«مَن لم يجدْ نعلينِ فليلبسْ خُفَّيْنِ، ومَن لم يجدْ إزارًا فليلبسْ سراويلَ».
رواه مسلم برقم: (1179)، من حديث جابر -رضي الله عنه-.
ورواه البخاري برقم: (5804)، ومسلم برقم: (1178)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- ولفظه: «ومن لم يجد نَعْلَيْنِ فلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ».
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«نَعْلَين»:
النَّعْل: مؤنثة، وهي التي تُلبس في المشي، تُسمَّى الآن: تاسومة. النهاية، لابن الأثير (5/ 83).
وقال الفيروز آبادي -رحمه الله-:
النَّعْلُ: ما وَقَيْتَ به القَدَمَ من الأرضِ، كالنَّعْلَةِ مُؤَنَّثَةً. القاموس المحيط، (ص: 1063).
«خُفَّين»:
الخُفُّ: واحد الخِفافِ التي تُلْبَسُ، والخُفُّ في الأرض: أغلظُ من النعل. الصحاح، للجوهري (4/ 1353).
والخف مَا يستر الْقدَم مَعَ الكعب مِن شَعْرٍ أَو لِبْدٍ أَو جلدٍ رَقِيق وَنَحْوهَا. دستور العلماء، لنكري (2/ 62).
شرح الحديث
قوله: «مَن لم يجدْ نعلينِ فليلبسْ خُفَّيْنِ»:
قال الرملي الشافعي -رحمه الله-:
«مَن لم يجدْ نعلينِ فليلبسْ خُفَّيْنِ» المراد بعدم وِجْدان الإزار أو النعلين المذكور في الحديث: ألا يكون في ملكه، ولا يقدر على تحصيله بشراء أو استئجار بعوضٍ مثله، أو استعارة، بخلاف الهبة، فلا يلزم قبولها؛ لعظم المنَّة فيها. غاية البيان (ص: 177).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
اختلفوا فيمن لم يجد نعلين هل يلبس الخفين ولا يقطعهما، فذهب عطاء بن أبي رباح وسعيد بن سالم القداح وطائفة من أهل العلم غيرهما إلى أنَّ مَن لم يجد نعلين لَبِسَ الخفين، ولم يقطعهما، وإلى هذا ذهب أحمد بن حنبل، قال عطاء: وفي قطعهما فساد.
وقال أكثر أهل العلم: إذا لم يجد المحْرِم نعلين لَبِسَ الخفين وقطعهما أسفل من الكعبين، وممن قال بهذا مالك بن أنس والشافعي والثوري وأبو حنيفة وإسحاق وأبو ثور، وجماعة من التابعين، وقال الشافعي: ابن عمر قد زاد على ابن عباس شيئًا نقصه ابن عباس، وحفظه ابن عمر؛ وذلك قوله: «وليقطعهما أسفل من الكعبين»، والمصير إلى رواية ابن عمر أَولى، وروى ابن وهب عن مالك والليث أنَّ مَن لبس خفين مقطوعين أو غير مقطوعين إذا كان واجدًا للنعلين فعليه الفدية، وقال أبو حنيفة: لا فدية عليه إذا لبسهما مقطوعين وهو واجد. التمهيد (15/ 114).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
الأفضل أنْ يُحْرِم في نعلين إنْ تيسر، والنعل هي التي يقال لها: التاسومة، فإن لم يجد نعلين لبس خفين، وليس عليه أنْ يقطعهما دون الكعبين؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بالقطع أولًا، ثم رخص بعد ذلك في عرفات في لبس السراويل لمن لم يجد إزارًا، ورخص في لبس الخفين لمن لم يجد نعلين، وإنما رخص في المقطوع أولًا؛ لأنه يصير بالقطع كالنعلين؛ ولهذا كان الصحيح أنه يجوز أن يلبس ما دون الكعبين، مثل الخف المكعب والجمجم (حذاء مصنوع من نسيج قطني ينتعله الدراويش) والْمَداس، ونحو ذلك، سواء كان واجدًا للنعلين، أو فاقدًا لهما، وإذا لم يجد نعلين، ولا ما يقوم مقامهما، مثل الجمجم والمداس ونحو ذلك فله أنْ يلبس الخف، ولا يقطعه، وكذلك إذا لم يجد إزارًا فإنه يلبس السراويل ولا يفتقه، هذا أصح قولي العلماء؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- رخص في البدل في عرفات، كما رواه ابن عمر. مجموع الفتاوى (26/ 109-110).
وقال النووي -رحمه الله-:
اختلف العلماء في هذين الحديثين (حديث جابر وابن عمر)، فقال أحمد: يجوز لبس الخفين بحالهما، ولا يجب قطعهما؛ لحديث ابن عباس وجابر، وكان أصحابه يزعمون نسخ حديث ابن عمر المصرِّح بقطعهما، وزعموا أن قطعهما إضاعة مال، وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء: لا يجوز لبسهما إلا بعد قطعهما أسفل من الكعبين؛ لحديث ابن عمر، قالوا: وحديث ابن عباس وجابر مطلقان، فيجب حملهما على المقطوعين؛ لحديث ابن عمر، فإنَّ المطلق يُحمل على المقيد، والزيادة من الثقة مقبولة، وقولهم: إنه إضاعة مال، ليس بصحيح؛ لأن الإضاعة إنما تكون فيما نُهي عنه، وأما ما ورد الشرع به فليس بإضاعة، بل حق يجب الإذعان له، والله أعلم.
ثم اختلف العلماء في لابس الخفين؛ لعدم النعلين، هل عليه فدية أم لا؟ فقال مالك والشافعي ومن وافقهما: لا شيء عليه؛ لأنه لو وجبت فدية لبيَّنها -صلى الله عليه وسلم-، وقال أبو حنيفة وأصحابه: عليه الفدية، كما إذا احتاج إلى حلق الرأس يحلقه ويفدي، والله أعلم. المنهاج (8/ 74-75).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
ولم يَذْكُرْ (أي حديث جابر وابن عباس) قطعًا، وبه قال عطاء وأحمد، فأما عطاء فوَهِم في الفتوى، وأما أحمد فعلى صراط مستقيم، وهذه القولة لا أراها صحيحة، فإنَّ حَمْلَ المطلق على المقيّد أصل أحمد، وهذا أبو حنيفة الذي لا يراه، يقول ها هنا: لا بد من قطع الخفين، والدليل يقتضيه. عارضة الأحوذي (3/45).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
قال ابن حبيب: إنَّما أرخص في القطع لقلة النعال، فأما اليوم فلا رخصة في ذلك، ووافقه ابن الماجشون. التوضيح (11/ 125).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
إذا لبس الخفين لعدم النعلين لم يلزمه قطعهما في المشهور عن أحمد...، والأَولى قطعهما؛ عملًا بالحديث الصحيح، وخروجًا من الخلاف، وأخذًا بالاحتياط. المغني (3/ 275).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
ما ذهب إليه الجمهور (من القطع) هو الأرجح عندي؛ لوضوح حُجَّته، والحاصل: أنَّ الراجح حَمْلُ حديث ابن عباس على حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، وهو أنَّ مَن لَمْ يجد نعلين لبس الخفّين، ولكن يقطعهما حتى يكونا أسفل الكعبين، فبهذا يُجمَع بين الحديثين، وهو الطريق الذي يحصل به العمل بالحديثين، فيكون أولى من إبطال أحدهما بدعوى النسخ بلا بيّنة واضحة، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب. البحر المحيط الثجاج (22/ 69).
قوله: «ومَن لم يجدْ إزارًا فليلبسْ سراويلَ»:
قال ابن الجوزي -رحمه الله-:
الإشارة إلى المحْرِم، فإذا لم يجد الإزار جاز أنْ يلبس السراويل، ولا تجب عليه فدية، بظاهر هذا الحديث، هو قول أحمد والشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك: إنْ لَبِسَ السراويل وجبت عليه الفدية.
وقد اختلف أصحاب أبي حنيفة هل يجوز له لبسه؟ فقال الطحاوي: لا يجوز لبسه حتى يفتقه، وقال الرازي: يجوز ويفتدي، وهو قول أصحاب مالك، وهم يقولون لنا: نحن نقول: بجواز اللبس، فما الدليل على نفي الكفارة؟
فالجواب: إنَّ إِذْن الشرع المطلق مؤذِن بنفي التبعات، فمدَّعي التبعة يفتقر إلى الدليل، فإنْ قالوا: يفتقه، فقد زال عنه اسم السراويل. كشف المشكل (2/ 376-377).
وقال الباجي -رحمه الله-:
سُئل مالك عما ذُكر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ومن لم يجد إزارًا فليلبس سراويل» فقال: لم أسمع بهذا، ولا أرى أن يلبس المحرم سراويل؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن لبس السراويلات فيما نهى عنه من لبس الثياب التي لا ينبغي للمحرم أن يلبسها، ولم يستثن فيها كما استثنى في الخفين، وهذا كما قال في السراويل، وعلى ما رأى أنه ليس للمحرم أن يلبسها على حسب ما تُلبس عليه كما ليس له أن يلبس الخفين غير مقطوعين إذا لم يجد النعلين؛ لأن السراويل إذا قُطعت لم يقع السّتر بها، فإذا لُبست على وجهها كانت بمنزلة لبس الخفين غير مقطوعين، فيحتمل أن يريد بقوله: إنه لا يلبسها سراويل على وجهها؛ وليصرفها عن جهتها إلى ما يستباح لبسه، وهو الأظهر من قوله: ويحتمل أن يريد به لا يلبسها دون فدية، كما يلبس الخفين المقطوعين، وقوله: ولم أسمع بهذا، يحتمل أن يريد به أنه لم يسمع به على ما يريد المخالف من أنه لبس السراويل، من غير تعيين دون فدية تجب عليه. المنتقى شرح الموطأ (2/ 196).
وقال ابن حزم -رحمه الله-:
حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يحل خلافه، فليلبس السراويل كما هي ولا شيء في ذلك؛ وأما الخُفَّان فحديث ابن عمر فيه زيادة القطع، حتى يكونا أسفل من الكعبين على حديث ابن عباس، فلا يحل خلافه، ولا ترك الزيادة. المحلى بالآثار (5/ 66).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
فيه: أنَّه لا يجوز لبس السراويل مع وجود الإزار، وبه قال الشافعي والأكثرون، وقال مالك: لا يجوز لبس السراويل مطلقًا، والحديث يمنعه. الأزهار مخطوط لوح (258).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)