«مَن قال: سُبحانَ اللهِ وبحمدِهِ، سبحانَكَ اللَّهمَّ وبحمدِك، لا إلهَ إلَّا أنت، أستغفرُكَ وأتوبُ إليك، فقالها في مجْلِسِ ذِكْرٍ كانت كالطابعِ يُطبَعُ عليه، ومَن قالها في مجْلِسِ لَغْوٍ كانت كَفَّارَتَهُ».
رواه النسائي في الكبرى برقم (10185)، والحاكم في المستدرك برقم (1970)، والطبراني في الكبير برقم (1586)، من حديث جُبَيْر بن مُطْعِم -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (6430)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (81).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«سبحان الله»:
معناه: سَبَّحتُ الله ونزَّهتُه عن كل عيب. غريب الحديث، للخطابي (1/ 140).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
وأصل التسبيح: التنزيه والتقديس والتبرئة من النقائص. النهاية (2/ 331).
قال الزجاج: لا اختلاف بين أهل اللغة أن التسبيح هو التنزيه لله -عز وجل- عن كل سوء.كشف المشكل، لابن الجوزي (1/ 370).
«وبحمده»:
أي: وبحمده سبَّحْتُ. المجموع المغيث، للمديني (1/ 212).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
معناه: اجعل تسبيح الله مختلطًا وملتبسًا بحمده. النهاية (1/ 177).
«أستغفرك»:
أي: أطلب المغفرة لما مضى. مرقاة المفاتيح (2/ 674).
والغفران والمغفرة أصله: الستر والتغطية، أي: استر ذنوبنا برحمتك وعفوك، ونستغفرك: نطلب منك ذلك. مشارق الأنوار، للقاضي عياض (2/ 138).
واستغفرتُ الله: سألته المغفرة...، وأصل الغَفْر: الستر. المصباح المنير، للفيومي (2/ 449).
«وأتوب إليك»:
أي: أرجع إلى طاعتك وأُنيب إليك، والتائب الراجع إلى طاعة ربه بعد معصيته وخطيئته. الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي، للأزهري (ص: 64).
«كالطَّابع»:
أي: كالخاتم يختم به. شمس العلوم، للحميري (7/ 4058).
يُقال: طَبَعْتُ الكتاب: إذا خَتَمْتُه، والخاتم: الطابع. جمهرة اللغة، لابن دريد (1/ 357).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
الطابع بالفتح: الخاتم النهاية (3/ 112).
«لَغْو»:
اللغو في كلام العربي على وجهين:
أحدهما: فضول الكلام وباطله الذي يجري على غير عقد، ومنه: لغو اليمين..
والوجه الآخر: من اللغو ما كان فيه مأثم ورفث وفحش. الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي، للأزهري (ص: 44).
وقال الجوهري -رحمه الله-:
يُقال: لَغا يَلْغو لَغْوًا أي: قال باطلًا. الصحاح(6/ 2483).
«كفَّارته»:
يُقال: كَفَرْتُ الشيء: إذا غَطَّيته وسترته، كأنها تغطي الذنوب وتسترها. النظم المستعذب، للركبي (2/ 183).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
الكفَّارة: عبارة عن الفعلة والخصلة التي من شأنها أنْ تُكفِّر الخطيئة، أي: تسترها وتمحوها، وهي فعَّالة للمبالغة. الكاشف عن حقائق السنن، الطيبي (3/ 888).
شرح الحديث
قوله: «من قال: سبحان الله وبحمده»:
قال ابن العربي -رحمه الله-:
قوله: «من قال: سبحان الله وبحمده» أما «سبحان الله» فهو اسم وضع موضع المصدر، وقيل: هو مصدر جاء على غير الفعل، ومعناه: تنزيه الله تعالى، كأنه قال: أُنَزِّه الله تنزيهًا وأُسَبِّحه تسبيحًا.
وقوله: «بحمده» لأن الحمد لا ينبغي إلا لله على الحقيقة، وقيل: إنه تفعيل، من سبَّح يسبِّح تسبيحًا، وهو مصدر. المسالك في شرح موطأ مالك (3/ 427).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
«سبحان الله وبحمده» الواو عاطفة لكلام مقدر تقديره: وبحمده سبَّحْتُه. كشف المشكل (3/ 477).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «سبحان الله وبحمده» هذا الكلام على اختصاره جملتان؛ إحداهما: جملة «سبحان الله» فإنها واقعة موقع المصدر، والمصدر يدل على صدره، فكأنه قال: سبَّحتُ الله التسبيح الكثير، أو التسبيح كُله، على قول من قال: إن سبحان الله: اسم عَلَم للتسبيح، «وبحمده» متعلق بمحذوف تقديره: وأُثني عليه بحمده؛ أي: بذكر صفات كماله وجلاله، فهذه جملة ثانية غير الجملة الأولى. المفهم (7/ 52- 53).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«سبحان الله وبحمده» أي: بحمده أحمده وأسبحه. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 161).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
والتحميد مقرون بالتسبيح وتابع له...، وفي الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه سئل أي الكلام أفضل؟ قال: «ما اصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده»... فإنا قد ذكرنا أن التسبيح فيه نفي السوء والنقائص المتضمن إثبات المحاسن والكمال، والحمد إنما يكون على المحاسن.دقائق التفسير (2/ 365- 366).
وقال ابن تيمية -رحمه الله- أيضًا:
وكذلك التسبيح مع التحميد «سبحان الله وبحمده» {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} طه:130؛ لأن التسبيح يتضمن نفي النقائص والعيوب، والتحميد يتضمن إثبات صفات الكمال التي يُحمد عليها. قاعدة حسنة في الباقيات الصالحات (ص: 31).
وقال ابن تيمية -رحمه الله- أيضًا:
وقيل: «سبحان الله وبحمده» سبَّحْناه: أي: هو المحمود على ذلك، كما تقول: فعلت هذا بحمد الله، وصلينا بحمد الله، أي: بفضله وإحسانه الذي يستحق الحمد عليه، وهو يرجع إلى الأول، كأنه قال: تحمَّدنا لله، فإنه المستحق لأن نحمده على ذلك، وإذا كان ذلك بكونه المحمود على ذلك، فهو المحمود على ذلك؛ حيث كان هو الذي أمر بذلك وشرعه، فإذا سبّحنا سبّحنا بحمده. قاعدة حسنة في الباقيات الصالحات (ص: 51).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«سبحان الله» تنزيه لذاته عما يليق بجلاله، وتقديس لصفاته من النقائص، فيندرج فيه معنى قوله: «لا إله إلا الله»، وقوله: «وبحمده» صريح في معنى «والحمد لله»؛ لأن الإضافة فيه بمعنى اللام في الحمد، ومستلزم لمعنى «والله أكبر»؛ لأنه إذا كان كل الفضل والإفضال لله ومن الله، وليس من غيره، فلا يكون أحد أكبر منه. الكاشف عن حقائق السنن (6/1821- 1822).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ما معنى «سبحان الله وبحمده»؟ المعنى: أنك تنزِّه الله تعالى عن كل عيب ونقص، وأنه الكامل من كل وجه -جل وعلا- مقرونًا هذا التسبيح بالحمد الدال على كمال إفضاله وإحسانه إلى خلقه -جل وعلا-، وتمام حكمته وعِلمه وغير ذلك من كمالاته. شرح رياض الصالحين (5/ 487).
قوله: «سبحانك اللهم وبحمدك»:
قال الخطابي -رحمه الله-:
وأخبرني الحسن بن خلاد قال: سألت الزجَّاج عن قولهم: "سبحانك اللهم وبحمدك" والعِلة في ظهور الواو؟ فقال: سألت أبا العباس محمد بن يزيد عما سألتني عنه فقال: سألت أبا عثمان المازني عما سألتني عنه فقال: المعنى سبَّحْتُك اللهم بجميع آلائك وبحمدك سبَّحْتُك، قال: ومعنى سبحانك: سبَّحْتُك. غريب الحديث (1/ 140- 141).
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله في الحديث: «سبحانك» قال أهل العربية: هو نصب على المصدر، سبحتُ الله تسبيحًا وسبحانًا، ومعناه: براءة وتنزيهًا لك، ويقال: إن التسبيح مأخوذ من قولهم: سبح الرجل في الأرض إذا ذهب فيها، ومنه قيل للفَرس الجواد: سابح، قال الله: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} يس: 40، فكان التسبيح على هذا المعنى بمعنى التعجب، من المبالغة في الجلال والعظمة والبعد عن النقائص. إكمال المعلم (2/ 399).
وقال ابن قرقول -رحمه الله-:
قوله: «سبحانك اللهم وبحمدك» قيل: وبحمدك أبتدئ، وقيل: وبحمدك سبحتك، أي: بموجب حمدك، وهو هداني لذلك كان تسبيحي، والحمد: الرضا، حمدت الشيء: رضيته، ومنه: «الحمد لله على كل حال»، و«الحمد لله الذي لا يحمد على المكروه سواه» وقد يكون بمعنى الشكر، لكنه أعم من الشكر. مطالع الأنوار على صحاح الآثار (2/ 300).
قال النووي -رحمه الله-:
قوله: «وبحمدك» أي: وبحمدك سبَّحتك، ومعناه: بتوفيقك لي وهدايتك وفضلك عليَّ سبحتك لا بحولي وقوتي، ففيه شكر الله تعالى على هذه النعمة، والاعتراف بها، والتفويض إلى الله تعالى، وأن كل الأفعال له، والله أعلم. شرح مسلم (4/ 202).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«سبحانك اللهم وبحمدك» ولعله مقتبس من قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} الطور: 48، و«اللهم» معترض؛ لأن قوله: «وبحمدك» متصل بقوله: «سبحانك» إما بالعطف أي: أسبح وأحمد، أو بالحال أي: أسبح حامدًا لك. مرقاة المفاتيح (4/ 1689).
قوله: «لا إله إلا أنت»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «لا إله إلا أنت» إثبات للإلهية المطلقة لله تعالى على سبيل الحصر، بعد إثبات الملك له. الكاشف عن حقائق السنن (3/ 990).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«لا إله إلَّا أنت» أي: ليس لنا معبود نتذلل له ونتضرع إليه في غفران ذنوبنا إلا أنت. شرح سنن أبي داود (4/ 400).
وقال ابن رسلان -رحمه الله- أيضًا:
«لا إله إلا أنت» نفي للشريك وكل ما سواه. شرح سنن أبي داود (7/ 248).
وقال ابن رسلان -رحمه الله- أيضًا:
«لا إله إلا أنت» أي: لا معبود (بحق) غيرك. شرح سنن أبي داود (7/ 299).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«لا إله إلا أنت» إقرار بالألوهية واعتراف بالربوبية وهو كمال العبودية. مرقاة المفاتيح (4/ 1674).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- أيضًا:
«لا إله إلا أنت»: أي: أنت المنزّه عن كل نقصان، وأنت المحمود بكل لسان. مرقاة المفاتيح (4/ 1700).
قوله: «أستغفرك»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
السين في «أستغفرك» للطلب، فكأنه يقول: أطلب مغفرتك، وليس المراد الإخبار بأنه مُستغفر. شرح سنن أبي داود (4/ 391).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«أستغفرك» أي: من كل ذنب. مرقاة المفاتيح (4/ 1700).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«أستغفرك» أي: أسألك غفر الذنوب، ومنها: ما اكتسب في ذلك، وحذف المعمول للتعميم. دليل الفالحين (5/ 307).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«أستغفرك» أطلب مغفرتك، والمغفرة: ستر الذَّنب والتجاوز عنه. فتح ذي الجلال والإكرام (2/ 38).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قدَّم تنزيه الرّب تعالى عن كل نقص، ثم الحمد والشهادة بالتوحيد ونفي الشريك، ثم طلب الاستغفار؛ تقديمًا للوسائل على المطالب. التنوير شرح الجامع الصغير (8/ 148).
قوله: «وأتوب إليك»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وأتوب» أي: أرجع عن فعل الذنب فيما بقي متوجهًا «إليك» بالتوفيق والثبات إلى الممات. مرقاة المفاتيح (2/ 674).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- أيضًا:
«وأتوب إليك» أي: من كل عيب، والمعنى: أسألك أن تغفر لي وأن تتوب علي. مرقاة المفاتيح (4/ 1700).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«وأتوب إليك» أرجع إليك من معصيتك إلى طاعتك، وهي بمعنى: أسألك التوبة، فهي خبر بمعنى الدعاء. فتح ذي الجلال والإكرام (2/ 38).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«وأتوب إليك» أي: أرجع إليك من جمع المعاصي.
فإن قيل: كيف يجوز أن يقول: «وأتوب إليك» وهو متلبس بالذنوب، فيكون كذبًا عليه؟
أجيب: بأن هذا ليس مجرد إخبار، بل هو في معنى الطلب، كأنه قال: اللهم تب علي، فأتوب، فلا يقال: إنه يكون كذبًا، فكيف يقوله من تلبس بالذنب؟
والحاصل أنه جاء النص والتعليم النبوي بأن يقوله كل من عمل صالحًا أو سوءًا، فيكون للأول طابعًا، وللثاني محَّاءً، فلا اعتراض على الشارع، بل الواجب أن نتبع السُّنة، والله تعالى أعلم بالصواب. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (15/ 366).
قوله: «فقالها في مجلس ذكر كانت كالطابع يطبع عليه»:
قال السندي -رحمه الله-:
والمراد أنه يكون مُثبتًا لذلك الخير، رافعًا إلى درجة القبول آمِنًا له عن حضيض الرِّدِّ .حاشية السندي على سنن النسائي(3/٧١)
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
التسبيح والتحميد والتوحيد والاستغفار من قالها في مجلس؛ إن كان مجلس لغطٍ كانت كفارة له، وإن كان مجلس ذكرٍ كانت كالطابع له. الحسنة والسيئة (ص: 157).
قوله: «ومن قالها في مجلس لغو كانت كفارته»:
قال السندي -رحمه الله-:
أي: مغفرة للذنب الحاصل. فيستحب للإنسان ختم المجلس به أي مجلس كان والله تعالى أعلم.حاشية السندي على سنن النسائي(3/٧١)
قال الصنعاني -رحمه الله-:
فبهذه الكلمات تكفَّر السيئات الواقعة في المجلس، ويُختم بها فعل الخير الواقع فيه؛ فليداوم عليها كُل من فارق مجلسًا جلس فيه. التنوير شرح الجامع الصغير(8/ 148).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
وظاهره أنه يغفر له كُل شيء كان فيه حتى الغيبة والنميمة، ويحتمل أنه أريد غير حقوق المخلوقين؛ فإنه قد عِلم خروجها من إطلاقات الغفران، وغير الكبائر، فإنها لا تكفَّر إلا بالتوبة، إلا أن يصحب هذا القول ندم وعزم على عدم العود فهو توبة. التنوير شرح الجامع الصغير (8/ 506).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وقلّمَا يجلس الإنسان مجلسًا إلا ويحصل له فيه شيءٌ من اللغط أو من اللغو أو من ضياع الوقت، فيحسن أن يقول ذلك كلما قام من مجلسه سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك؛ حتى يكون كفارة للمجلس.شرح رياض الصالحين(4/٣٦٠).
وقال المناوي -رحمه الله-:
وهذه تُسمّى كفارة المجلس أي: أنها مَاحية لما يقع فيه من اللغطِ وكان -عليه الصلاة والسلام- يقولها تعليمًا للأمّة وتشريعًا وحاشا مجلسه مِن وقوع اللغَط.فيض القدير(5/١١٨)
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
فإذا قال الإنسان هذا الذِّكر في أثناء المجلس أو في أَوله أو في آخره حصل بذلك السُّنة التي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعلها.شرح رياض الصالحين(4/٣٦٠)
وقال ابن علان -رحمه الله-:
وينبغي أن يكون المتكلم بذلك قاصدًا بقلبه ما دلت عليه الجملتان من سؤال غفران الذنوب والتوبة إلى الله تعالى من ذلك، وإلا كان كاذبًا، فكان حقيقًا بالمقت في الوقت. دليل الفالحين (5/ 307).