«إذا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِن نومِهِ فَرَأَى بَلَلًا، ولم يَرَ أنَّهُ احْتَلَمَ، اغْتَسَلَ، وإذا رَأَى أنَّه قد احْتَلَمَ، ولم يَرَ بَلَلًا، فلا غُسْلَ عليه».
رواه أحمد برقم: (26195)، والترمذي برقم: (113)، وابن ماجه برقم: (612) واللفظ له، من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
صحيح الجامع برقم: (330)، صحيح ابن ماجه برقم: (612).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«بَلَلًا»:
البلل: الرطوبة في الشيء. جمهرة اللغة لابن دريد (2/ 1001).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
يُقال: بللته بالماء بلًّا -من باب قَتَلَ- فابتل هو، والبِلَّة بالكسر منه ويجمع البل على بِلَالٍ. المصباح المنير(1/ 61).
«احْتَلَمَ»:
أي: أنزل في نومه مَنيًّا. المطلع على ألفاظ المقنع، البعلي (ص: 185).
شرح الحديث
قوله: «إذا استيقظ أحدكم من نومه»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«إذا استيقظ» وانتبه. مرشد ذوي الحجا والحاجة (4/ 429).
وقال الفاكهاني -رحمه الله-:
قوله -عليه الصلاة والسلام-: «وإذا استيقظ أحدكم من نومه» إلى آخره، فإن قلت: ما الفائدة في قوله -عليه الصلاة والسلام-: «من نومه»، ومعلوم أن الاستيقاظ إنما يكون من النوم؟
قلت: لا ينحصر الاستيقاظ في النوم؛ مشاركة الغفلة والغشية في ذلك، ألا ترى أنه يقال: استيقظ فلان من غشيته، أو من غفلته.
فإن قلت: لم أضاف -عليه الصلاة والسلام- النوم إلى ضمير أحدنا، ومعلوم قطعًا أن أحدًا لا يستيقظ من نوم غيره، فما فائدة هذه الإضافة، حتى لم يقل: من النوم، أو من نوم، وكان ذلك مغنيًا عنها، مع خفة الإفراد، وثقل التركيب الإضافي؟
قلت: إنما كان ذلك لمعنى جليل جدًا، وهو الإشارة والتنبيه على أن نومه -صلى الله عليه وسلم- مغاير لنومنا؛ إذ كان -عليه الصلاة والسلام- تنام عيناه، ولا ينام قلبه.
فإن قلت: قوله: «أحدكم» يعطي هذا المعنى المذكور.
قلت: أجل، ولكنه جاء على طريق المبالغة والتأكيد، وربما سمى أهل علم البيان مثل هذا توطئة، وهو أن يكون المعنى مستقلًا بالأول، ويؤتى باللفظ الثاني لما ذكر، فتنبه لها إشارة ما أسناها! ولطيفة ما أحلاها! رياض الأفهام (1/ 69- 70).
قوله: «فرأى بَلَلًا ولم يَرَ أَنَّهُ احْتَلَمَ اغتسل»:
قال الخطابي -رحمه الله-:
قلتُ: ظاهر هذا الحديث يوجب الاغتسال إذا رأى البِلَّة، وإن لم يتيقن أنها الماء الدافق، وروي هذا القول عن جماعة من التابعين هم عطاء والشعبي والنخعي، وقال أحمد بن حنبل: أعجب إليّ أن يغتسل إلا رجلًا به إِبرِدة (علة معروفة من غلبة البرد والرطوبة تفتر عن الجماع).
وقال أكثر أهل العلم: لا يجب عليه الاغتسال حتى يعلم أنه بلل الماء الدافق، واستحبوا أن يغتسل من طريق الاحتياط. معالم السنن (1/ 79).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
أي: لا يذكر أنه جامع أحدًا في النوم. شرح المصابيح (1/ 291).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «فرأى بللًا» إطلاقه يمنعه ما إذا اعتقده مذيًّا، وبه صرح كثير من علمائنا. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه (1/ 212).
وقال محمد المباركفوري -رحمه الله-:
الاحتلام افتعال من الحُلْم بضم المهملة وسكون اللام، وهو ما يراه النائم في نومه، يقال: منه حَلم بالفتح واحتلم، والمراد به ها هنا: أمر خاص وهو الجماع، أي: لا يذكر أنه جامع في النوم...
«اغتسل» خبر بمعنى الأمر وهو للوجوب...؛ لأن البلل علامة ودليل، والنوم لا عبرة به، فالمدار على البلل سواء تذكر الاحتلام أم لا. تحفة الأحوذي (1/ 311- 312).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: (في رواية) «يجد البَلَلَ» بفتحتين أي: رطوبة المني على بدنه، أو في ثوبه؛ وذلك لأن المسؤول عنه (في رواية) إنما هي بِلَّة المني لا مطلق البِلَّة بقرينة الحال؛ إذ لم يقل أحد بوجوب الغسل على المنتبه من النوم برؤية بلل البول، فكذا المذي. مرعاة المفاتيح (2/ 139).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
خروج المني يوجب الغسل من الرجل والمرأة في النوم واليقظة، ولا فرق عند الشافعي وأصحابه بين خروجه بجماع أو احتلام أو استمناء أو نظر أو بغير سبب؛ سواء خرج بشهوة أو غيرها، وسواء تلذذ بخروجه أو لا، وسواء خرج كثيرًا أو يسيرًا، من الرجل والمرأة، العاقل أو المجنون. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (2/ 306).
قوله: «وإذا رأى أنه قد احْتَلَمَ ولم ير بَلَلًا فلا غُسْلَ عليه»:
قال الخطابي -رحمه الله-:
ولم يختلفوا أنه إذا لم ير الماء وإن كان رأى في النوم أنه قد احتلم فإنه لا يجب عليه الاغتسال. معالم السنن (1/ 79).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قول: «فلا غُسْلَ عليه» أي: لا يجب عليه الغسل؛ لأن البلل علامة ودليل، والنوم لا عبرة به، فالمدار على البلل، سواء تذكر الاحتلام أم لا. مرقاة المفاتيح (2/ 428).
وقال الباجي -رحمه الله-:
يريد أنه يرى في نومه يجامع ولا ينزل فلا يجب عليه غسل؛ لأن الغسل إنما يجب على الرجل بأحد أمرين: إما بالْتقاء الختانين، أو بإنزال الماء الدافق على الوجه المعتاد، فمتى رأى المحتلم أنه يجامع ولا ينزل فلا غسل عليه؛ لأنه لم يوجد منه أحد أمرين. المنتقى شرح الموطأ (1/ 105).
وقال النووي -رحمه الله-:
أما ما لم يخرج فلا يجب الغسل؛ وذلك بأن يرى النائم أنه يجامع وأنه قد أنزل ثم يستيقظ فلا يرى شيئًا فلا غسل عليه بإجماع المسلمين. شرح مسلم (3/ 220).
وقال ابن المنذر -رحمه الله-:
أجمع كل مَن أحفظ عنه من أهل العلم على أنَّ الرجل إذا رأى في نومه أنَّه احتلم أو جامع، ولم يجد بللًا أنَّه لا غسل عليه. الأوسط (2/ 83).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
إذا رأى أنه قد احتلم ولم يجد منيًّا فلا غسل عليه، وقال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم.
وإنْ انتبه فرأى منيًّا ولم يذكر احتلامًا، فعليه الغسل لا نعلم فيه خلافًا أيضًا، وروي نحو ذلك عن عمر وعثمان، وبه قال ابن عباس وعطاء وسعيد بن جبير والشعبي والنخعي والحسن ومجاهد وقتادة ومالك والشافعي وإسحاق؛ لأن الظاهر أن خروجه كان لاحتلامٍ نَسِيَهُ. المغني (1/ 233).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«وإذا رأى» أي: ظن «أنه قد احتلم» أي: جامع في نومه «ولم ير بللًا» أي: رطوبة «فلا غُسل» واجب «عليه»؛ لأن البلل علامة، ودليل على احتلامه وهو مفقود. مرشد ذوي الحجا والحاجة (4/ 430).
وقال سحنون -رحمه الله-:
قال مالك: من انتبه من نومه فرأى بللًا على فخذيه، وفي فراشه، قال: ينظر فإن كان مذيًّا توضأ، ولم يكن عليه الغسل، وإن كان منيًّا اغتسل، قال: والمذي في هذا يعرف من المني، قال: وهو بمنزلة الرجل في اليقظة إذا لاعب امرأته إن أمذى توضأ، وإن أمنى اغتسل، قال: وقد يكون الرجل يرى في منامه أنه يجامع فلا يمني، ولكنه يمذي، وهو في النوم مثل من لاعب امرأته في اليقظة، قال: وقد يكون الرجل يرى في منامه أنه يجامع في منامه فلا ينزل، وليس الغسل إلا من المني.
وقال مالك: والمرأة في هذا بمنزلة الرجل في المنام في الذي يرى. المدونة (1/ 136).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
لا بد أنْ يتحقق أنه ماء نطفة مني، أما إذا وجد ماء وشك فيه، هل هو ماء نطفة ماء المني أو المذي أو غيرهما، فإنه لا يجب عليه الغسل؛ لأن الحدث مشكوك فيه، والأصل الطهارة، فلا يلزمه فإذا استيقظ فرأى بللًا، ولا يذكر احتلامًا، فإنه ينظر في هذا البلل، فإن كان منيًّا وجب عليه الغسل وإنْ لم يذكر احتلامًا، وإنْ كان مذيًّا فعليه أن يغسله؛ لأنه نجس، ينضحه نجاسة مخففة، وإن كان عرقًا أو ما أشبه ذلك فلا شيء فيه، فعليه أن يتأكد. شرح سنن الترمذي (24/ 4).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
فإِذا استيقظَ ووجد بللًا فلا يخلو من ثلاث حالات:
الأولى: أن يتيقَّنَ أنَّه مُوجِبٌ للغُسْل، يعني: أنَّه مَنِيٌّ، وفي هذه الحال يجبُ عليه أنْ يغتسل سواء ذَكَرَ احتلاماً أم لم يذكر.
الثانية: أنْ يتيقَّنَ أنه ليس بِمِنِيٍّ، وفي هذه الحال لا يجب الغُسْل، لكنْ يجب عليه أنْ يَغْسِلَ ما أصابه، لأن حُكْمَهُ حُكمُ البولِ.
الثالثة: أنْ يجهلَ هل هو منيٌّ أم لا؟ فإن وُجِدَ ما يُحَالُ عليه الحُكْم بِكونه منيًّا، أو مذيًا أُحِيلَ الحكم عليه، وإِنْ لم يوجد فالأصل الطَّهارة، وعدم وجوب الغُسْل، وكيفيَّة إِحالةِ الحُكْمِ أَنْ يُقال: إِنْ ذَكَرَ أنَّه احتلم فإِننا نجعله منيًّا، لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لما سُئِل عن المرأة تَرى في مَنَامِها ما يَرى الرَّجُلُ في منامه؛ هل عليها غسل؟ قال: «نعم، إِذا هي رأت الماءَ»، وإِنْ لم يَرَ شيئًا في منامه، وقد سبقَ نومَهُ تفكيرٌ في الجِماع جعلناه مذيًا، لأنَّه يخرج بعد التَّفكيرِ في الجِماع دون إِحساس، وإِنْ لَمْ يسْبِقْه تفكير ففيه قَوْلان للعلماء:
قيل: يجبُ أن يغتسلَ احتياطًا .
وقيل: لا يجب، وقد تعارضَ هُنا أصْلان. الشرح الممتع، طبعة ابن الجوزي(1/٣٣٦)