الخميس 27 رمضان 1446 هـ | 27-03-2025 م

A a

«إنَّ الرُّكنَ والمقام ياقُوتَتَان مِن ياقُوت الجَنَّة، طَمَسَ الله -عزَّ وجلَّ- نُورَهُما، وَلَوْلَا أنَّ الله طَمَس نُورَهُما لأضَاءَتا مَا بَين المشْرِق والمغْرِب».


رواه أحمد برقم: (7000)، والترمذي برقم: (878)، وابن حبان برقم: (3710)، من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-.
صحيح الجامع برقم: (3559)، وصحيح الترغيب والترهيب برقم: (1147).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«يَاقُوتَتَان»:
يُقال: فارسي مُعَرَّب، وهو (فَاعُول)، الواحدة (‌يَاقُوتَة)، والجمع (اليَوَاقِيت). الصحاح، للجوهري(1/ 271).
وقال نشوان الحميري -رحمه الله-:
الياقوت: جِنْس من الجواهر، وهو ثلاثة أنواع: أحمر، وأصفر، وأسود. شمس العلوم، للحميري(11/ 7371).

«طَمَسَ»:
الطاء والميم والسين، أصل يدل على مَحْو الشيء ومَسْحِه، يقال: طَمَسْتُ الخَطّ، وطَمَسْتُ الأَثَر، والشيء طَاْمِس أيضًا، وقد ‌طَمَسَ هو بنفسه. مقاييس اللغة، ابن فارس (3/ 424).
وقال الجوهري -رحمه الله-:
والطُّمُوس: الدُروس والامِّحاء، وقد ‌طَمَسَ الطريق يَطْمُسُ ويَطْمِسُ، وطَمَسْتُهُ طَمْسًا، يتعدى ولا يتعدى. الصحاح، للجوهري (3/ 944).


شرح الحديث


قوله: «الرُّكْنُ والمَقَام»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«الرُّكن»: بالضَّم، أصله الجانب القوي، والمراد هنا: الحجر الأسود. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/42).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«إن الركن» المراد به الحِجْر الأسود في الركن اليماني، يطلق عليها من إطلاق الكل على الجزء؛ لشرف الجزء. التنوير شرح الجامع الصغير (3/469).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«والمقام» مقام إبراهيم الخليل -عليه الصلاة والسلام- بِحِذَاء (مقابل) الكعبة. فيض القدير (2/343).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«والمقام» هو مقام إبراهيم -عليه السلام- وهو الحَجَر، فيه آثار قدميه الشريفتين، وهو الآن تحت البناء الذي يصلي الناس ركعتي الطواف خلفه (يحكي -رحمه الله- ما كان في زمنه)، رأيناه في سنة (1135) فتح لنا باب العمارة التي عليه، وكشفت الأستار، وإذا هو حجر ليس بالطويل، قد ألصق بالأرض، وفيه أثر قدمي الخليل -عليه السلام- إلى نحو الكعب أو أكثر، ومحل الأصابع قد انطمس كأنه لكثرة التبرك به قبل البناء عليه، أخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير قال: "الحَجَر مقام إبراهيم، ليَّنَه الله له، وكان يقوم عليه، ويناوله إسماعيل الحجارة، فهذا هو مقام إبراهيم".
وأما الموضع الذي يصلي فيه الناس ركعتي الطواف فليس هو المقام، وإنما سمي به للمجاورة. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 469).
وقال ابن جاسر -رحمه الله-:
تنبيه آخر: لقد وضع الملك فيصل بن عبد العزيز -يرحمه الله- بعد عصر يوم السبت ثامن عشر رجب سنة 1387 هـ، المقام بداخل زجاج محاط بشباك صغير طلبًا للتوسعة على الطائفين، وذلك بعدما أزيلت الأعمدة والشباك الكبير وسقفهما الذي على المقام -فجزاه الله أحسن الجزاء- والحمد لله رب العالمين. مفيد الأنام ونور الظلام (1/283).
وقال الزمخشري -رحمه الله-:
ومقام إبراهيم: الحَجَر الذي فيه أثر قدميه، والموضع الذي كان فيه الحَجَر حين وضع عليه قدميه، وهو الموضع الذي يسمى مقام إبراهيم. الكشاف (1/185).
وقال الصنعاني -رحمه الله متعقبًا للزمخشري-:
وقد فسره جار الله الزمخشري: بالحَجَر وبالموضع، وقد نبَّه بعض المحققين أنه خطأ. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 469).

قوله: «يَا قُوتَتَان مِن ياقُوت من الجنة»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«ياقوتتان» خبر ما تقدمه. التنوير شرح الجامع الصغير (3/470).
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«من ياقوت الجنة» المراد به الجنس، فالمعنى: أنهما من يواقيت الجنة. مرقاة المفاتيح (5/1790).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
واليَاقُوت حَجَر معروف من أنفس الأحجار وأثمنها، يكون بجزيرة خلف سَرَنْدِيب، يقال: إن الشمس إذا أشرقت على ذلك الجبل تراءت منه شعاعات كثيرة بوقوع شعاع الشمس على حصى الياقوت... فهذا ياقوت الدنيا الذي نسبته إلى ياقوت الجنة نسبة الأحلام إلى اليقظة. التنوير شرح الجامع الصغير (3/470).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
لما كان الياقوت من أشرف الأحجار، ثم كان بعد ما بين ياقوت هذه الدار الفانية، وياقوت الجنة أكثر مما بين الياقوت وغيره من الأحجار علمنا أنها من ياقوت الجنة؛ لنعلم أن المناسبة الواقعة بينهما وبين الأجزاء الأرضية في الشرف والكرامة، والخاصية المجعولة لهما كما بين ياقوت الجنة وسائر الأحجار، وذلك مما لا يُدرك بالقياس. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/606).
وقال الطيبي -رحمه الله متعقبًا-:
أقول: قد سبق مرارًا أن هذا النوع من الكلام ليس بتشبيه، ولا استعارة، وإنما هو من وادي قولهم: القلم أحد اللسانين، فـ«من» في «من ياقوت الجنة» بيانية، فإذًا الياقوت نوعان: متعارَف وغير متعارَف، وهذا من غير المتعارف، ولذلك أثبت له ما ليس للمتعارَف، من إضاءة ما بين المشرق والمغرب، وبهذا ظهر أن قول من قال: إن الحجر الأسود ليس من الجنة ضعيف. الكاشف عن حقائق السنن (7/1983)
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
والتأويل: أن فضلهما على سائر الأحجار كفضل ياقوت الجنة الباقية على ياقوت هذه الدنيا الفانية، وهذا لامتناع تبدل ما احتوت عليه الجنة وزواله. شرح مصابيح السنة (3/281).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله متقعبًا-:
وأما قولهم: إنا قد عرفنا بالنصوص الثابتة أن الجنة وما احتوت عليه من الجواهر مبايِنة لما خَلَق في هذه الدار الفانية في الخواص وحُكم الزوال والفناء وإحاطة الآفات بها فإن ذلك خَلْق الخالق محكمًا غير قابل لشيء من ذلك، وقد وجدنا الحَجَر أصابه الكسر حتى صار فَلَقًا، وذلك من أقوى أسباب الزوال.
فنقول: يمكن أن يكون فقدان خواص الجنة لنزوله إلى هذه الدار، وسراية أحوالها وأحكامها إليه، ويستأنس له بما يأتي من حديث عبد الله بن عمر: «أن الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة، طمس الله نورهما، ولو لم يطمس الله نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب».
وكما قالوا في الجواب عن قول الزائغين في كون «ما بين قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- ومنبره روضة من رياض الجنة» على تقدير كونه محمولًا على الحقيقة: إنه لو كان من الجنة لما نجوع ونظمأ فيها، وكما في عكس هذه الصورة من صعود بعض الأنبياء في السماء من عدم انحلال قواهم وفساد مزاجهم وتغير أحوالهم كما في الدنيا، فليكن ها هنا كذلك، والله على كل شيء قدير.
ومثل هذا الكلام في قوله: «أشد بياضًا فسودته خطايا بني آدم» بأن يكون في ابتداء نزوله أبيض، ثم جعل لذنوب بني آدم ومس أيديهم خاصية وسببية في تسويده. لمعات التنقيح (5/345).
وقال ولي الله الدهلوي -رحمه الله-:
يحتمل: أن يكونا من الجنة في الأصل، فلما جَعُدَ (اشتَد) في الأرض اقتضت الحكمة أن يراعى فيهما حكم نشأة الأرض، فطُمِسَ نورهما، ويحتمل: يراد أنه خالطهما قوة مثالية بسبب توجه الملائكة إلى تنويه أمرهما، وتعلق همم الملأ الأعلى والصالحين من بني آدم حتى صارت فيهما قوة ملكية. حجة الله البالغة (2/101).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
أما ‌النزول ‌من ‌الجنة فلا استحالة فيه؛ فإن الجنة فيها جواهر، فيمكن أن الله أنزل منها شيئًا إلى الأرض، حتى يحمل الإنزال على معنى القضاء والقسمة، أو معنى الخلق، أو إقامة إنزال الأسباب فيها مقام إنزالها نفسها كما في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} الحديد: 25 {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} الزمر:6. لمعات التنقيح (5/344).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
والأحاديث الصحيحة بأنها من الجنة حقيقة، لكنها لما نزلت إلى الأرض اكتسبت أوصافها أيضًا. مرقاة المفاتيح (2/ 590).

قوله: «طَمَسَ الله -عز وجل- نُورَهُما»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«طمس الله» أي: أذهب «نورهما» أي: بمساس المشركين لهما، ولعل الحكمة في طمسهما ليكون الإيمان غيبيًّا لا عينيًّا. مرقاة المفاتيح (5/1790).
وقال المناوي -رحمه الله-:
أي: ذهب به (أي نورهما)، لكون الخلق لا يتحملونه...، والخلق لا تطيق مشاهدة ذلك كما هو مشاهد في الشمس. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 286).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
والخلق لا تطيق مشاهدة ذلك كما يدل له قول ابن عباس -رضي الله عنهما- في الحَجَر: لولا ذلك ما استطاع أحد النظر إليه، فَطَمْسُ نورهما من ضرورة بقاء أهل الأرض. فيض القدير (2/343).
وقال التُّورِبِشْتي -رحمه الله-:
الذي طَمَس نورهما هو الله -سبحانه-، حكمةً بالغةً منه ...؛ لأنهم إذا عظَّموه حق تعظيمه من غير مشاهدة آية باهرة صح إيمانهم بالغيب، وذلك من أعلى مقامات أهل الإيمان، فيكون من أجدى الأشياء في محو الخطايا؛ لاقتضائها ذلك من طريق الحكمة. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/605).
وقال المظهري -رحمه الله-:
أي: أذهب الله نورهما؛ وعلة إذهاب الله نورهما ليكون إيمان الناس بكونهما حقًا، ومعظَّمًا عند الله إيمانًا بالغيب، ولو لم يطمس نورهما لكان الإيمان بهما إيمانًا بالشهادة؛ أي: بالمرئي، ولم يكن الإيمان بحقيقتهما إيمانًا بالغيب، والإيمان الموجب للثواب هو الإيمان بالغيب. المفاتيح في شرح المصابيح (3/294-295).
وقال المُلَّا علي القاري -رحمه الله-:
وهو لا ينافي ما صح أيضًا: «ولولا ما مسهما من خطايا بني آدم لأضاء ما بين المشرق والمغرب»؛ فإنهما لما مسَّتهما تلك الخطايا طمس الله نورهما، ومما يؤيد كون الركن من الجنة: أنه لما أخذته الكفرة القرامطة بعد أن غَلبوا بمكة حتى ملؤوا المسجد وزمزم من القتلى، وضَرَب الحَجرَ بعضهم بدبوس، قال: إلى كم تُعبد من دون الله؟ ثم ذهبوا به إلى بلادهم؛ نكاية للمسلمين، ومكث عندهم بضعًا وعشرين سنة، ثم لما صولحوا بمال كثير على ردِّه قالوا: إنه اختلط بين حجارة عندنا ولم نُمَيِّزه الآن من غيره، فإن كانت لكم علامة تميِّزه فأتوا بها ومَيِّزُوه، فسُئل أهل العلم عن علامة تميزه، فقالوا: إن النار لا تؤثر فيه؛ لأنه من الجنة، فذكروا لهم ذلك، فامتحنوا وصار كل حَجَر يلقونه في النار ينكسر حتى جاءوا إليه، فلم تقدر النار على أدنى تأثير فيه، فعلموا أنه هو فردُّوه. مرقاة المفاتيح (5/1791).

قوله: «ولولا أنْ طَمَس الله نورهما»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
الله أعلم ما الحكمة في طمس ذلك، وقد قيل: إنها عدم احتمال البشر لمشاهدة ذلك النور، كما لا يقدرون على مشاهدة عين الشمس. التنوير شرح الجامع الصغير (3/470).

قوله: «لأَضَاءَتا ما بين المشْرِق والمغْرِب»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أي: لاستنار بهما ما بين المشرق والمغرب. مرقاة المفاتيح (5/1790).
وقال المباركفوري -رحمه الله-:
أي: لأنارتاه. تحفة الأحوذي (3/527).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
تنبيه آخر: كان المقام من عهد إبراهيم لزق البيت، إلى أن أخَّره عمر -رضي الله عنه- إلى المكان الذي هو فيه الآن، أخرجه عبد الرزاق في مصنفه بسند صحيح عن عطاء وغيره وعن مجاهد أيضًا، وأخرج البيهقي عن عائشة مثله بسند قوي، ولفظه: «إن المقام كان في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي زمن أبي بكر ملتصقًا بالبيت ثم أخرجه عمر»، وأخرج ابن مردويه بسند ضعيف عن مجاهد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي حوَّله، والأول أصح، ولم تنكر الصحابة فعل عمر ولا من جاء بعدهم فصار إجماعًا، وكان عمر رأى أن إبقاءه يلزم منه التضييق على الطائفين أو على المصلين فوضعه في مكان يرتفع به الحرج، وتهيأ له ذلك؛ لأنه الذي كان أشار باتخاذه مصلى، وأول من عمل عليه المقصورة الموجودة الآن. مرعاة المفاتيح (9/ 113).
وقال ابن جاسر -رحمه الله-:
تنبيه: إذا حصل على الطائفين زحام من جهة مقام إبراهيم فإنه يسوغ تأخيره بقدر إزالة الضرر؛ لأن المقام ليس هو البقعة التي هو بها الآن وإنما هو نفس الحجر والله أعلم. مفيد الأنام ونور الظلام (1/283).


ابلاغ عن خطا