا امرأته، وأنجى نوحًا ومن آمن معه؛ إكرامًا لرسله، وإبانةً لحقيَّة ما بعثوا به، وأمَّا مثل قوله تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} إلى قوله: {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية، الفتح:25، فإنه دالٌّ على أنه تعالى صرف العذاب لوجود مَنْ لا يستحِقُّه منهم فإنه خاصٌّ بأولئك الأقوام دون غيرهم، أو أن هذا في عذاب السَّيف، وأمَّا ما يأتي من حديث: «إذا أراد الله بقوم نقمةً مات الأطفال وعقَّم النِّساء، فينزل العذاب وليس فيهم مرحوم»، فلا ينافي هذا؛ لأنه يُرادُّ هنا من كان فيهم المكلَّفُون، كما يدلُّ له قوله: «ثم بعثوا على أعمالهم»، فإن الأعمال إنما تضاف إلى المُكلَّفين. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 538).
وقوله: «أصابَ العذابُ مَن كانَ فيهم»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«أصاب» أي: أوقع «العذاب» بسرعة وقوَّة. فيض القدير (1/ 265).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«أصاب» ذلك «العذاب» أي: عمَّ جميع «من كان فيهم» أي: في أولئك القوم من المطيع والعاصي. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (26/ 58).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«أصاب العذاب مَنْ كان فيهم» ممن ليس هو على منهاجهم، و«مَنْ» مِنْ صيغ العموم، فالمعنى أن العذاب يصيب حتى الصَّالحين منهم، وعند الإسماعيلي من طريق أبي النعمان عن ابن المبارك: «أصاب به من بين أظهرهم». إرشاد الساري (10/ 196).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
«من كان فيهم» هو من صيغ العموم، يعني: يصيب الصَّالحين منهم أيضًا، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} الأنفال:25، لكن يُبعَثُون يوم القيامة على حسب أعمالهم، فيثاب الصَّالح بذلك؛ لأنه كان تمحيصًا له، ويعاقب غيره. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (24/ 176).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «من كان فيهم» أي: صالحًا كان أو طالحًا، هكذا جرت السُّنَّة الإلهية في بعض الذُّنوب، وفي بعض الأحيان، وقد يحفظ مَنْ يريد، واللَّه عليم حكيم. لمعات التنقيح (8/ 547).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «أصاب العذاب من كان فيهم» المرادُ من العذاب الدُّنيويُّ؛ فإنه يعمُّ المطيع والعاصي، وهو معنى قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} الأنفال:25، فالعذاب يصيب المطيع أيضًا؛ إما لكونه لم يأمر بالمعروف، ولم ينهَ عن المنكر على ما ينبغي، وإما لتعجيل ثوابه في الآخرة. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (26/ 58).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«إذا أراد الله بقوم عذابًا أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بُعِثُوا على أعمالهم» أي: عمَّهم الابتلاء، وشملتهم المصيبة، فأمَّا أصحاب الرَّجاء فيطمعون في كون هذا العذاب مكفِّرًا لسيِّئاتهم، رافعًا لدرجاتهم، فيموتون على ذلك ثم يُبعثون عليه، وأمَّا أهل القُنوط واليأس فلا يطمعون، فيُبعثون على اليأس والقنوط. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (10/ 486).
قوله: «ثم بُعِثُوا على أعمالِهِم»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«ثم بُعثوا» يومَ القيامة «على أعمالهم» يُبعث الصَّالحُ على أعماله الصَّالحة فيفوز، والفاجرُ على معصيته فيعذَّب. شرح المصابيح (5/ 453).
قال المظهري -رحمه الله-:
يعني: إذا أذنب بعض القوم نزل العذاب بجميع من كان في القوم الذين فيهم المذنب، وهلكوا جميعًا بشؤم المذنب، فصاروا مستوين في لُحوق العذاب بهم، ولكنهم مختلفون يوم القيامة، وكُلُّ واحد منهم يبعث بأعماله، فالصَّالح ينجو، والطالح يُعذَّب. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 324).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«ثم بعثوا على أعمالهم» فدلَّ على أن العذاب كان طُهرةً لهم، وفسَّره رواية البيهقي: قيل: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفيهم أهل طاعته؟! قال: «نعم، يبعثون إلى رحمة الله». وهذا أحد الوجهين في تفسير قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} الأنفال:25. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (11/ 36).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«ثم بعثوا» بعد الممات عند النَّفخة الثَّانية «على أعمالهم» ليجازوا عليها، فمن أعماله صالحة أثيب عليها، أو سيِّئة جوزي بها، فيجازون في الآخرة بأعمالهم ونِيَّاتهم، وأمَّا ما أصابهم في الدُّنيا عند ظهور المنكر فتطهير للمؤمنين ممن لم ينكر وداهن مع القدرة ونقمة لغيرهم، وقضية ما تقرَّر أن العذاب لا يعمُّ من أنكر، ويؤيِّده آية: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} الأعراف:165، لكن ظاهر {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} الأنفال:25، وخبر: «أنهلك وفينا الصَّالحون؟ قال: نعم، إذا كَثُرَ السُّوءُ» العموم. فيض القدير (1/ 265).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «ثم بعثوا على أعمالهم» معناه: أن العذاب الدُّنيويَّ، وإن عمَّ المطيع والعاصي، ولكن المجازاة في الآخرة، إنَّما تكون على حسب الأعمال، فيستحِقُّ العاصي العقوبة والمطيع الثَّواب، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (26/ 58).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
والحاصل أنه لا يلزم من الاشتراك في الموت الاشتراك في الثَّواب أو العقاب، بل يجازى كُلُّ أحد بعمله على حسب نِيَّته. وجنح ابن أبي جمرة إلى أن الذين يقع لهم ذلك إنما يقع بسبب سكوتهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما من أمر ونهى فهم المؤمنون حقًّا، لا يرسل الله عليهم العذاب، بل يدفع بهم العذاب، ويؤيِّده قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} القصص:59، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} الأنفال:33، ويدلُّ على تعميم العذاب لمن لم ينهَ عن المنكر وإن لم يتعاطاه قوله تعالى: {فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} النساء:140. فتح الباري (13/ 61).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
وأمَّا «بعثوا على أعمالهم» فحكم عدل؛ لأنَّ أعمالهم الصَّالحة إنما يجازون بها في الآخرة، وأمَّا في الدُّنيا فمهما أصابهم بلاء كان تكفيرًا لِمَا قدموه من عمل سَيِّءٍ، فكان العذاب المرسل في الدُّنيا على الذين ظلموا يتناول من كان معهم، ولم ينكر عليهم، فكان ذلك جزاء لهم على مُداهنتهم، ثم يوم القيامة يُبعث كُلٌّ منهم فيجازى بعمله. فتح الباري (13/ 61).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
يستفاد من هذا مشروعية الهرب من الكُفَّار ومن الظَّلَمة؛ لأن الإقامة معهم من إلقاء النَّفس إلى التَّهلُكة، هذا إذا لم يعنهم ولم يرضَ بأفعالهم، فإن أعان أو رضي فهو منهم، ويؤيِّده أمره -صلى الله عليه وسلم- بالإسراع في الخروج من ديار ثمود. فتح الباري (13/ 61).
قال ابن بطال -رحمه الله-:
هذا الحديث يُبيّن حديث زينب بنت جحش أنها قالت: «يا رسول الله، أنهلك وفينا الصَّالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخَبَثُ»، فيكون إهلاك جميع الناس عند ظهور المنكر والإعلان بالمعاصي، ودلَّ قوله: «ثم بُعِثُوا على أعمالهم» أن ذلك الهلاك العام يكون طُهرةً للمؤمنين ونقمةً للفاسقين. شرح صحيح البخاري (10/ 53).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
هذا محمول على أن من هلك مع المهلكين يكون أجله قد قُدِّر حينئذٍ، ثم يبعثون على أعمالهم؛ لأن الله تعالى قال: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الأنعام: 164، ويجوز أن يكونوا لم يُنكروا المنكر؛ فعوقبوا لِمَا نزل بهم. الإفصاح عن معاني الصحاح (4/ 78).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
قد يُشكل هذا فيقال: كيف يصيب العذاب مَنْ لم يفعل أفعالهم؟
والجواب من وجهين:
أحدهما: أن يكون فيهم راضيًا بأفعالهم، أو غير منكر لها، فيعذِّب برضاه المعصية، وسكوته عن الإنكار، فإن الصَّالحين من بني إسرائيل لَمَّا أنكروا على المفسدين، ثم واكلوهم وصافُّوهم عمَّ العذابُ الكُلَّ.
والثاني: أن يكون إصابة العذاب لهم لا على وجه التَّعذيب، ولكن يكون إماتة لهم عند انتهاء آجالهم، كما هلكت البهائم والمواشي في الطُّوفان بآجالها لا بالتَّعذيب. كشف المشكل (2/ 512-513).
وقال الشيخ فيصل بن المبارك -رحمه الله-:
يشهد لهذا الحديث قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} الأنفال:25، فإذا نزل العذاب عمَّ البَرَّ والفاجر، ويُبعثون على نِيَّاتهم. تطريز رياض الصالحين (ص: 1039).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)