«كانَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي فيما بينَ أنْ يَفْرُغَ مِن صلاةِ العشاءِ -وهي الَّتي يَدْعُو الناس العَتَمَةَ- إلى الفجرِ إحدى عشْرةَ ركعةً، يُسَلِّمُ بينَ كُلِّ ركعتينِ، ويُوتِرُ بواحدةٍ، فإذا سَكَتَ المؤذِّنُ مِن صلاةِ الفجرِ، وتبيَّن له الفجرُ، وجاءه المؤَذِّنُ، قام فركع ركعتين خفيفتينِ، ثم اضْطَجَعَ على شِقِّهِ الأيمنِ، حتَّى يأتيه المؤذن للإقامَةِ».
رواه مسلم برقم: (736)، من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«يَفْرُغ»:
فَرَغْتُ من الشغل أفْرُغُ فُروغًا وفَراغًا وتَفَرَّغْتُ لكذا. الصحاح، للجوهري (4/ 1324).
والفراغ في اللغة على وجهين: الفراغ من الشغل معروف، والآخر: القصد للشيء. الغريبين في القرآن والحديث، للهروي (5/ 1439).
«العَتَمَة»:
عتمة الليل: ظلام أوله عند سقوط نور الشفق، يقال: عتم الليل يعتم، وقد أعتم الناس إذا دخلوا في وقت العتمة. تهذيب اللغة، للأزهري(2/ 171).
وقال الصاحب بن عباد -رحمه الله-:
العتمة: الثلث الأول من الليل بعد غيبوبة الشفق، وله قيل: صلاة العتمة، وقيل: العتمة: ظُلْمة الليل، وحلبناها عَتَمَةً وعَتْمَةً، والعَتَمَةُ: بقية اللبن تفيق تلك الساعة. المحيط في اللغة (1/ 450).
«اضطجع»:
وضع جنبه على الأرض. شمس العلوم، للحميري (6/ 3926).
وقال ابن منظور -رحمه الله-:
اضطجع: نام، وقيل: استلقى ووضع جنبه بالأرض. لسان العرب لابن منظور (8/ 219).
«شِقِّه»:
الشِّقُّ: نصف الشيء. مجمل اللغة، لابن فارس (ص: 498).
شرح الحديث
قولها: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي» أي: غالبًا «فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر» وهو بظاهره يشمل ما إذا كان بعد نوم أم لا. مرقاة المفاتيح (3/ 901).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
قوله: «يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء» أي: في الوقت الذي بعد فراغه من صلاة العشاء إلى أن ينشق الفجر قبل النوم أو بعده. المنهل العذب المورود (7/ 265).
وقوله: «وهي التي يدعو الناس العتمة»:
قال الشيخ محمد الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «وهي التي يدعو الناس العتمة» جملة معترضة بيَّن بها أن المراد هنا بصلاة العشاء هي العشاء الأخيرة، لا المغرب؛ إذا يطلق عليها العشاء أيضًا، و«العَتَمَة» محرَّكة: ما بعد غيبوبة الشفق إلى الثلث الأول. البحر المحيط الثجاج (15/ 465- 466).
وقال الزمخشري -رحمه الله-:
وأهل البدو كانوا يسمون صلاة العشاء العتمة فنهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يُقتدى بهم في هذه التسمية الخارجة على ألسنهم، واستحب التمسك بالاسم الناطق بلسان الشريعة، وهو مِن أَعْتَمَ القوم إذا دخلوا في العتمة؛ لأنك إذا سمَّيت اللبن بعَتَمَةٍ فقد جعلته معناها، والمعاني داخلة تحت الأسماء مودعة إياها. الفائق في غريب الحديث (2/ 390)
قولها: «إحدى عشرة ركعة»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«إحدى عشرة» بسكون الشين وتُكسر. مرقاة المفاتيح (3/ 901).
قال السندي -رحمه الله-:
«إحدى عشرة ركعة» وقد جاء «ثلاث عشرة ركعة» فيحمل على أن هذا كان أحيانًا، أو لعله مبني على عد الركعتين الخفيفتين اللتين يبدأ بهما صلاة الليل من صلاة الليل أحيانًا وتركه أخرى، وعلى كل تقدير فهذه الهيئة لصلاة الليل لا بد من حملها على أنها كانت أحيانًا، وإلا فقد جاءت هيئات أُخر في قيام الليل. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه (1/ 410).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وأما الإحدى عشرة ركعة المذكورة في هذا الحديث فمَحْمَلُها عندنا أنها كانت مثنى مثنى حاشا ركعة الوتر، بدليل قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن عمر: «صلاة الليل مثنى مثنى»، وأن ذلك قد ذكره في هذا الحديث جماعة من أصحاب ابن شهاب؛ منهم: الأوزاعي، وابن أبي ذئب، وعمرو بن الحارث، ويونس بن يزيد، وهذا موضع فيه اختلاف بين أهل العلم؛ لاختلاف الآثار في ذلك. التمهيد (5/ 426- 427).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقد أشكلت هذه الأحاديث على كثير من العلماء، حتى إن بعضهم نسبوا حديث عائشة في صلاة الليل إلى الاضطراب، وهذا إنما كان يصح لو كان الراوي عنها واحدًا، أو أخبرت عن وقت واحد.
والصحيح: أن كل ما ذَكَرَتْهُ صحيح من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في أوقات متعددة، وأحوال مختلفة، حسب النشاط والتيسير؛ وليبين أن كل ذلك جائز؛ ولأجل هذه الأحاديث المختلفة قال الحنفي: إن صلاة النفل ليلًا ونهارًا لا يشترط فيها الفصل بين كل ركعتين بسلام، بل يصلي ستًّا وثمانيًا وأقل وأكثر بتسليمة واحدة. المفهم (2/ 367).
وقال ابن حجر -رحمه الله- بعد نقل كلام القرطبي السابق:
وظهر لي أن الحكمة في عدم الزيادة على إحدى عشرة: أن التهجد والوتر مختص بصلاة الليل؛ وفرائض النهار الظهر وهي أربع والعصر وهي أربع والمغرب وهي ثلاث وتر النهار؛ فناسب أن تكون صلاة الليل كصلاة النهار في العدد جملة وتفصيلًا. فتح الباري (3/ 21).
قولها: «يسلِّم بين كل ركعتين»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«يسلِّم من كل ركعتين» ويؤيده «صلاة الليل مثنى». مرقاة المفاتيح (3/ 901).
وقال الطحاوي -رحمه الله-:
وأما قولها: «يسلم بين كل ركعتين» فإن ذلك محتمل أن يكون كان يسلَّم بين كل ركعتين في الوتر وغيره؛ فيثبت بذلك ما يذهب إليه أهل المدينة من التسليم بين الشفع والوتر، ويحتمل أن يكون كان يسلِّم بين كُل ركعتين من ذلك غير الوتر؛ ليتفق ذلك وحديث سعد بن هشام ولا يتضادان. شرح معاني الآثار (1/ 283).
وقال القدوري -رحمه الله-:
قلنا: يحتمل أن يكون: «يسلِّم من ركعتين» أي: يتشهد، الدليل عليه: ما رويناه عنها أنه كان يصلي ثمان ركعات لا يجلس إلا آخرهن، يعني السلام. التجريد (2/ 821).
قولها: «ويوتر بواحدة»:
قال ابن عبد البر -رحمه الله-:
والوتر سنة وهو من صلاة الليل؛ لأنه بها سمي وترًا، وإنما هو وتر لها، وقد أوجبه بعض أهل الفقه فرضًا، وفي قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للأعرابي: إنه ليس عليه غير الخمس إلا أن يطَّوَّع، ما يرد قوله. التمهيد (5/ 426).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«ويوتر بواحدة» مضمومة إلى الشفع الذي قبلها. شرح المصابيح (2/ 142).
وقال للعيني -رحمه الله-:
قوله: «ويوتر بواحدة» أي: بركعة واحدة وركعتين قبلها، فإن قيل: هذا صريح أنه أوتر بواحدة، ولئن سلَّمنا أنه أوتر بثلاث فكذلك هو صريح أنه بتسليمتين؛ لأن عائشة -رضي الله عنها- صرحت بقولها: «يسلِّم من كل ثنتين» فيكون هذا حجهٌ عليكم (الحنفية) في أن الوتر ثلاثٌ بتسليمة. شرح سنن أبي داود (5/ 242).
وقال ابن مفلح -رحمه الله-:
«يسلِّم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة» رواه مسلم، وظاهره: أنه لا يُكره فعله بواحدة، وإن لم يتقدمها صلاة، حتى في حق المسافر، وعنه: يركع ركعتين، ثم يوتر.
قال أحمد: الأحاديث التي جاءت عنه -عليه السلام- أنه أوتر بركعة كان قبلها صلاة متقدمة. المبدع في شرح المقنع (2/ 7).
قولها: «فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر، وتبين له الفجر»:
قال الخطابي -رحمه الله-:
معناه: الفراغ من الأذان الأول، يريد أنه لا يصلي ما دام يؤذِّن، فإذا فرغ من الأذان وسكت قام فصلى ركعتي الفجر. معالم السنن (1/ 280).
وقال للعيني -رحمه الله-:
معناه: الفراغ من الأذان الأول، تريد أنه لا يصلي ما دام يؤذِّن، فإذا فرغ من الأذان وسكت، قام فصلى ركعتي الفجر، هذا هو المشهور. شرح سنن أبي داود (5/ 242).
وقال ابن القطان الفاسي -رحمه الله-:
قوله: «وإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر» وإنما أراد إذا سكت المؤذن من الأذان الأول لصلاة الفجر، وفيه ما لا يُعرف إلا منه، وهو قوله: «إن المؤذن كان يأتيه بعد فراغه من الأذان قبل أن يركع ركعتي الفجر، ثم يأتيه مرة أخرى للإقامة»، وهذا ما لا يُعرف في غيره. بيان الوهم والإيهام (5/ 234).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قلت: الظاهر أن المراد بالتبيُّن الإسفار، فيفيد أن الإسفار مستحَب حتى في حق السُّنة (سنة الفجر). مرقاة المفاتيح (3/ 901).
قولها: «وجاءه المؤذن، قام فركع ركعتين خفيفتين»:
قال المظهري -رحمه الله-:
قولها: «فركع ركعتين خفيفتين» يعني: سنة الصبح. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 257).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «فركع ركعتين خفيفتين» قيل: الحكمة في تخفيفهما المسارعة إلى صلاة الصبح أول الوقت، وقيل: ليستفتح صلاة النهار بركعتين خفيفتين، كما كان يصنع في صلاة الليل. التحبير لإيضاح معاني التيسير (5/ 768).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فركع» أي: صلى «ركعتين خفيفتين» يقرأ في أولاهما الكافرون وفي الثانية الإخلاص. الكوكب الوهاج (9/ 369).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وهذا يحتمل أن تكون أرادت به أنه كان يصلي الركعتين قبل فراغ المؤذن من أذانه قبل الإقامة، فإنَّ الأذان والإقامة يسميان أذانين... ويحتمل أن تكون أرادت أن الأذان نفسه كان يكرَّر مرتين، فيؤذِّن بلال وبعده ابن أم مكتوم، فكانت صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد بلال قبل أذان ابن أمِّ مكتوم، إذا تبين الفجر للنبي -صلى الله عليه وسلم- صلى ركعتي الفجر، ولم يتوقف على أذان ابن أمِّ مكتوم، فإن ابن ام مكتوم كان يُسْفِرُ بأذان الفجر، «ولا يؤذن حتى يقال له: أصبحت». فتح الباري (5/ 350).
قولها: «ثم اضطجع على شقه الأيمن»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«ثم اضطجع» -عليه الصلاة والسلام- في بيته «على شقه» أي: جنبه «الأيمن»؛ جريًا على عادته الشريفة في حبه التيامن في شأنه كله، أو للتشريع؛ لأن النوم على الأيسر يستلزم استغراق النوم في غيره -عليه الصلاة والسلام- بخلافه هو؛ لأن عينه تنام ولا ينام قلبه، فعلى الأيمن أسرع للانتباه بالنسبة لنا، وهو نوم الصالحين، وعلى اليسار نوم الحكماء، وعلى الظهر نوم الجبارين والمتكبرين، وعلى الوجه نوم الكفار. إرشاد الساري (2/ 15).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقولها: إنه -صلى الله عليه وسلم- «اضطجع» بعد ركعتي الفجر «على شقه الأيمن» هذه ضجعة الاستراحة من قيام الليل، والأمر الذي في كتاب الترمذي محمول على الإرشاد إلى الراحة؛ ولينشط لصلاة الصبح، وليست بواجبة عند الجمهور، ولا سنة؛ خلافًا لمن حكم بوجوبها من أهل الظاهر، ولمن حكم بسنيتها، وهو الشافعي. المفهم (2/ 373 - 374).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «شقه» أي: جنبه الأيمن، والحكمة فيه: أنه لا يستغرق في النوم؛ لأن القلب في جهة اليسار، ويعلق حينئذٍ غير مستقر، وإذا نام على اليسار كان في دعة واستراحة فيستغرق، وأيضًا يكون انحدار الثُّفل (ما رَسَبَ خُثارتُه وعَلَا صفوُه من كل شيءٍ) إلى أسفل أسهل وأكثر، فيصير سببًا لدغدغة قضاء الحاجة فينتبه أسرع. الكواكب الدراري (5/ 24).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قولها: «ثم اضطجع» أي: اضطجع للاستراحة ليزول عنه تعب قيام الليل؛ ليصلي فريضة الصبح على نشاط، ولم يكن به مَلَالَة. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 257).
وقال عبد الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
«فليضطجع على شقه الأيمن» هذا نص صريح في مشروعية الاضطجاع بعد سُنة الفجر لكل أحد المتهجد وغيره، وهو الحق. تحفة الأحوذي (2/ 394).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«على شقه الأيمن» لأنه كان يحب التيامن في أموره. الكوكب الوهاج (9/ 369).
وقال الرافعي -رحمه الله-:
قال سفيان (الثوري): وكان ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- خاصة؛ لما بلغنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تنام عيناه ولا ينام قلبه. شرح مسند الشافعي (1/ 466).
قولها: «حتى يأتيه المؤذن للإقامة»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«حتى يأتيه» ويحضره «المؤذن» استئذانه في «لإقامة» لصلاة الصبح. الكوكب الوهاج (9/ 369).
وقال الكشميري -رحمه الله-:
قوله: «ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة» وهذا نوع آخر من الانتظار، فلا يتمسك منه أحدٌّ على أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يجلس في بيته، ثم يخرج إذا سمع الإقامة. فيض الباري على صحيح البخاري (2/ 231).
قوله: «الَّتي يَدْعُو الناس العَتَمَةَ»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
(فيه) إِشعار بغلبة استعمالهم لها بهذا الاسم فصار مَن عَرَفَ النهي عن ذلك يحتاج إلى ذِكرهِ لقصد التعريف. قال النووي وغيره يُجمع بين النهي عن تسميتها عَتمة وبين ما جاء من تسميتها عتمة بأمرين: أحدهما: أنه استعمل ذلك لبيان الجواز، وأن النّهي للتنزيه لا للتحريم.
والثاني: بأنه خاطب بالعتَمة من لا يعرف العشاء لكونه أشهر عندهم من العشاء فهو لقصد التعريف لا لقصد التسمية. ويحتمل أنه استعمل لفظ العَتمة في العشاء؛ لأنه كان مُشتهرًا عندهم استعمال لفظ العشاء للمغرب، فلو قال: "لو يعلمون ما في الصبح والعشاء لتوهموا" أنها المغرب قلت وهذا ضعيف؛ لأنه قد ثبت في نفس هذا الحديث:" لو يعلمون ما في الصبح والعشاء" فالظاهر أن التعبير بالعشاء تارة وبالعتمة تارة من تصرف الرواة. وقيل: إن النهي عن تسمية العشاء عتمة نسخ الجواز، وتعقب بأن نزول الآية كان قبل الحديث المذكور وفي كُل من القولين نظر للاحتياج في مثل ذلك إلى التاريخ ولا بُعد في أن ذلك كان جائزًا فلمّا كثُر إطلاقهم له نهوا عنه لئلا تغلب السُّنة الجاهلية على السُّنة الإسلامية، ومع ذلك فلا يحرم ذلك بدليل أن الصحابة الذين رووا النهي استعملوا التسمية المذكورة وأما استعمالها في مثل حديث أبي هريرة فلرفع الالتباس بالمغرب، والله أعلم.فتح الباري(2/ 46 -47).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث من الفقه: أن قيام الليل سنة مسنونة؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعله، وواظب عليه، ولفظ الحديث يدل على مداومته على ذلك -صلى الله عليه وسلم-؛ وذلك معروف محفوظ يغني عن الإكثار فيه، وقد كان -عليه الصلاة والسلام- يقوم حتى تَرِمُ قدماه، فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا؟». التمهيد (5/ 425).
وقال الطحاوي -رحمه الله-:
ففي هذا الحديث أن جميع ما كان يصليه بعد العشاء الآخرة إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، فقد عاد ذلك إلى حديث أبي سلمة (عند ابن ماجه)، وعلمنا به أن تلك الصلاة هي صلاته بعدما بَدَّنَ. شرح معاني الآثار (1/ 283).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
وفي الحديث دليل... أن أذان الصبح يقدَّم على وقته؛ لأن قولها: «وإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر» أي: من أذانها، و«تبين له الفجر» يدل على أن التبيين لم يكن بالأذان، وإلا لَمَا كان لقوله: «وتبيَّن له الفجر» فائدة بعد قوله: «وسكت المؤذن». تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 354).
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله (في لفظ): «حتى يأتيه المؤذن للإقامة..» دليل على جواز اتخاذ الأئمة مؤذنين راتبين، وأن للمؤذن الإقامة، وأن على المؤذنين ارتقاب الأوقات، وجواز إشعار الإمام بالوقت. إكمال المعلم (3/ 83- 84).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
وفي الحديث استحباب التخفيف في سُنة الفجر... وإتيان المؤذن إلى الإمام الراتب وإعلامه بحضور الصلاة. الكواكب الدراري (5/ 24).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
وفي الحديث استحباب... الاضطجاع على الأيمن عند النوم الكواكب الدراري (5/ 24).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«ثم يضطجع على شقه الأيمن» فيه استحباب الاضطجاع بعد ركعتي الفجر على الشق الأيمن، والتقييد بأن الاضطجاع كان على الشق بالأيمن يُشعر بأن حصول المشروع لا يكون إلا بذلك، لا بالاضطجاع على الجانب الأيسر، ولا شك في ذلك مع القُدرة، وأما مع التعذر فهل يحصل المشروع بالاضطجاع على الأيسر أم لا؟ بل يشير إلى الاضطجاع على الشق الأيمن، جزم بالثاني ابن حزم -رحمه الله-، وهو الظاهر، والحكمة في ذلك: أن القلب معلَّق في الجانب الأيسر، فإذا اضطجع على الجانب الأيسر غلبه النوم، وإذا اضطجع على الأيمن قلق لقلق القلب، وطلبه لمستقره. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (18/ 144).
قال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وقد ذهب قوم إلى أن المصلي بالليل إذا ركع ركعتي الفجر كان عليه أن يضطجع، على ما جاء في هذا الحديث، وزعموا أن الاضطجاع سُنة في هذا الموضع، واحتجوا بحديث ابن شهاب هذا عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها- «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا ركع ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن» هكذا قال كل من روى هذا الحديث عن ابن شهاب، إلا مالك بن أنس فإنه جعل الاضطجاع في هذا الحديث بعد الوتر، واحتج أيضًا من ذهب إلى الاضطجاع بعد ركعتي الفجر -مع ما ذكرنا- بحديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا صلى أحدكم ركعتين قبل الصبح فليضطجع على يمينه» الحديث...
وأبى جماعة من أهل العلم ذلك وقالوا: ليس الاضطجاع سُنة، وإنما كان ذلك راحة لطول قيامه، واحتجوا بحديث أبي سلمة، عن عائشة، قالت: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى ركعتي الفجر؛ فإن كنت نائمة اضطجع، وإن كنت مستيقظة حدثني»، وفي لفظ بعض الناقلين لهذا الحديث: «إن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع».
وقد قال ابن القاسم، ورواه عن مالك أيضًا: لا بأس بالضجعة بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح، إن لم يُرد بها أن يفصل بينهما.
وقال الأثرم: سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، فقال: ما أفعله أنا، فإن فعله رجل، ثم سكت كأنه لم يُعِبْهُ إنْ فَعَلَه، قيل له: لمَ لمْ تأخذ به؟ فقال: ليس فيه حديث يثبت، قلتُ له: حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة؟ قال: رواه بعضهم مرسلًا.
وذكر أبو بكر الأثرم من وجوه عن ابن عمر أنه أنكره، وقال: إنها بدعة. التمهيد (5/ 427- 429).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
قولها: «حتى يأتيه المؤذن للإقامة» فإن هذا يدل على أنه يجوز انتظار المصلي للإقامة، وأن يؤخِّر دخول المسجد خارجًا منه حتى تقام الصلاة، فيدخل حينئذٍ...
وقد كرهه (أي: التأخر خارج المسجد حتى تقام الصلاة) من المتأخرين من أصحابنا، وقالوا: يُكره للقادر على الدخول إلى المسجد قبل الإقامة أن يجلس خارج المسجد ينتظر الإقامة؛ ذلك تفوت به فضيلة السبق إلى المسجد وانتظار الصلاة فيه، ولحوق الصف الأول.
وقد ندب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى التهجير إلى الصلاة، وهو القصد إلى المساجد في الهجير، إما قبل الأذان أو بعده، كما ندب إلى التهجير إلى الجمعة وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وقال للذين انتظروه إلى قريبٍ من شطر الليل لصلاة العشاء: «إنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتموها».
وقد كان كثير من السلف يأتي المسجد قبل الأذان، منهم: سعيد بن المسيب، وكان الإمام أحمد يفعله في صلاة الفجر.
وقال ابن عيينة: لا تكن مثل أجير السُّوء، لا يأتي حتى يُدعى، يشير إلى أنه يستحب إتيان المسجد قبل أن ينادي المؤذن.
وقال بعض السلف في قول الله تعالى: {السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} الواقعة: 10: إنهم أول الناس خروجًا إلى المسجد وإلى الجهاد.
وفي قوله: {سَابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} الحديد: 21 قال مكحول: التكبيرة الأولى مع الإمام، وقال غيره: التكبيرة الأولى والصف الأول...
وروى المعافى، عن سفيان الثوري، قال: مجيئك إلى الصلاة قبل الإقامة توقير للصلاة.
فمن كان فارغًا لا شغل له، وجلس إلى الصلاة قبل الإقامة على باب المسجد، أو قريبًا منه ينتظر أن تقام الصلاة فيدخل المسجد، وخصوصًا إن كان على غير طهارةٍ، وإنما ينتظر في المسجد إذا دخل المسجد بعد الإقامة، فهو مقصر راغب عن الفضائل المندوب إليها.
ولكن هذا كله في حق المأموم، وقد تقدم من حديث أبي المثنى، عن ابن عمر، قال: كان أحدنا إذا سمع الإقامة توضأ وخرج من وقته.
وفيه دليل على أن الصحابة كانوا ينتظرون الإقامة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فأما الإمام فإنه إذا انتظر إتيان المؤذن له في بيته حتى يُؤْذِنَه بالصلاة ويخرج معه فيقيم الصلاة حينئذٍ بالمسجد فيصلي بالناس، فهذا غير مكروه بالإجماع، وهذه كانت عادة النبي -صلى الله عليه وسلم-. فتح الباري (5/ 351- 352).