«إنَّ العبدَ إذا أخطأ خطيئة، نُكِتَتْ في قلبه نُكْتةٌ سوداء، فإذا هو نَزعَ واستغفر وتاب سُقِلَ قلبُه، وإن عاد زِيْدَ فيها، حتى تعلو قلبَه، وهو الرَّانُ الذي ذَكَر الله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} المطففين: 14».
رواه أحمد برقم: (7952)، والترمذي برقم: (3334) واللفظ له، والنسائي في الكبرى برقم: (11594)، وابن ماجه برقم: (4244)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم:(1670)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (2469).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«أخطأ خطيئة»:
«الخطيئة»: الذَّنب على عَمدٍ. تهذيب اللغة، للأزهري(7/ 207).
وقال أحمد رضا: الخطيئة: الذّنب أو ما تعمد منه، والخطأ لم يتعمد.معجم متن اللغة(2/٢٩٥).
وقال أبو علي: والخطيئة تقع على الصغير والكبير، فمن وقوعها على الصغير قوله: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}الشعراء: 82. ووقوعها على الكبير قوله: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}التفسير البسيط، للواحدي(3/٩٩).
«نُكْتةٌ سوداء»:
أي: أثَر قليل كالنُّقطة، شِبْه الوسخ في المرآة والسيف، ونحوهما.النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 114).
«نَزَعَ»:
أي: أقلع عنه وتركه.فيض القدير (2/ 371).
«استغفر»:
أي: طلب من الله المغفرة.التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 510).
«تاب»:
التوبة الرجوع عن المعاصي، وهي مثل (نَزَعَ)، ذكرها تأكيدًا.التنوير شرح الجامع الصغير (3/510).
«سُقِلَ قلبُه»:
صَقَل وسَقَل بالصاد والسين، يقال: صَقَل السيف وسَقَلَه أيضًا صَقْلًا وصِقَالًا، أي: جَلَّاه.مختار الصحاح (ص: 375).
«الرَّانُ»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
أصل الرَّيْن الطَّبْعُ والتغطية، والرَّان والرَّين سواء، كالذَّم والذَّيم، والعَابِ والعَيْبِ.شرح المشكاة (6/ 1848).
شرح الحديث
قوله: «إنَّ العبد إذا أخطأ خطيئة»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«إن العبد» في رواية: «إن المؤمن» «إذا أخطأ خطيئة» في رواية: «أذنب ذنبًا».فيض القدير (2/ 371).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«إنَّ العبد إذا أخطأ خطيئة» وفي لفظ: «أذنب ذنبًا».التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 510).
قوله: «نُكِتَتْ في قلبه نُكْتةٌ سوداء»:
قال عبيد الله المباركفوي -رحمه الله-:
«نُكِتَتْ»:
بصيغة المجهول، من النَّكْتِ، وهو في الأصل أن تَضْرِب في الأرض بقضيب فيؤثر فيها، أي: جُعِلت.مرعاة المفاتيح (8/ 42).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
النَّكْتُ: الأثر في الشيء.التحبير لإيضاح معاني التيسير (2/ 437).
وقال المباركفوري -رحمه الله-:
أي: جُعلت في قلبه نُكْتَةٌ سوداء، أي: أثَر قليل، كالنقطة شِبْه الوسخ في المرآة والسيف ونحوهما. تحفة الأحوذي (9/ 178).
وقال أبو بكر ابن العربي -رحمه الله-:
قوله: «في قلبه»:
قد بيَّنا حقيقة القلب، وشرحنا قيام المعارف به بالله وسواه، وأنَّ الجوارح له تبع، ولما يقوم به خَدَمٌ، وفي منبعه يصدر لها كل عمل، وجاء في الشريعة أنَّ الطاعات والمعاصي لها أثر في تنويره وإظلامه، وهو خبر عن الشيء بفائدته، وحقيقة الحال: أنَّ الجهل يقوم بالقلب فيسري إلى الجوارح أثرُه، فإذا قامت الجهالة بالقلب فهو نُكْتَتُه التي أثرها المعصية الظاهرة على الجوارح، فالمعصية دلالة على النُّكَت التي كانت سبب المعصية، فهكذا تنزيلها، والله أعلم.
فإذا كان في القلب نُكْتة من نفاق فهو رَيْنٌ، فإذا كان في غفلة أو ذهول أو نسيان فهو غَيْن، ونَفْحُ هذا هو الذي يعرو الأنبياء، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنه لَيُغَان على قلبي، فأتوب إلى الله في اليوم مائة مرة».عارضة الأحوذي (11/168).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«نُكْتةٌ سوداء»
أي: كقَطْرة مِداد تقطر في القرطاس، ويختلف على حسب المعصية وقدْرها، والحمل على الحقيقة أولى من جعله من باب التمثيل والتشبيه، حيث قيل: شبَّهَ القلب بثوب في غاية النقاء والبياض، والمعصية بشيء في غاية السواد أصاب ذلك الأبيض، فبالضرورة أنه يذهب ذلك الجمال منه، وكذلك الإنسان إذا أصاب المعصية صار كأنه حصل ذلك السواد في ذلك البياض.مرقاة المفاتيح (4/1622).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
النُّكْتَة: النُّقطة السوداء في الأبيض، أو البيضاء في الأسود، والأثر الحاصل من نَكْتِ الأرض، وشِبْه الوسخ في المرآة والسيف ونحوهما.مرعاة المفاتيح (8/ 41).
قوله: «فإذا هو نَزَعَ واستغفر وتاب»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«فإذا هو نَزَعَ»
أي: أقلع عنه وتركه، واستغفر الله وتاب إليه توبة صحيحة، ونص على الإقلاع والاستغفار مع دخولهما في مسمى التوبة؛ إذ هما من أركانها اهتمامًا بشأنهما. فيض القدير (2/371).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وتاب»:
التوبة الرجوع عن المعاصي، وهي مثل (نَزَعَ) ذكرها تأكيدًا.التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 510).
قوله: «سُقِلَ قلبُه»:
قال المباركفوري -رحمه الله-:
«سُقِلَ قلبُه»:
بالسين المهملة على البناء للمفعول، وفي رواية أحمد: «صُقِلَ» بالصاد...، والمعنى نَظَّفَ وصَفَّى مرآة قلبه؛ لأن التوبة بمنزلة الْمِصْقَلة تمحو وسخ القلب، وسواده حقيقيًا أو تمثيليًا.تحفة الأحوذي (9/ 178).
وقال المناوي -رحمه الله-:
أي: رَفَعَ الله تلك النُّكْتة، فينجلي (قلبُه) بنوره، كشمس خرجت عن كسوفها فتجلَّت. فيض القدير (2/371).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
أي: صَقَلت الملائكة قلبَه، وأذْهبت ما فيه من الأثر. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 510).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
أي: أُزيلت تلك النُّكْتة عن قلبه.شرح المصابيح (3/ 145)
وقال محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«صُقِل قَلْبُه»:
بالصاد المهملة على البناء للمفعول، قال في (القاموس): الصَّقلُ هو السَّقْل، وقال فيه: صَقَلَه جلَّاه. انتهى.
والمعنى: نَظُف وصُفِّي مرآةُ قلبه؛ لأن التوبة بمنزلة المِصْقَلَةِ تُمسح بها وسَخُ القلب، وسواده حقيقيًّا أو تمثيليًّا.مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (26/ 99).
قوله: «وإن عاد زِيْدَ فيها»:
قال المباركفوري -رحمه الله-:
«وإن عاد»:
أي: العبد في الذنب والخطيئة، «زِيْدَ فيها» أي: في النُّكْتة السوداء. تحفة الأحوذي (9/ 178).
قوله: «حتى تعلو قلبَه»:
قال المُظْهِري -رحمه الله-:
أي: حتى يَغْلُب سواد تلك النُّكت على نور قلبه، وتستر ظلمة تلك النُّكت نور قلبه، فإذا صار نور قلبه مستورًا عَمِي قلبُه، ولا يُبصر شيئًا من العلم والحكمة، ولا يفهم خيرًا، وتزول عن قلبه الرحمة والشفقة، ويثبت في قلبه الظلم والفتن وإيذاء الناس، والجراءة على المعاصي. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 186).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
فمن أذنب ذنبًا أثَّر ذلك في نفسه، وأوْرَثَ لها كُدُورَةً ما، فإن تحقق قُبْحَه وتاب عنه زال الأثر، وصارت النفس مصقُولةً صافية، وإن انْهَمَك فيه، وأصرَّ عليه زاد الأثر، وفشا في النفس، واستعلى عليها، وصار من أهل الطَّبْع.شرح المشكاة (6/ 1848).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«حتى تعلو قلبه»:
أي: النُّكْتة، أي: يُغطِّيه ويغمره ويستر سائِرَه، ويصير كلُّه أسود، فلا يعي خيرًا، ولا يبصر رشدًا.التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 510).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«حتى تعلو قلبَه»:
أي: تغطِّي تلك النُّكت نورَ القلب، فيَعمى، ولا يبصر شيئًا من العلوم والحِكَم، ولا يَفْهم خيرًا، ويزول عنه الشفقة والرحمة، ويثبت في قلبه الظلمُ والفِتَن، وإيذاء الناس، والجُرْأة على المعاصي.شرح المصابيح (3/ 145).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«حتى تعلو على قلبه»:
أي: تغطِّيه وتغمره، وتستر سائِرَه، ويصير كله ظُلْمَة، فلا يعي خيرًا، ولا يبصر رشدًا.التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 296).
وقال ـ رحمه الله ـ أيضًا:
«حتى تعلو على قلبه»:
أي: تغطِّيه وتغمره، وتستر سائِرَه، كمرآة علاها الصدأ، فسَتَر سائِرَها، وتصير كمنْخَل وغِرْبال، لا يعي خيرًا، ولا يثبت فيه خير، ومن ثَم قال بعض السلف: المعاصي بريد الكفر، أي: رسُولُه، باعتبار أنها إذا أَوْرثت القلب هذا السواد، وعَمَته، يصير لا يقبل خيرًا قط، فيقسو، ويخرج منه كل رأفة ورحمة وخوف، فيرتكب ما شاء، ويفعل ما أراد، ويتخذ الشيطان وليًا من دون الله، فيُضِلُّه ويغويه، ويَعِدُهُ ويُمَنِّيْهِ، ولا يقنع منه بدون الكفر، ما وجد إليه سبيلًا {وَمَن يَتَخِذ الشَّيطانَ وَلِيًّا مِن دُونِ اللهِ فَقَد خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} النساء : 119.فيض القدير (2/ 470).
قوله: «وهو الرَّان الذي ذكر الله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} المطففين: 14.
قال السندي -رحمه الله-:
«الرَّانُ»:
هكذا في الأصول بالألف، والمشهور (الرَّيْن) بالياء، كالدَّين، {كَلَّا بَلْ رَانَ} المطففين: 14، أي: غَلَبَ، وقال الحسن: هو الذَّنب على الذَّنب، حتى يسوَدَّ القلب، كذا في الصحاح.حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/ 561)
وقال أبو بكر ابن العربي -رحمه الله-:
الرَّان والرَّيْن جهْلٌ يقوم بالقلب، يحول بين المرء وبين معرفة الحق.عارضة الأحوذي (11/168).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
الرَّانُ والرَّين: الغشاوة، وهو الصدأ على الشيء الصَّقيل.فتح الباري (14/ 95).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«فذلكم الرَّانُ»:
أي: فذلك الأثر المستعلي ما أخبر الله تعالى وعبَّر عنه بقوله: {رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} المطففين: 14، أي: غَلَبَ واستولى على قلوبهم بما كانوا يكسبون من الذنوب...، وهذه الآية نازلة في حق الكفار، ولكنَّ ذِكْرها في الحديث تخويفًا للمؤمنين؛ لكي يحترزوا عن كثرة الذنوب؛ لأن المؤمن لا يَكْفُر بكثرة الذنوب، لكن يصير قلبه مسودًا بها، فيُشْبه الكافر في اسوداد القلب. شرح المشكاة (6/ 1848).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قال في الكشاف: {رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} المطففين: 14، ركِبَها كما يركبُ الصدأ إذا غَلب عليها، وهو أن يُصِرَّ على الكبائر، ويُسوِّف في التوبة، حتى يُطبَع على قلبه، فلا يقبل الخير، ولا يميل إليه...، وهو تحذير عن إغفال التوبة.التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 510).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «وهو الرَّان»، أصل الرَّيْن الغَلَبَة، يقال: رَانَت الخَمْر على عَقْله، يرِيْن رَينًا ورَوْنًا، إذا غَلَبت عليه وسَكِر، وقال مجاهد: (بل رَان) انْبَثَّتْ الخطايا على قلوبهم، والرَّين، والرَّان الغشاوة، وهو الصدأ على الشيء الصَّقيل.التحبير لإيضاح معاني التيسير (2/ 437).
وقال محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
وأُدخل اللام على (رَانَ) وهو فِعل؛ إما لقصد حكاية اللفظ، وإجرائه مجرى الاسم، وإما لِتَنْزِيلهِ منزلة المصدر؛ أي: ذكره الله -عز وجل- بقوله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} المطففين: 14.مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (26/ 99-100).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«فذلكم الرَّان» -في رواية- الخطاب للصحابة، يعني: أخاطِبُكم وأُخْبِركم بأنَّ سَتْرَ تلك النُّكتِ نورَ القلب هو الرَّان الذي ذكرَ الله تعالى في قوله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} المطففين: 14.
وهذه الآية مذكورةٌ في حقِّ الكفار، ولكن ذكَرَها -صلى الله عليه وسلم- تخويفًا للمؤمنين؛ لكي يحتَرِزُوا عن كثرة الذنوب؛ كيلا تَسْوَدَّ قلوبُهم، كما اسودَّت قلوبُ الكفار.شرح المصابيح (3/ 145-146).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
والرَّين الذي ذُكِر في الآية: بيان أحوال الكفار، فذِكْرُه في الحديث تخويف للمؤمنين، أو المراد تشبيهٌ بذلك في اسوداد القلب، أو المراد -واللَّه أعلم- أنه قد ينجرّ ارتكاب المعاصي إلى الكفر؛ لا أنه كفر في الحال، ولعله المراد بما قيل بأنه تخويف.لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح (5/ 160).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
«وهو الرَّان الذي ذكرَ الله تعالى في قوله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} المطففين: 14».
أي: غَلَب واستولى عليها ما اكتسبوه من الذنوب حتى صارت سوداء مظلمة، وغالب اسْوداد القلب من أكل الحرام، فإنَّ أكل الحلال ينوِّر القلب، ويصلحه، وأكل الحرام يفسده ويقَسِّيه ويُظْلمه.السراج المنير شرح الجامع الصغير (2/ 49-50).
وقال القاضي البيضاوي -رحمه الله-:
المعنى الأول في التكليف بالأعمال الظاهرة، والأمر بمحاسنها، والنهي عن مقابحها: ما تستكسب النفس منها من الملَكات الفاضلة، والهيئات الذميمة، فمَن أذنب ذنبًا أثَّر ذلك في نفسه، وأوْرث لها كُدُورة ما، فإن تحقق قُبْحَه وتاب عنه، زال الأثر، وصارت النفس مصقُولةً صافية، وإن انْهَمَك فيه، وأصرَّ عليه زاد الأثر، وفشا في النفس، واستعلى عليها، وصار من أهل الطَّبْع.
وقوله: «فذلكم الرَّان» أي: فذلك الأثر المستعلي ما أخبر الله وعبر عنه بقوله: {رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم} المطففين: 14، أي: غَلَب واستولى على قلوبهم ما كانوا يكسبون من الذنوب، أدْخَل حرف التعريف على الفعل لَمَّا قصَد به حكاية اللفظ، وأجراه مجرى الاسم، من حيث إنه يصح الإخبار عنه بهذا الاعتبار، وشبَّهَ تأثُّر النفس باقتراف الذنوب بالنُّكتة السوداء؛ من حيث إنهما يضادان الجَلاء والصَّفَاء، وأنَّث الضمير الذي في «كانت» الراجع إلى ما دل عليه «أذنب»؛ لتأنيثهما.تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (2/ 75).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
الذنوب إذا تكاثرت طُبِعَ على قلبِ صاحبها، فكان من الغافلين.
كما قال بعض السلف في قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} المطففين: 14. قال: هو الذنب بعد الذنب.
وقال الحسن: هو الذَّنب على الذنب، حتى يعمى القلب.
وقال غيره: لما كثرت ذنوبهم ومعاصيهم أحاطت بقلوبهم.
وأصل هذا: أن القلب يصدأ من المعصية، فإذا زادت غَلَب الصدأ حتى يصير رانًا، ثم يغلب حتى يصير طبعًا وقُفلًا وختمًا، فيصير القلبُ في غشاوة وغلاف، فإذا حصل له ذلك بعد الهدى والبصيرة انعكس فصار أعلاه أسفله، فحينئذٍ يتولاه عدوُّه ويسوقه حيث أراد.الداء والدواء (ص: 60).
وقال ابن القيم -رحمه الله- أيضًا:
فالقبائح تسوِّد القلب وتطفئ نوره، والإيمانُ هو نورٌ في القلب، والقبائح تَذهب به أو تقلِّله قطعًا، فالحسنات تزيد نور القلب، والسّيِّئات تطفئ نور القلب.
وقد أخبر تعالى أنَّ كَسْبَ القلوب سببٌ للرَّان الذي يعلوها، وأخبر أنَّه أرْكَسَ المنافقين في نفاقهم بكَسْبهم فقال: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} النساء: 88.
أخبر أنّ نقض الميثاق الذي أخذه على عباده سببٌ لتقْسِية القلب فقال: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} المائدة: 13، فجعل ذنب النقض موجبًا لهذه الآثار؛ من تقسية القلب، واللَّعنة، وتحريف الكلم، ونسيان العلم.
فالمعاصي للإيمان كالمرض والحمَّى للقوّة سواءً بسواء، ولذلك قال السَّلف: «المعاصي بريد الكفر، كما أنَّ الحمَّى بريد الموت»، فإيمان صاحب القبائح كقوَّة المريض على حسب قوَّة مرضه وضعفه.مدارج السالكين (2 / 242 -243).