كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دَخلَ الخلاءَ قال: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِن الخُبُثِ والخبَائِثِ».
رواه البخاري برقم: (6322)، ومسلم برقم: (375)، من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«أعُوذُ»:
أي: أَلُوذُ وألْتَجِئ. المفهم، القرطبي (1/ 554).
«الخلاء»:
المكان الخالي، وهو ها هنا كناية عن موضع الحدَث. كشف المشكل، ابن الجوزي (3/ 270).
«الخُبُث والخَبَائِثِ»:
الخبُث: جمع خبيث، كقولك: جديد وجُدُد، وعتيق وعُتُق، والخبائث جمع الخبيثة. أعلام الحديث، الخطابي (1/ 237).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
«الخُبُث» بضم الخاء والباء وهو جمع خبيث، «والخبائث» جمع خبيثة، استعاذ من ذُكران الشياطين وإناثهم. العدة في شرح العمدة(1/ 110).
شرح الحديث
قوله: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل الخلاء»:
قال الكوراني -رحمه الله-:
لفظ «كان» دلّ بظاهره على أن هذا شأنه دائمًا. الكوثر الجاري (1/ 288).
وقال السفيري -رحمه الله-:
قال العلماء: «كان» في هذا التركيب تفيد تكرار ذلك الفعل، وبيان كونه عادة له، أي: كان كلما دخل يقول الدعاء المذكور. المجالس الوعظية (2/ 309).
قال النووي -رحمه الله-:
فإنَّ المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون من الأصوليين أن لفظة «كان» لا يلزم منها الدوام ولا التكرار، وإنما هي فعل ماض يدل على وقوعه مرة، فإنْ دل دليل على التكرار عُمل به وإلا فلا تقتضيه بوضعها. شرح النووي على مسلم (6/ 21).
وقال المازري -رحمه الله-:
وقوله: «إذا دخل»: يحتمل أن يكون معناه: إذا أراد الدخول، كما قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} النحل: 98، أن معناه: إذا أردتَ أن تقرأ... قد ذكر البخاري في بعض طرق هذا الحديث: «كان إذا أراد أن يدخل»، ويُجمع بين اللفظين برد أحدهما إلى الآخر، ومن جهة المعنى: أنه إذا كان متصلًا بالدخول قيل فيه: إذا دخل. إكمال المعلم (2/ 230).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
ومعنى «إذا دخل» إذا أراده، كما صرح به في رواية سعيد، ويبعد أن يُراد به ابتداء الدخول، وإن أبداه القشيري احتمالًا، فإن كان المحل الذي يقضي فيه الحاجة غير مُعَدٍّ لذلك -كالصحراء مثلًا- جاز ذِكر الله تعالى في ذلك المكان، وإن كان مُعدًا لذلك -كالكُنُف- ففي جواز الذكر فيه خلافٌ للمالكية، فمَن كرهه أوَّلَ الدخولَ بمعنى: الإرادة؛ لأن لفظة: «دخل» أقوى في الدلالة على الكُنُف المبنية منها على المكان البَراح، أو لأنه قد بيَّن في حديث آخر أن المراد حيث قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن هذه الحشوش مُحتَضرة» أي: للجانِّ والشياطين، فإذا أراد أحدكم الخلاء فليقل: «أعوذ بالله من الخبُث والخبائث».
ومن أجازه استغنى عن هذا التأويل، وحَمَلَ «دخل» على حقيقتها، وحديث: «إن هذه الحشوش محتضرة» فيه بيان لمناسبة هذا الدعاء المخصوص لهذا المكان المخصوص. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (4/ 90).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«إذا دخل» وفي رواية للبخاري في الأدب المفرد: «كان إذا أراد أن يدخل»، وهي مبينة للمراد بقوله هنا: «دخل» أي: كان يقول الذكر الآتي عند إرادته الدخول لا بعده. فيض القدير (5/ 126).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
قوله: «إذا دخل» أي: أراد دخوله؛ لأنه بعد الدخول لا يقول ذلك، وقد صرح بهذا البخاري في الأدب المفرد من حديث أنس قال: «كان رسول الله -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم- إذا أراد أن يدخل الخلاء» الحديث، وهذا في الأمكنة المعدَّة لذلك، أما في غيرها فيقوله عند تشمير الثياب. المنهل العذب المورود (1/ 30).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وهذا في الأمكنة المُعدَّة لذلك بقرينة الدخول ولهذا قال ابن بطال: رواية: «إذا أتى»، أعم لشمولها انتهى. فتح الباري(1/ 244).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «الخلاء» وفي الحديث الآخر: «الكنيف» وهو بمعناه، وسمِّي بذلك للتستر فيه، والكَنَف الستر، فلما كان يستتر في ذلك الموضع مَن يأتيه للحدَث سمِّي به، وكذلك سمّي الخلاءُ -أيضًا- للخلوة فيه عن الناس. إكمال المعلم (2/ 229).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
«الخلاء» بفتح الخاء المعجمة وبالمد: موضعُ قضاء الحاجة، سمِّي بذلك لخلائه في غير أوقات قضاء الحاجة، وهو الكَنِيف، والحُشُّ، والمِرْفَق (هو الكنيف سمي بذلك لارتفاق النَّاس به) والمِرحاض أيضًا، وأصله: المكان الخالي، ثم كثُر استعمالُه حتى تُجُوِّز به عن ذلك. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (4/ 90).
وقال السفيري -رحمه الله-:
وقوله: «الخلاء» قال العلماء: «الخلاء» بفتح الخاء المعجمة وبالمد موضع قضاء الحاجة، سمي بذلك لخلائه في غير أوقات قضاء الحاجة... ويقال للخلاء: الكنيف، والحش، والمرفق، والمرحاض، وأما الخلا: بالقصر فيطلق على معنيين: على الحشيش الرطب، وعلى الكلام الحسن. وأما «الخِلاء» بكسر الخاء مع المد فهو عيب في الإبل كـ(الحِران) في الخيل. المجالس الوعظية (2/ 309).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«الخلاءَ» نُصب على الظرفية أو بنزع الخافض أو مفعول به. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 247).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
والخلاء: المحل المعَدُّ لذلك، قيل: ويكنى به عن إخراج الفَضْلة، وإن أريد هنا فيشمل الصحراء، قيل: ويوافقه أن الإتيان بالذِّكْر لا يختص بالبنيان، ويوافق الأول الدخول. التنوير شرح الجامع الصغير (8/ 381).
قوله: «قال: اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث»:
قال ابن الملقن -رحمه الله-:
«اللهم» الأفصح فيه استعماله بالألف واللام كما وقع في الحديث. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (4/ 90).
وقال السفيري -رحمه الله-:
أصل «اللهم» يا ألله على الأصح، فحُذف حرف النداء، وعوّض عن الميم. المجالس الوعظية (2/ 309).
وقال عبد القادر الأسطواني -رحمه الله-:
«اللهم» أي: يا ألله، وهذا إذا كان المكان مُعَدًّا لذلك كالكنيف، فإن كان في الصحراء أو غيره مما لم يكن مُعدًّا لذلك؛ فيقول وقت الجلوس قبل كشف العورة. «إني أعوذ» جملة محلها الرفع خبر «إن» أي: ألوذ وألتجئ «بك». شرح صحيح البخاري -مخطوط (ص: 52).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
قوله: «أعوذ» يعني: أَلْجَأُ وأَلُوذُ، فإنه مكان العائذ، والعياذ والملجأ: ما سكنت إليه النفس عن محذور. المسالك في شرح موطأ مالك (2/ 299).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «أعوذ» أي: ألوذ وألتجئ. المفهم (1/ 554).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
و«أعوذ» معناه: أستجير وأعتصم. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (4/ 90).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«إني أعوذ بك» كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ إظهارًا للعبودية ويجهر بها للتعليم. شرح سنن أبي داود (1/ 316).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
«قال: اللهم إني أعوذ» خبر ومعناه الدعاء، أي: أعذني. السراج المنير (4/ 61).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
والخُبث بضم الباء جماعة الخبيث، والخبائث جمع الخبيثة، يريد ذكران الشياطين وإناثهم، وعامة أصحاب الحديث يقولون: الخُبْث ساكنة الباء، وهو غلط، والصواب الخبُث مضمومة الباء. معالم السنن (1/10-11).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
وقوله: «من الخُبُث» بضم الخاء يعني: مِن ذكران الجن وإناثهم، وإن كان بفتحها فإنه يعني: من المكروه وأهله، و«الخبث» هو كل مكروه، فإن كان من قول فهو فسق، وإن كان من اعتقاد فهو كفر واعتقاد سوء، وإنّ كان من طعام فهو حرام. المسالك في شرح موطأ مالك (2/ 299).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقوله: «الخُبُث والخبائث» رويناه عن شيوخنا بالوجهين سكون الباء وضمها، وأكثر روايات الشيوخ فيه بالإسكان، وكذا ذكره أبو عبيد وفسره بالشّر، وبالضم سمعناه من القاضي الشهيد، وكذا صوبه الخطابي ووهَّم أصحابَ الحديث في روايتهم السكون. إكمال المعلم (2/ 229).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأما الخُبُث فبضم الباء وإسكانها، وهما وجهان مشهوران في رواية هذا الحديث، ونقل القاضي عياض -رحمه الله تعالى- أن أكثر روايات الشيوخ الإسكان، وقد قال الإمام أبو سليمان الخطابي -رحمه الله تعالى-: الخبث بضم الباء جماعة الخبيث، والخبائث جمع الخبيثة، قال: يريد ذكران الشياطين وإناثهم، قال: وعامة المحدثين يقولون: الخُبْث بإسكان الباء، وهو غلط، والصواب الضم، هذا كلام الخطابي، وهذا الذي غلَّطهم فيه ليس بغلط، ولا يصح إنكار جواز الإسكان، فإن الإسكان جائز على سبيل التخفيف، كما يقال: كُتْب ورُسْل وعُنْق وأُذْن، ونظائره، فكل هذا وما أشبهه جائز تسكينه بلا خلاف عند أهل العربية، وهو باب معروف من أبواب التصريف، لا يمكن إنكاره، ولعل الخطابي أراد الإنكار على من يقول: أصله الإسكان، فإن كان أراد هذا فعبارته موهمة، وقد صرح جماعة من أهل المعرفة بأن الباء هنا ساكنة، منهم الإمام أبو عبيد إمام هذا الفن، والعمدة فيه. شرح صحيح مسلم(4/ 71).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
واستعاذته -صلى الله عليه وسلم- مع عصمته تشريعٌ للأمَّة، قيل: والظاهر أنه كان يجهر به؛ إذ لو لم يُسمع لم يُنقل، وإخباره بها عن نفسه بعيد. التنوير شرح الجامع الصغير (8/ 381).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
وإنما خصَّ بذلك الخلاء؛ لأن الشياطين يحضرون الأخلية -وهي مواضع يهجر فيها ذكر الله- فقدّم لها الاستعاذة احترازًا منهم، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «... إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا دخل أحدكم الخلاء فليتعوذ بالله». أعلام الحديث (1/ 237).
وقال الشيخ محمد الخضر الشنقيطي -رحمه الله-:
وإنما استعاذ -صلى الله تعالى عليه وسلم- إظهارًا للعبودية، ويجهر بها للتعليم، وإلا فهو -عليه الصلاة والسلام- محفوظ من الجن والإنس، وقد رَبَط عفريتًا على سارية من سواري المسجد. كوثر المعاني الدراري (4/ 242).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
فائدة: روى المعمري هذا الحديث من طريق عبد العزيز بن المختار، وهو من رجال مسلم عن عبد العزيز بن صهيب بلفظ: «إذا دخلتم الخلاء فقولوا: باسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث» رواه بصيغة الأمر، وزاد التسمية. التوشيح شرح الجامع الصحيح (1/ 311).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
واختلف في ذلك (ذكر الله في الخلاء) أيضًا العلماء، فروي عن ابن عباس، أنه كره أن يذكر الله عند الخلاء، وهو قول عطاء، ومجاهد، والشعبي وعكرمة، وقال عكرمة: لا يذكر الله في الخلاء بلسانه، ولكن بقلبه، وأجاز ذلك جماعة من العلماء، وروى ابن وهب أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يذكر الله في المرحاض.
وقال العرزمي: قلتُ للشعبي: أعطس وأنا في الخلاء، أحْمَدُ الله؟ قال: لا، حتى تخرج، فأتيت النخعي فسألته عن ذلك، فقال لي: احمد الله، فأخبرته بقول الشعبي، فقال النخعي: الحمد يصعد ولا يهبط، وهو قول ابن سيرين، ومالك بن أنس، وهذا الحديث حجة لمن أجاز ذلك. شرح صحيح البخاري(10/ 90).