«اتقوا الظّلم، فإنَّ الظّلم ظُلمات يوم القيامة، واتقوا الشُّحَّ، فإنَّ الشُّحَّ أهْلَكَ مَن كان قبلكم، حَمَلَهم على أنْ سَفكوا دِماءهم، واسْتحَلُّوا مَحارِمهم».
رواه مسلم، برقم: (2578)، من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«الظّلم»:
وضع الشيء في غير موضعه المختصّ به، إمّا بنقصان أو بزيادة، وإمّا بعُدولٍ عن وقته أو مكانه.المفردات في غريب القرآن(ص: 537).
وقال الجرجاني -رحمه الله-:
الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وفي الشريعة: عبارة عن التعدي عن الحق إلى الباطل، وهو الجور، وقيل: هو التصرف في ملْكِ الغير ومجاوزة الحدِّ.التعريفات (ص: 144).
«الشّحّ»:
أَشدُّ البُخل، وهو أبلغ في المنع من البُخل. وقيل: هو البُخل مع الحرص. النهاية في غريب الحديث والأثر(2/ 448)
وقال النووي -رحمه الله-:
الشُّحُّ: أشد البخل، وأبلغ في المنع من البُخل، وقيل: هو البخل مع الحرص، وقيل: البخل في أفراد الأمور، والشحُّ عام، وقيل: البخل في أفراد الأمور، والشح بالمال والمعروف، وقيل: الشحُّ الحرص على ما ليس عنده، والبخل بما عنده.شرح النووي على مسلم (16/134).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
والفرق بين الشحِّ والبخل: أن الشحَّ هو شدة الحرص على الشيء، والاحفاء في طلبه، والاستقصاء في تحصيله، وجشع النفس عليه، والبخل منع إنفاقه بعد حصوله وحبه وإمساكه، فهو شحيح قبل حصوله، بخيل بعد حصوله، فالبخل ثمرة الشحّ، والشحُّ يدعو إلى البخل، والشح كامن في النفس، فمن بَخِل فقد أطاع شُحَّهُ، ومن لم يبخل فقد عصا شُحَّهُ، ووُقِيَ شرُّهُ، وذلك هو المفلح، {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الحشر: 9.الوابل الصيب(ص: 33).
«سَفَكُوا»:
السَّفْكُ: الإراقة والإجراء لكل مائِع، يقال: سَفَكَ الدمَ والدمع والماء يَسْفِكُهُ سَفْكًا، وكأنه بالدم أَخصّ.النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 376).
شرح الحديث
قوله: «اتقوا الظلم»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
أي: اتخذوا لكم وقاية منه بالقِسط.دليل الفالحين (4/ 469).
وقال ابن علان -رحمه الله- أيضًا:
أي: اجتنبوا ظلم العباد، ومنهم النفس، وظلمها: بمنعها حقّها، أو إعانتها على معصية الله، وإطاعتها فيها.دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (2/ 515- 516).
وقال الملا على القاري -رحمه الله-:
قوله: «اتقوا الظلم»: أي: المشتَمِل على الشحِّ وغيره من الأخلاق الدنية، والأفعال الرديئة.مرقاة المفاتيح (4/ 1321).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «اتقوا الظلم»: يشمل أنواع المعاصي، وأعظمها وأشدها الشرك، وإِنّ الشرك لظلم عظيم، فجَمْعُه ظلمات يحتمل أن يكون بهذا الاعتبار، وأن يكون المراد أن الظلم الواحد يكون سببَ ظلماتٍ متراكمة، وشدائد متعددة من أهوال يوم القيامة وأحوالها.لمعات التنقيح (4/323).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«اتقوا الظلم» الذي هو مجاوزة الحدِّ والتعدي على الخلق...؛ وذلك لأن الشرائع تَطابَقت على قُبحه، واتفقت جميع الْمِلَل على رعاية حفظ الأنفس، فالأنساب، فالأعراض، فالعقول، فالأموال، والظلم يقع في هذه أو في بعضها، وأعلاه الشرك {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} لقمان: 13.
وهو المراد بالظلم في أكثر الآيات: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} البقرة: 254.
ويدخل فيه ظلم الإنسان لنفسه بارتكاب المعاصي؛ إذ العُصاة ظُلَّام أنفسهم، وأقبح أنواعه :ظُلم مَن ليس له ناصرٌ إلا الله.
قال ابن العزيز: إياك إياك أن تَظلم من لا ينتصر عليك إلا بالله؛ فإنه تعالى إذا عَلِم الْتِجَاء عبدٍ إليه بصدق واضطرار انتصَرَ له فورًا، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} النمل: 62.فيض القدير (1/ 134).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
«الظلم»: أخذ مال الغير بغير حق، أو التناوُلِ من عِرضِه ونحو ذلك، قال بعضهم: ليس شيء أقرب إلى تغيير النِّعم من الإقامة على الظلم. فيض القدير (1/ 134).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
اعلم أن الظلم يشتمل على معصيتين عظيمتين:
إحداهما: أخذ مال الغير بغير حق.
والثانية: مبارزة الآمر بالعدل بالمخالفة، وهذه المعصية فيه أدهى؛ لأنه لا يكاد يقع الظلم إلا للضعيف الذي لا يقدر على الانتصار إلا بالله -عز وجل-، وإنما ينشأ الظلم من ظُلْمَةِ القلب، ولو استنار بنور الهدى لنَظَر في العواقب، فإذا سعى المتَّقون بنورهم الذي اكتسبوه في الدنيا من التقوى ظهرت ظلمات الظالم فاكْتَنَفَتْهُ.كشف المشكل (2/ 559-560).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«اتقوا الظلم»: أي: احذروه، واتخذوا وقاية منه، وابتعدوا عنه.
والظلم: هو العدوان على الغير، وأعظم الظلم وأشدّه: الإشراك بالله -عز وجل-، قال الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} لقمان: 13.
ويشمل الظلم: ظلم العباد، وهو نوعان: ظلم بتَرْك الواجب لهم، وظلم بالعدوان عليهم بأخذٍ، أو بانتهاك حرماتهم.شرح رياض الصالحين(3/ 413).
قوله: «فإنَّ الظلم ظلمات يوم القيامة»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«ظلمات» بضم اللام، وبإسكانها، تخفيفًا، وبالفتح.دليل الفالحين (4/ 469)
وقال الطيبي -رحمه الله-:
أفْرَد المبتدأ -يعني: قوله: «فإنَّ الظلم»-، وجمَع الخبر -يعني: قوله: «ظلمات»-؛ دلالة على إرادة الجنس، واختلاف أنواع الظلم الذي هو سبب لأنوع الشدائد في القيامة.شرح المشكاة (5/ 1525).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
قال القزاز: الظلم هنا هو الشرك، أي: هو عليهم ظلام وعَمَى، ومن هذا زَعَم بعض اللغويين أنَّ اشتقاق الظلم من الظَّلام، كأنَّ ما عليه في ظلام عن الحق، والذي عليه الأكثرون أنه: وَضْعُ الشيء في غير موضعه.التوضيح لشرح الجامع الصحيح (15/ 589).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال المهلب: هذه الظلمات لا نعرف كيف هي، إن كانت مِن عَمَى القلب، أو هي ظلمات على البصر، والذي يدل عليه القرآن: أنها ظلمات على البصر حتى لا يهتدي سبيلًا، قال الله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُور...} الحديد: 13، فدلت الآية أنهم حين مُنعوا النور بقوا في ظُلمة غشيت أبصارهم، كما كانت أبصارهم في الدنيا عليها غشاوة من الكفر.
وقال تعالى في المؤمنين: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} الحديد: 12، فأثاب الله المؤمنين بلزوم نور الإيمان لهم، ولذَّذَهُم بالنظر إليه، وقوَّى به أبصارهم، وعاقب الكفار والمنافقين؛ بأن أظْلم عليهم، ومَنَعَهم لذة النظر، هذا حديث مُجْمَل بَيَّنَهُ دليل القرآن.شرح صحيح البخاري (6/ 576).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «الظلم ظلمات يوم القيامة» قيل: ظاهره أنه ظلمات على صاحبه حتى لا يهتدي يوم القيامة سبيلًا، حيث يسعى نور المؤمنين بين أيديهم وبأيمانهم.
وقد تكون الظلمات هنا: الشدائد، وبه فَسَّروا قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الأنعام: 63، أي: شدائدهما.
وقد تكون الظلمات هاهنا عبارة عن الأنكال والعقوبات عليه" إكمال المعلم (8/ 48).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: أن الظلم إنما كان من عدم نور الظالم وإبصاره الأشياء كما هي، فإنه لو نَظَرَ بعين بصيرته إلى أنه عن قليل يخرج عما ظلم فيه إلى مقر آخر يجده المظلوم فيه فردًا لا يُحال بينه وبينه؛ لكان قد امتنع أن يظلم صاحبه، فلما لم ينْتهِ عن ظلم أخيه كان ذلك على مثل ظُلْمة الليل المتصل من دنياه إلى أُخراه، وليس له هناك ما يجلو عن شيء من الظُّلمة، فكان متنقلًا من ظُلْمة إلى ظُلْمة، والنار مُظْلِمة سوداء.الإفصاح عن معاني الصحاح (4/ 174).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فإن الظلم» في الدنيا «ظلمات» على أصحابه في الدنيا، بمعنى أنه يُورث ظُلْمةً في القلب، فيصير صاحبه في ظلمات «يوم القيامة»، فلا يهتدي بسببه يومَ يسعى نور المؤمنين بين أيديهم، فالظُّلْمَة حسيَّة، وقيل: هي معنوية، شبَّهَ الضلال بالظُّلمة كما تُشَبَّه الهداية بالنور.التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 29).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وإنما ينشأ الظلم من ظُلْمةِ القلب، ولو استنار بنور الهدى لَنَظَر في العواقب، فإذا سعى المتقون بنورهم الذي اكتسبوه في الدنيا من التقوى، ظهرت ظُلمات الظالم فاكْتَنَفَتْهُ.كشف المشكل (2/ 559-560).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«ظلمات» على فاعله «يوم القيامة»؛ لأنه حسي، تحته أنواع مختلفة، ويلزم من اختلافها اختلاف مسبباتها من الشدائد التي يقاسيها الظالم ذلك اليوم، منها: هول الموقف، والحساب، والميزان، والمرور على الصراط، وأنواع عقابها في النار.فتح الإله في شرح المشكاة (6/324).
وقال القرطبي -رحمه الله-:
وقوله: «فإنَّ الظلم ظلمات يوم القيامة» ظاهره: أنَّ الظالم يُعاقَبُ يوم القيامة؛ بأن يكون في ظلمات متوالية، يوم يكون المؤمنون في نور يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، حين {يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقتَبِس مِن نُورِكُم}، فيقال لهم: {ارجِعُوا وَرَاءَكُم فَالتَمِسُوا نُورًا} الحديد: 13.
وقيل: إن معنى الظلمات هنا: الشدائد والأهوال التي يكونون فيها، كما فُسِّر بذلك قوله: {قُل مَن يُنَجِّيكُم مِن ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحرِ} الأنعام: 63، أي: من شدائدهما، وآفاتهما. والأول أظهر.المفهم(6/ 556).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
يكون على صاحبه والعياذ بالله ظلمات بحسب الظُّلْم الذي وقع منه؛ الكبير ظُلُماته كبيرة، والكثير ظُلُماته كثيرة، وكل شيء بحسَبِه، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} الأنبياء: 47.
وفي هذا دليلٌ على أن الظلم من كبائر الذنوب؛ لأنه لا وعيد إلا على كبيرة من كبائر الذنوب، فظُلْمُ العباد، وظُلم الخالق -عز وجل- رَبِّ العباد؛ كله من كبائر الذنوب.شرح رياض الصالحين (3/ 414-415).
قوله: «واتقوا الشّح»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
عَطَفَ الشّحَّ الذي هو نوع من أنواع الظُّلم على الظُّلم؛ ليُشعر أن الشّح أعظم أنواعه؛ لأنه من نتيجة حبِّ الدنيا وشهواتها.شرح المشكاة (5/ 1525).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وأَفْرَد الشّحَّ بالذكر تنبيهًا على أنه أعظم أنواع الظلم، فإنه مَنْشَأُ المفاسد العظيمة، ونتيجة محبة الدنيا الذميمة.مرقاة المفاتيح (6/ 169).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
الشُّحُّ أَبْلغُ من البخل، وإنما الشح بمنزلة الجنس، والبخل بمنزلة النوع.
وأكثر ما يقال في البخل: إنه من أفراد الأمور وخواص الأشياء، والشُّحُّ عامٌّ، فهو كالوصف اللازم للإنسان من قبل الطَّبع والجِبِلَّةِ، وقال بعضهم: البخل: أن يَضِنَّ بماله، والشحُّ: أن يبخل بماله ومعروفه.كشف المشكل (3/ 69-70).
قال المناوي -رحمه الله-:
والخطاب للمؤمنين ردعًا لهم من الوقوع فيما يؤديهم إلى دركات الهالكين من الكافرين الماضين، وتحريضًا على التوبة والمسارعة إلى نيل الدرجات مع الفائزين.التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 29-30).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
ومن السياق عُرف أن مقصود الحديث بالذات ذكْر الشُّح، وذِكْر الظلم توطئة وتمهيدًا لذكْرِه، وأبرزه في هذا التركيب إيذانًا بشدة قبح الشح، وأنه يُفضي بصاحبه إلى أفظع المفاسد؛ حيث جعله حاملًا على سفك الدماء الذي هو أعظم الأفعال الذميمة، وأخبث العواقب الوخيمة {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الحشر: 9.
قال بعض العارفين: الشح مسابقةُ قَدَرِ الله، ومَن سابَق قَدَر الله سبَق، ومُغَالَبة لله، ومَن غالَبَ الحقَّ غُلِبَ؛ وذلك لأن الحريص يريد أن ينال ما لم يُقدَّر له، فعقوبته في الدنيا الحرمان، وفي الآخرة الخسران. فيض القدير (1/ 135).
قوله: «فإن الشّح أهْلَكَ مَن كان قبلكم»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«فإنَّ الشحّ»: أتى بالظاهر فيه، وفيما قبله تقبيحًا له، وتنفيرًا منه، ونعْتًا بقبحه بالنداء عليه بالاسم الدال على ذلك.دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (4/ 469).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«أهْلَكَ مَن كان قبلكم» أي: من بني إسرائيل.دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (4/469).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فإنه أهْلَكَ مَن كان قبلكم» فَدَاؤُهُ قديمٌ، وبَلاؤُهُ عظيم.مرقاة المفاتيح (6/ 169-170).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«فإنَّ الشحَّ أهْلَكَ مَن كان قبلكم» هلاكهم: كونهم معذَّبين به، وهو يحتمل أن يكون في الدنيا، وأن يكون في الآخرة.شرح المصابيح (2/ 455).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
«أهْلَكَ مَن كان قبلكم» يحتمل أنَّ هذا هو الهلاك الذي أخبر عنهم في الدنيا، ويحتمل: أنه أراد هلاك الآخرة.إكمال المعلم (8/ 23).
وقال النووي -رحمه الله-:
قال القاضي: يحتمل: أن هذا الهلاك هو الهلاك الذي أخبر عنهم به في الدنيا؛ بأنهم سَفكوا دماءهم، ويحتمل أنه هلاك الآخرة، وهذا الثاني أظْهر، ويحتمل أنه أهلكهم في الدنيا والآخرة.شرح النووي على مسلم (16/134).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وذلك لأنهم تشَاحّوا على الملك والمال والرئاسة، واقتتلوا فهلكوا.كشف المشكل من حديث الصحيحين (3/ 69-70.
وقال الصنعاني رحمه الله-:
وقوله: «فإنه أهْلَكَ مَن كان قبلكم» يحتمل: أنه يريد الهلاك الدنيوي المفسَّر بما بعده في تمام الحديث، وهو قوله: «حَمَلَهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم»، وهذا هلاك دنيوي، والحامل لهم هو شُحُّهم على حفظ المال وجَمْعِه، وازديادِه وصيانته عن ذهابه في النفقات، فضَمُّوا إليه مال الغير؛ صيانة له، ولا يُدرَكُ مالُ الغير إلا بالحرب، والغَضَبِيَّة المفْضِية إلى القتل، واستحلال المحارم.
ويحتمل: أن يراد به الهلاك الأخروي، فإنه يتفرَّع عما اقترفوه من ارتكاب هذه المظالم، والظاهر حمله على الأمرين.سبل السلام (7/ 137).
قال موسى شاهين-رحمه الله-:
ومناسبة التحذير من الشح بعد التحذير من الظلم: أنَّ الشُّح نوع من الظلم، فهو من قبيل ذكر الخاص بعد العام؛ لمزيد عناية بالخاص، والشحُّ غالبًا دافع الظلم، فكلاهما يَنْشأ عن حبِّ الذات، وحبِّ السيطرة، وحبِّ التَّملك، والشحيح ظالم لنفسه، وظالم لغيره، ظالم لنفسه ومُجْهِدها ومُتْعِبها: بالإفراط في الحرص، ومُوْبِقها ومُهْلكها يوم القيامة، ظالم لنفسه: ببعْثِه الحقد والحسد والبغض في نفوس الآخرين، حتى يصبح منبوذًا في مجتمعه، وظالم لغيره: بمنعه حق الغير في ماله، وفي صحته وصنعته، ففي كل عضو من أعضاء الإنسان صدقة يومية، يعين أخاه، ويحمل له، أو يعمل ويتصدق، أو يصنع لأخرق.فتح المنعم شرح صحيح مسلم (10/ 49).
قوله: «حَمَلَهُم على أن سَفَكوا دماءهم، واسْتَحَلُّوا محارمهم»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
أي: حرَّضَهم على جمع المال، حتى قتلَ بعضُهم بعضًا لأخذه.
«واسْتَحَلُّوا محارمهم» أي: جعلوا المُحرَّمَ عليهم من وطءِ نسائهم حلالًا.شرح المصابيح (5/ 357).
وقال القرطبي -رحمه الله-:
هذا هو الهلاك الذي حَمَل عليه الشحُّ؛ لأنَّهم لما فعلوا ذلك أتْلَفوا دنياهم وأخراهم، وهذا كما قال في الحديث الآخر: «إياكم والشحَّ؛ فإنَّه أهْلَكَ من كان قبلكم، أَمَرَهُم بالبخل فبَخِلوا، وأَمَرَهُم بالقطيعة فقَطَعُوا، وأَمَرَهُم بالفُجور فَفَجَرُوا»، أي: حملهم على ذلك.المفهم (6/ 557).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
استحلال المحارم جامع لجميع أنواع الظلم من الكفر والمعاصي، وعَطْفه على سفْكِ الدماء مِن عَطْف العام على الخاص عكس الأول، وإنما كان الشحُّ سببَ سفك الدماء واستحلال المحارم؛ لأن في بذل الأموال ومواساة الإخوان التَّحابّ والتواصل، وفي الإمساك والشح التهاجر والتقاطع، وذلك يؤدي إلى التشاجر والتغادر، من سفك الدماء، واستباحة المحارم، فظهر منه أن السياق وارد في الشح، وذكر الظلم توطئة وتمهيدًا لذكره.شرح المشكاة (5/ 1526).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«واسْتَحَلُّوا محارمهم» أي: ما حُرّم عليهم من الشحوم فباعوه، واحْتَالوا لِوُلُوج السمك إلى ما حفروه يوم السبت؛ ليدخل في حَوْزِهم فيبيعوه بعد، فيُوقعهم في ذلك الشحّ.دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (4/ 469).
وقال المغربي -رحمه الله-:
والحديث فيه: دلالة على قُبح الشح وتحريمه، ويكون المحرَّم منه ما أدى إلى منع واجب شرعي أو عُرفي، وما زاد على ذلك فهو معدود من السخاء، وهو صفة كمال ممدوح، ما لم يُفْضِ إلى إسراف، كما قال الله تعالى في حق نبيه -صلى الله عليه وسلم-: {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} الإسراء: 29. وكما قيل:
كِلا طَرَفَي قَصْدِ الأُمور ذميمُ.
وخير الأمور أوسطها، وحاصل الأمر: أنَّ المال إذا كان موجودًا فينبغي أن يكون حال صاحبه الإيثار والسخاء واصطناع المعروف بالتي هي أحسن، ويكون الإنسان مع ذلك المال بما عند الله أوثق منه بما عنده، وإن كان مفقودًا يكون حال الإنسان القناعة والتكفف وقلة الطمع، فهو أحْمَدُ في العُقبى، وأرْوَحُ للقلب في الدنيا.البدر التمام شرح بلوغ المرام (10/ 266-267).
وقال موسى شاهين لاشين -رحمه الله-:
«حَمَلَهُم على أن سَفَكوا دماءهم، واسْتَحَلُّوا محارمهم»: هذه الجملة بيانية مستأنَفة استئنافًا بيانيًا أو تعليليًا، فهي في جواب سؤال نشأ عن الجملة الأولى، إنْ قدَّرْناه: كيف أهْلَكَهم؟ فهو بياني، وإن قدَّرْناه: لِمَ أهْلَكَهم؟ كان تعليليًا، والأول أوضح.
وضمير «حَمَلَهُم»، وفي «اسْتَحَلُّوا» غير الضمير في «دماءهم» و«محارمهم» أي: حمل بعضهم على سفك دماء بعض، واستَحلَّ بعضهم محارم بعض.
ويحتمل المجاز: فسَفْك الإنسان لِدَمِ أخيه كأنه سَفْكٌ لِدَمِ نفسه، واستحلاله لمحارم أخيه كأنه استحلال لمحارم نفسه.فتح المنعم شرح صحيح مسلم (10/ 49).
وقال محمود السبكي-رحمه الله-:
وفي الحديث: التحذير من البخل، وعدم إنفاق المال في وجوه الخير.
ويؤخذ منه: الحث على السخاء، وهو أن يؤدي الشخص ما أوجب الله عليه من الزكاة والنفقات الواجبة، ومن الواجب أيضًا: واجب المروءة والعادة الزائدة عما ذُكر، فالسخيُّ الذي لا يمنع واجب الشرع، ولا واجب المروءة، فإنْ مَنَعَ واحدًا منها فهو البخيل، لكن الذي يمنع واجب الشرع أبخل.
وسبب البخل: حب المال، وحب الشهوات التي لا يُتوصل إليها إلا بالمال، ودواؤه: القناعة باليسير، والصبر على قضاء الله تعالى، والإكثار من ذكر الموت، ولا سيما موت الأقران، والنظر في تعبهم في جمع المال، وتركهم إياه، وعدم انتفاعهم إلا بما قدمته أيديهم.المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (10/ 17).