«مَن قال حينَ يُمْسِي ثلاثَ مرَّاتٍ: أعوذُ بكلماتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ، لم يَضُرَّهُ حُمَةٌ تلك اللَّيلةَ» قال سُهَيْلٌ: فكان أَهْلُنَا تَعَلَّمُوهَا فكانوا يَقُولُونَهَا كلَّ ليلةٍ، فَلُدِغَتْ جاريةٌ منهم فلم تَجِدْ لها وَجَعًا.
رواه أحمد برقم: (7898)، والترمذي برقم (3604) واللفظ له، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (6427)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (652).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«أَعُوذُ»:
أي: ألجأ إلى الله. العين، للفراهيدي (2/ 229).
يُقال: عُذت بالشيء أعوذ عوذًا وعِياذًا: إذا لجَأْتُ إليه. جمهرة اللغة، ابن دريد (2/ 698).
«حُمَة»:
«الحُمَةُ»، كثُبَةٍ: السُّم، أو الإبرة يضرب بها الزنبور والحية ونحو ذلك، أو يلدغ بها. القاموس المحيط، للفيروز آبادي(ص: 1276).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
«الحُمَة» بضم الحاء المهملة وتخفيف الميم هو السُّم، وقيل: لدغة كل ذي سُم، وقيل غير ذلك. فتح القريب المجيب (4/ 327).
شرح الحديث
قوله: «من قال حين يمسي ثلاث مرات»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
ورواه الطبراني في الأوسط بلفظ: «من قال حين يصبح ويمسي»، وفي رواية: «حين يمسي» فقط كالجماعة. مرقاة المفاتيح (4/ 1682).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
في ليله ونهاره في أي منزلٍ وفي أي مكان، «أَعوذ بكلمات الله التَّامات من شرِّ ما خلق»، يكررها ثلاثًا أو أكثر دائمًا: صباحًا ومساء. مجموع الفتاوى(28/٥٢).
وقال -رحمه الله-:
ومما يحصل للمسلم به -أيضًا- الأمن والعافية والطمأنينة والسلامة من الشرِّ كله أن يستعيذ بكلمات الله التَّامات مِن شر ما خلق ثلاث مرات صباحًا ومساءً: «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق».مجموع الفتاوى(5/٣٠٩).
قوله: «أعوذ بكلمات الله التامات»:
قال المباركفوري -رحمه الله-:
«أعوذ» أي: أعتصم. مرعاة المفاتيح (8/ 171).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «أعوذ» وأتحصن وأتحفظ «بكلمات الله التامات» أي: المنزهة من صفات النقص وسماته. مرشد ذوي الحجا والحاجة(20/ 393).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
فأما قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أَعوذ بكلمات الله التّامات» فإن كلمته القرآن، وصفه بالتمام تنزيهًا له عن أن يلحقه نقص أو عيب كما يوجد ذلك في كلام الآدميين. غريب الحديث (1/ 252).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقوله: «أعوذ بكلمات الله التامات» قيل: معناه: الكاملة التي لا يدخلها نقص ولا عيب كما يدخل كلام البشر، وقيل: التامة: النافعة الشافية، وقيل: الكلمات هنا: القرآن. إكمال المعلم (8/ 206).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
«أعوذ» أعتصم «بكلمات الله» أي: صفاته القائمة بذاته التي بها ظهر الوجود بعد العدم، وبها يقول للشيء: كن فيكون، وقيل: هي العلم؛ لأنه أعم الصفات، وقيل: هي القرآن. شرح الموطأ (4/ 617).
وقال الحكيم الترمذي -رحمه الله-:
كلمة الله التامة، وكلمات الله التامات يؤديان إلى معنى واحد، فمن قال: كلمة الله التامة، فإنما أراد به الجملة، ومِن قال: كلمات الله التّامات، فإنما أراد الكلمة الواحدة التي تفرقت في الأمور وفي الأوقات فصارت كلمات، ومرجعهن إلى كلمة واحدة، فكلمته التامة هي قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} يس: 82. نوادر الأصول (1/ 61).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
«كلمات الله» جميع ما أنزله على أنبيائه؛ لأن الجمع المضاف إلى المعارف يقتضي العموم، وتمامها: خلوها عن التناقض والاختلاف، وعدم تطرق الخلل إليها، وتعلق الريب بأذيالها. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 421).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
قوله: «أعوذ بكلمات الله التامة» وصفها بالتمام على الإطلاق، يحتمل -والله أعلم- أن يريد بذلك أنه لا يدخلها نقص وإن كانت كلمات غيره يدخلها النقص.
ويحتمل أن يريد بذلك المفاضلة، يقال: فلان تام وكامل، أي: فاضل.
ويحتمل أن يريد به الثابت حكمها، قال الله -عز وجل-: {َوتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى} الأعراف: 137. المسالك في شرح موطأ مالك (7/ 491).
قال السندي -رحمه الله-:
قوله: «التَّامات» الوافيات في أداء معانيها، أو الكاملات التي لا نقص في شيء منها ولا عيب، أو النافعات للمتعوِّذ بها، الحافظات له من الآفات، قيل: هي علمه تعالى، أو كلامه، أو القرآن، وقيل: أراد بها أسماءه الحسنى، وكُتبه المنزَّلة؛ لخلوها من النواقص والعوارض، بخلاف كلمات الناس. حاشيته على مسند أحمد (2/516).
وقال أبو موسى المديني -رحمه الله-:
في الحديث: «أعوذ بكلمات الله التامات» إنما وصف كلامه -تبارك وتعالى- بالتمام؛ لأنه لا يجوز أن يكون في شيء من كلامه نقص أو عيب كما يكون في كلام الآدميين.
ووجه آخر: وهو أن كل كلمة كانت على حرفين فهي عند العرب ناقصة، والتامة: ما كانت في الأصل على ثلاثة أحرف، وقد أخبر الله -سبحانه وتعالى- أنه: {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} يس: 82، وكلمة {كُنْ} ناقصة في الهجاء، فنفى -صلى الله عليه وسلم- النقص عن كلمات الله تعالى قطعًا للأوهام، وإعلامًا أن حكم كلامه خلاف كلام الآدميين، وأنَّ نقص هجاؤه في الكتابة لا يسلبه صفة التمام والكمال.
وقيل: معنى التمام ها هنا: أنها تنفع المتعوِّذ بها وتشفيه وتحفظه من الآفات وتكفيه. المجموع المغيث (1/ 241).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قيل: معناه: الكاملات اللاتي لا يلحقها نقص ولا عيب كما يلحق كلام البشر، وقيل: معناه: الشافية الكافية، وقيل: الكلمات هنا هي: القرآن؛ فإن الله تعالى قد أخبر عنه بأنه هدى وشفاء، وهذا الأمر على جهة الإرشاد إلى ما يدفع به الأذى؛ ولما كان ذلك استعاذة بصفات الله تعالى، والتجاء إليه، كان ذلك من باب المندوب إليه، المرغَّب فيه، وعلى هذا فحق المتعوذ بالله تعالى وبأسمائه وصفاته أن يَصْدُق الله في التجائه إليه، ويتوكل في ذلك عليه، ويُحضر ذلك في قلبه، فمتى فعل ذلك وصل إلى منتهى طلبه، ومغفرة ذنبه. المفهم (7/ 36).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
كلمات الله تعالى نوعان: كلمات كونية، وكلمات دينية، فكلماته الكونية هي التي استعاذ بها النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: «أعوذ بكلمات الله التَّامات التي لا يجاوزهن بَرٌّ ولا فاجر» وقال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} يس: 82، وقال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} الأنعام: 115، والكون كُله داخل تحت هذه الكلمات وسائر الخوارق الكشفية التأثيرية.
والنوع الثاني: الكلمات الدينية وهي القرآن وشرع الله الذي بَعَث به رسوله، وهي: أمره ونهيه وخبره، وحظُّ العبد منها العلم بها والعمل، والأمر بما أمر الله به، كما أن حظَّ العبد عمومًا وخصوصًا من الأول العلم بالكونيات والتأثير فيها، أي: بموجبها.
فالأُولى قدرية كونية، والثانية شرعية دينية، وكشف الأولى العلم بالحوادث الكونية، وكشف الثانية العلم بالمأمورات الشرعية، وقدرة الأولى التأثير في الكونيات، وقدرة الثانية التأثير في الشرعيات، وكما أن الأولى تنقسم إلى تأثير في نفسه، كمشيه على الماء وطيرانه في الهواء، وجلوسه على النار، وإلى تأثير في غيره بإسقام وإصحاح، وإهلاك وإغناء وإفقار، فكذلك الثانية تنقسم إلى تأثير في نفسه بطاعته لله ورسوله، والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله باطنًا وظاهرًا، وإلى تأثير في غيره بأن يأمر بطاعة الله ورسوله فيُطاع في ذلك طاعة شرعية، بحيث تَقبل النفوس ما يأمرها به من طاعة الله ورسوله في الكلمات الدينيات، كما قَبِلَتْ من الأول ما أراد تكوينه فيها بالكلمات الكونيات. مجموعة الرسائل والمسائل (5/ 8- 9).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«بكلمات الله التامات»، وكلمات الله التامات تشمل كلماته الكونية والشرعية، فأما الكونية: فهي التي ذكرها الله في قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} يس: 82. فيحميك الله تعالى بكلماته الكونية، يدفع عنك ما يضرك إذا قلت هذا الكلام، كذلك الكلمات الشرعية -وهي الوحي- فيها وقاية من كُل سوء وشر، وقاية مِن الشر قبل نزوله، أما قبل نزوله: فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن «من قرأ آية الكرسي في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح»، وأما بعد نزول الشرِّ: فقد ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أن الفاتحة إذا قرئ بها على المريض فإنه يبرأ بها، حتى إن الصحابي -رضي الله عنه- لما قرأ الفاتحة على سيد القوم الذي لُدغ قام كأنما نُشِطَ من عقال، يعني: برأ حالُه؛ لأن القرآن شفاء {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} يونس: 57. شرح رياض الصالحين (4/ 619- 620).
قوله: «من شر ما خلق»:
قال الزمخشري -رحمه الله-:
مِن شرِّ خلقه، وشرهم: ما يفعله المكلفون من الحيوان من المعاصي والمآثم، ومضارّة بعضهم بعضًا من ظلم وبغي وقتل وضرب وشتم وغير ذلك، وما يفعله غير المكلفين منه عن الأكل والنَّهْسِ واللدغ والعض كالسباع والحشرات، وما وضعه الله في الموات من أنواع الضرر كالإحراق في النار والقتل في السم. الكشاف (4/ 820).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «من شر ما خلق» فيه إيماء إلى أن المخلوق من حيث هو مخلوق لا يخلو من شر، ويمكن أن يجيء منه الشر. مرقاة المفاتيح (4/ 1682).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
خصَّ عالم الخَلْق بالاستعاذة عنه؛ لانحصار الشر فيه، فإنَّ عالم الأمر خير كله، وشره اختياري لازم ومتعد، كالكفر والظلم، وطبيعي كإحراق النار وإهلاك السموم. أنوار التنزيل وأسرار التأويل (5/ 348).
وقال نجم الدين الغزي -رحمه الله-:
لا تخلو المخلوقات من خير أو شرٍّ، ثم كُل مُكلّف إمّا من الخِيَار، وإما من الشرار، ومآلُ كل مكلف إما إلى خير، ولا خير إلا خير الجنة، وإما إلى شر، ولا شر فوق شر النار.
وكل ما يتعلق به المكلف من شيء فهو إما خير وإما شر، فعليه طلب كل خير واجتناب كل شر؛ لتنجو نفسه يوم القيامة من الشر وتفوز بالخير، ومتى قصَّر في ذلك فإن تقصيره في حق نفسه. حسن التنبه لما ورد في التشبه (11/ 380).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«من شرِّ ما خلق» متعلق بـ«أعوذ»، وعبر بـ«ما» للتعميم. البحر المحيط الثجاج (42/ 272).
قوله: «لم يضره حُمَة تلك الليلة»:
قال الطحاوي -رحمه الله-:
قائل هذه الكلمات المحفوظات فيه يكون بقوله إياها محفوظًا حتى تنقضي تلك الليلة التي قالها فيها، لا زيادة عليها، غير أنا قد وجدنا عن رسول الله -عليه السلام- ما يزيد على ما يكون قائلها محفوظًا بها من الزمان على ما في ذلك الحديث، وهو ما حدثنا يونس، وبحر...عن خولة بنت حكيم السلمية، أنها سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: «إذا نزل أحدكم منزلًا فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من شرِّ ما خلق؛ فإنه لا يَضُّره شيء حتى يَرتحل منه». شرح مشكل الآثار (1/ 26- 27).
وقال المناوي -رحمه الله-:
لأن الأدوية الإلهية تمنع من الداء بعد حصوله، وتمنع من وقوعه، وإن وقع لم يضر، والدواء الطبيعي إنما ينجع بعد حصول الداء. فيض القدير (2/ 163).
قوله: «قال سهيل: فكان أهلنا تعلموها فكانوا يقولونها كل ليلة، فلُدِغَتْ جارية منهم فلم تجد لها وجعًا»:
قال الفيومي -رحمه الله-:
قوله: «فلُدغت منهم جارية فلم تجد لها وجعًا» يقال: لَدَغَتْهُ العقرب، تَلْدَغُهُ لدغًا وتَلداغًا فهو ملدوغ ولديغ، والله أعلم. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (4/ 331).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث من الفقه أيضًا: أن كلام الله -عز وجل- غير مخلوق، وعلى ذلك أهل السنة أجمعون، وهم أهل الحديث والرأي في الأحكام، ولو كان كلام الله أو كلمات الله مخلوقة ما أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحدًا أن يستعيذ بمخلوق؛ دليل ذلك: قول الله -عز وجل-: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} الجن: 6.
وفيه: إباحة الرُّقى بكتاب الله أو ما كان في معناه من ذكرِ الله، وفي ذلك دليل على إباحة المعالجة والتَّطَبُّب والرُّقى. التمهيد (13/ 462- 463).
وقال البغوي -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث وفي أمثاله مما جاء فيه الاستعاذة بكلمات الله دليل على أن كلام الله غير مخلوق؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- استعاذ به، كما استعاذ بالله، فقال -صلى الله عليه وسلم-: {أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} المؤمنون: 97- 98، وقال: {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} الفلق: 1، وقال: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم».
واستعاذ بصفاته، كما جاء في دعاء المشتكي «قل: أعوذ بعزة الله، وقدرته من شر ما أجد»، ولم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ بمخلوق من مخلوق.
وبلغني عن أحمد بن حنبل -رحمه الله- أنه كان يستدل بقوله: «أعوذ بكلمات الله التامات» على أن القرآن غير مخلوق؛ لأنه ما من مخلوق إلا وفيه نقص.
وقيل: كلمات الله في هذا الحديث القرآن. شرح السنة (1/ 185).