كنَّا في سفرٍ مع رسولِ اللَّهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فلمَّا غَرَبَتِ الشمسُ، قال لرجلٍ: «انْزِلْ فاجْدَحْ لِي»، قال: يا رسول اللَّهِ لو أَمْسَيْتَ، ثم قال: «انْزِلْ فاجْدَحْ»، قال: يا رسولَ اللَّهِ لو أَمْسَيْتَ، إنَّ عليك نهارًا، ثم قال: «انْزِلْ فَاجْدَحْ» فنزل فَجَدَحَ له في الثَّالثةِ، فشرب رسولُ اللَّهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، ثم أَوْمَأَ بيدِهِ إلى المشرِقِ، فقال: «إذا رَأَيْتُمُ اللَّيلَ قدْ أَقْبَلَ مِن ها هنا، فقدْ أَفْطَرَ الصَّائمُ».
رواه البخاري برقم: (5297) واللفظ له، ومسلم برقم: (1101)، من حديث عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«فَاجْدَحْ»:
بهمزة وصل، وجيم ساكنة، ودال مفتوحة، فحاء مهملتين، أي: حرِّكْ السَّويق بالماء أو اللبن. إرشاد الساري، للقسطلاني (8/ 168).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
والجَدَح: أن يُحَرّك السَّويقُ بالماء ويُخَوّض حتى يسْتَوي، وكذلك اللَّبَن ونَحْوه، والمِجْدَح: عُود مُجَنَّح الرَّأس تُساط به الأشْرِبة، وربَّما يكون له ثلاث شُعَب. النهاية (1/ 243).
شرح الحديث
قوله: «كنّا في سفر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
هذا السفر يشبه أن يكون سفر غزوة الفتح، ويؤيده رواية هشيم، عن الشيباني عند مسلم بلفظ: «كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر في شهر رمضان»، وقد تقدم أن سفره في رمضان منحصر في غزوة بدر وغزوة الفتح، فإن ثبت فلم يشهد ابن أبي أوفى بدرًا، فتعيَّنت غزوة الفتح. فتح الباري (4/ 197).
وقال العيني -رحمه الله-:
الحديث يدل على أن الصوم في السفر في رمضان أفضل من الإفطار؛ وذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان صائمًا وهو في السفر في شهر رمضان.
وقد اختلفوا في هذا الباب، فمنهم من رُوي عنه التخيير منهم: ابن عباس وأنس وأبو سعيد وسعيد بن المسيب وعطاء وسعيد بن جبر والحسن والنخعي ومجاهد والأوزاعي والليث.
وذهب قوم إلى أن الإفطار أفضل، منهم: عمر بن عبد العزيز والشعبي وقتادة ومحمد بن علي والشافعي وأحمد وإسحاق. عمدة القاري (11/ 43).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقد اختلفوا هل الصوم (في السفر) أفضل أم الفطر أم هما سواء؟
فقيل: الصوم أفضل؛ لما ورد في ذلك من صومه -عليه السلام- هو وعبد الله بن رواحة، ولغير ذلك من الأحاديث؛ ولقوله تعالى: {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ} الآية البقرة: 184، فعَمّ.
وقيل: الفطر أفضل؛ لقوله -عليه السلام-: «ليس من البِرِّ أن تصوموا في السفر»، ولقوله -عليه السلام-: «هي رخصة من الله، فمن شاء أخذ بها فحَسَنٌ، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه»، فقد جعل الفطر حسنًا، والصوم لا جناح فيه، فهذه إشارة إلى تفضيل الفطر على الصوم.
وقيل: بل الصوم والفطر سواء؛ لقوله للذي سأله عن الصيام في السفر: «إن شئتَ فصم، وإن شئتَ فأفطر»...
ذهب مالك والشافعي وأصحاب الرأي وكثير من السلف إلى أن الصوم أفضل.
وذهب ابن المسيب والأوزاعي وأحمد وإسحاق وعبد الملك بن الماجشون إلى تفضيل الفطر.
قال الخطابي: وذهبت فرقة إلى أن الأفضل الأيسرُ عليه والأسهل.
وروي عن عمر بن عبد العزيز وقتادة ومجاهد، وما ذكر في الأحاديث مِن فِطْرِ أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصومهم في السفر، وأنه لم يَعِبْ بعضهم على بعضٍ كله دليل على إجماعهم على جواز الأمرين، وخلافٌ لداود ومن وافقه من الظاهرية على تحريم الصوم في السفر. إكمال المعلم (4/ 66- 69).
قوله: «فلما غربت الشمس»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فلما غربت الشمس» تفيد معنى أزيد من معنى (رواية) غابت. فتح الباري (4/ 197).
قوله: «قال لرجل»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
لم يُسَمّ المأمور بذلك، وقد أخرجه أبو داود، عن مسدد شيخ البخاري فيه، فسماه، ولفظه: فقال: «يا بلال انزل»، وأخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم من طرق عن عبد الواحد، وهو ابن زياد شيخ مسدد فيه، فاتفقت رواياتهم على قوله: «يا فلان» فلعلها تصحفت، ولعل هذا هو السر في حذف البخاري لها.
وقد تقدّم في حديث عمر -رضي الله عنه- عند ابن خزيمة: قال: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا أقبل الليل…إلخ»، فَيَحْتَمِل أن يكون المخاطَب بذلك عمر، فإن الحديث واحدٌ، فلما كان عمر هو المقول له: «إذا أقبل الليل…إلخ» احتَمَل أن يكون هو المقول له أوّلًا: «اجدح»، لكن يؤيد كونه بلالًا قوله في رواية شعبة المذكورة: «فدعا صاحبَ شرابه»؛ فإن بلالًا -رضي الله عنه- هو المعروف بخدمة النبي -صلى الله عليه وسلم-. فتح الباري (4/ 198).
قوله: «انزل فَاجْدَحْ لي»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«انزل» يدل على أنه كان راكبًا، «فاجْدَحْ» قيل: أصل الفاء أن تدخل على المعلول؛ لأنها للتعقب، والمعلول يعقب العلة، وقد تدخل على العلة كما في الحديث، فإن الجدح علة للنزول، ومنه قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} البقرة: 197. شرح سنن أبي داود (10/ 348).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«فَاجْدَحْ لنا» أي: اخلط اللبن بالماء، والجَدْحُ: خلط الشيء بغيره، والْمُجَدَّحُ: الْمُخَوَّضُ، قالوا: وهو عُود في طرفه عُودان. المفهم (3/ 159).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
«فاجْدَحْ» بالجيم، ثم الحاء المهملة، فعلُ أمرٍ من الْجَدْحِ، وهو: تحريك السَّويق ونحوه بالماء بعُود يقال له: الْمِجْدَح، مُجَنَّحُ الرأس، وزعم الداوديّ أن معنى قوله: «اجْدَح لي» أي: احلُبْ، وغَلَّطوه في ذلك. فتح الباري (4/ 197).
قوله: قال: يا رسول الله لو أمسيتَ، ثم قال: «انزل فَاجْدَحْ» قال: يا رسول الله لو أمسيتَ؛ إن عليك نهارًا، ثم قال: «انزل فَاجْدَحْ» فنزل فجدح له في الثالثة»:
قال الكرماني -رحمه الله-:
قوله «لو أمسيتَ» (لو) إما للتمني، وإما للشرط، وجزاؤه محذوف، أي: لكنتَ مُتِمًّا للصوم ونحوه.
قوله: «قال: يا رسول الله» فإن قلتَ: إلى ما يرجع ضمير «قال»، ومن القائل به؟
قلتُ: إما عبد الله بن أبي أوفى وعدل عن الحكاية نفسه إلى الغيبة التفاتًا، وإما رجل يدل عليه السياق.
فإن قلتَ: لمَ خالف قولَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكرر المراجعة؟ قلتُ: لغلبة ظنه أن آثار الضوء التي بعد المغرب من بقية النهار لا يحل الفِطر إلا بعد ذهابه، مع ظنه أنه -صلى الله عليه وسلم- لم ينظر إلى ذلك الضوء نظرًا تامًّا، فقَصَد زيادة الإعلام ببقاء ذلك الضوء. الكواكب الدراري (9/ 124-125).
وقال الكوراني -رحمه الله- معقّبًا:
قال بعض الشارحين: فاعلُ «قال» في قوله: «قال: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لو أمسيتَ» يجوز أن يكون عبد الله بن أبي أوفى، التفت إلى الغيبة، وأن يكون رجلًا آخر دل عليه السياق، وأنا أقول: قول ابن أبي أوفى: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لبعض القوم: «قُم يا فلان» صريح في أنَّه خاطب غير ابن أبي أوفى، فلا التفات إلى ما زُعِمَ من التفات؛ لأنَّه يوجب تفكيك الضمائر من غير داعية، على أن في رواية أبي داود: «يا بلال» بدل «يا فلان»، وقد سلف أن مخالفة الرجل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان من باب النصح؛ لا ردًّا لقوله. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (4/ 300).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
«لو أمسيتَ» أي: أخَّرتَ إلى وقت المساء وتحقَّق، كقوله: «عليك نهارًا» في الرواية الأخرى؛ لأنه اعتقد أن بقية الضوء والحُمْرة بعد مغيب الشمس معتبرٌ في الصوم، وقيل: إنما أنكر تعجيل الفطر، وليس في قول الرَّجُل هذا مخالفة لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا معارضة، بل قصَدَ التنبيه على بقية الوقت عنده وظهور الحُمرة التي ظَن أن النبي -عليه السلام- لم يرها، أو التثبت والتعليم؛ ليبين له أن مثل هذا من بقايا شعاع الشمس، وما بعد مغيبها لا يُلتفت إليه، ولا يستحقه أمد الصوم، وأن مغيب قُرْصِها أوجب الفطر ودخل الليل، أو أن التعجيل بالإفطار أولى وأحق. إكمال المعلم (4/ 36-37).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
يَحْتَمِل أن يكون المذكور كان يَرَى كثرة الضوء من شدّة الصحو، فيَظُنّ أن الشمس لم تغرُب، ويقول: لعلها غطاها شيء من جبل ونحوه، أو كان هناك غيم فلم يتحقق غروب الشمس، وأما قول الراوي: «وغربَت الشمس» فإخبار منه بما في نفس الأمر، وإلا فلو تحقق الصحابيّ أن الشمس غربت ما توقف؛ لأنه حينئذٍ يكون معاندًا، وإنما توقف احتياطًا، واستكشافًا عن حكم المسألة. فتح الباري (5/ 361).
وقال العيني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: المراجعة معاندة، ولا يليق ذلك للصحابي؟
قلتُ: قد ذكرنا أنه ظنٌّ، فلو تحقق أن الشمس غربت ما توقف، وإنما توقف احتياطًا واستكشافًا عن حكم المسألة.
وقد اختلفت الروايات عن الشيباني في ذلك، فأكثر ما وقع فيها أن المراجعة وقعت ثلاثًا، وفي بعضها مرتين، وفي بعضها مرة واحدة، وهو محمول على أن بعض الرواة اختصر القصة. عمدة القاري (11/ 43).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقوله: «إن عليك نهارًا» أي: إن النهار باقٍ عليك؛ وإنما قال له ذلك؛ لأنه رأى ضوء الشمس ساطعًا، وإن كان جُرْمُها غائبًا، فأعرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الضوء، واعتبر غيبوبة جُرْمِ الشمس، ثم بيَّن ما يعتبره من لم يتمكن من رؤية جُرم الشمس، وهو: إقبال الظُّلْمة من المشرق. المفهم (3/ 159).
وقال النووي -رحمه الله-:
معنى الحديث: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كانوا صيامًا، وكان ذلك في شهر رمضان كما صرح به في رواية يحيى بن يحيى، فلما غربت الشمس أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجَدْحِ ليفطروا، فرأى المخاطَب آثار الضياء والحُمرة التي بعد غروب الشمس، فظن أن الفطر لا يحل إلا بعد ذهاب ذلك، واحتمل عنده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يرها، فأراد تذكيره وإعلامه بذلك، ويؤيد هذا قوله: «إن عليك نهارًا»؛ لتَوَهُّمه أن ذلك الضوء من النهار الذي يجب صومه، وهو معنى: «لو أمسيتَ» أي: تأخَّرتَ حتى يدخل المساء، وتكريره المراجعة لغلبة اعتقاده على أن ذلك نهار يحرم فيه الأكل، مع تجويزه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينظر إلى ذلك الضوء نظرًا تامًّا فقصد زيادة الإعلام ببقاء الضوء.
قوله: فشرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم أومأ بيده إلى المشرق، فقال: «إذا رأيتم الليل قد أقبل من ها هنا، فقد أفطر الصائم»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«فشرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم أومأ» أشار «بيده» الشريفة «إلى» جهة «المشرق فقال: إذا رأيتم الليل» أي: ظلامه «قد أقبل من ها هنا فقد أفطر الصائم» أي: دخل وقت فطره فصار مفطرًا حُكمًا، وإن لم يفطر حسًّا. إرشاد الساري (8/ 168).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «إذا رأيتم الليل أقبل من ها هنا» أي: من جهة المشرق.
فإن قلتَ: ما الحكمة في قوله: «إذا أقبل الليل من ها هنا»، وفي لفظ مسلم: «إذا رأيتم الليل قد أقبل من ها هنا؟»، وفي لفظ الترمذي عن عمر بن الخطاب: «إذا أقبل الليل وأدبر النهار وغربت الشمس فقد أفطر»، والإقبال والإدبار والغروب متلازمة؛ لأنه لا يُقبل الليل إلا إذا أدبر النهار، ولا يُدبر النهار إلا إذا غربت الشمس؟
قلتُ: أجاب القاضي عياض: بأنه قد لا يتفق مشاهدة عين الغروب، ويشاهد هجوم الظُّلمة حتى يتيقن الغروب بذلك فيحل الإفطار.
وقال شيخنا: الظاهر أنه أُريد أحد هذه الأمور الثلاثة؛ فإنه يعرف انقضاء النهار برؤية بعضها، ويؤيده اقتصاره في حديث ابن أبي أوفى على إقبال الليل فقط، وقد يكون الغيم في المشرق دون المغرب أو عكسه، وقد يشاهد مغيب الشمس فلا يحتاج معه إلى أمر آخر. عمدة القاري (11/ 43).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
قوله: «إذا رأيتم الليل قد أقبل من ها هنا...» لم يذكر في هذه الرواية إدبار النهار بخلاف الرواية السابقة، ولا تنافي بينهما؛ لاحتمال أن الأُولى محمولة على حالة الغيم فلا يكفي فيها إقبال الليل من جهة المشرق، بل لا بد من إدبار النهار من جهة المغرب، والرواية الثانية محمولة على حالة الصحو فيكتفى فيها بإقبال الليل من المشرق.
ويؤخذ منه: تعدد القصة، وما قيل من أن القصة واحدة، وأنّ أحد الرواة حفظ ما لم يحفظه الآخر بعيد. المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (10/ 76).
قال النووي -رحمه الله-:
قوله: «فقد أفطر الصائم» معناه: انقضى صومه وتمَّ، ولا يوصف الآن بأنه صائم؛ فإن بغروب الشمس خرج النهار ودخل الليل، والليل ليس محلًّا للصوم.شرح صحيح مسلم (7/209).
وقال المازري -رحمه الله-:
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «فقد أفطر الصائم» إن حُمل على أن المُراد به قد صار مفطرًا ولا بد فيكون ذلك دلالة على أن زمن الليل يستحيل الصوم فيه شرعًا.
وقد قال بعض العلماء: إن الإِمساك بعد الغروب لا يجوز وهو كإمساك يوم الفطر ويوم النحر، وقال بعضهم: ذلك جائزٌ وله أجر الصائم. المعلم بفوائد مسلم (2/ 48).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
في معنى «فقد أفطر» قولان: أحدهما: فقد دخل وقت الفطر، وجاز له.
والثاني: فقد صار في حكم المفطر وإن لم يأكل. كشف المشكل (1/ 84).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
وقوله -عليه السلام-: «فقد أفطر الصائم» يجوز أن يكون المراد به: فقد حلّ له الفطر، ويجوز أن يكون المراد به: فقد دخل في الفطر، وتكون الفائدة فيه: أن الليل غير قابل للصوم، وأنه بنفس دخوله خرج الصائم من الصوم، وتكون الفائدة على الوجه الأول: ذِكْرُ العَلَامَة التي بها يحصل جواز الإفطار، وعلى الوجه الثاني: بيان امتناع الوصال، بمعنى الصوم الشرعي، لا بمعنى الإمساك الحسي؛ فإنَّ من أمسك حسًّا فهو مفطر شرعًا، وفي ضمن ذلك: إبطال فائدة الوصال شرعًا؛ إذ لا يحصل به ثواب الصوم. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (2/ 27).
وقال ابن خزيمة -رحمه الله-:
هذه اللفظة: «فقد أفطر الصائم» لفظ خبر، ومعناه معنى الأمر: أي: فليفطر الصائم؛ إذ قد حل له الإفطار، ولو كان معنى هذه اللفظة معنى لفظه كان جميع الصوام فطرهم وقتًا واحدًا، ولم يكن لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفطر»، ولقوله: «لا يزال الدِّين ظاهرًا ما عجَّل الناس الفطر» معنًى، ولا كان لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «يقول الله -تبارك وتعالى-: أَحَبّ عبادي إليّ أعجلهم فطرًا» معنًى، لو كان الليل إذا أقبل وأدبر النهار وغابت الشمس كان الصُّوَّام جميعًا يفطرون، ولو كان فطر جميعهم في وقت واحد لا يتقدم فطر أحدهم غيره لَمَا كان لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن وجد تمرًا فليفطر عليه، ومَن لم يجد فليفطر على الماء» معنًى، ولكن معنى قوله: «فقد أفطر» أي: فقد حل له الفطر، والله أعلم. صحيح ابن خزيمة (3/ 273).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فقد أفطر الصائم» أي: دخل في وقت الفطر كما يقال: أَنْجَدَ، إذا أقام بِنَجْدٍ، وأَتْهَمَ إذا أقام بتهامة.
ويحتمل أن يكون معناه: فقد صار مفطرًا في الحكم؛ لكون الليل ليس ظرفًا للصيام الشرعي، وقد ردّ ابن خزيمة هذا الاحتمال، وأومأ إلى ترجيح الأول...، وقد يُجاب بأن المراد فِعْلُ الإفطار حسًّا؛ ليوافق الأمر الشرعي، ولا شك أن الأول أرجح، ولو كان الثاني معتمدًا لكان مَن حلف أن لا يفطر فصام فدخل الليل حنث بمجرد دخوله، ولو لم يتناول شيئًا، ويمكن الانفصال عن ذلك بأن الأيمان مبنية على العُرف، وبذلك أفتى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في مثل هذه الواقعة بعينها، ومثل هذا لو قال: إن أفْطَرْتُ فأنت طالق، فصادف يوم العيد لم تطلق حتى يتناول ما يفطر به، وقد ارتكب بعضهم الشطط فقال: يحنث، ويرجِّح الأول أيضًا رواية شعبة أيضًا بلفظ: «فقد حل الإفطار» وكذا أخرجه أبو عوانة من طريق الثوري، عن الشيباني. فتح الباري (4/ 197).
وقال العيني -رحمه الله-:
واختلفوا في أنه: هل يجب تيقُّن الغروب أم يجوز الفطر بالاجتهاد؟ وقال الرافعي: الأحوط ألا يأكل إلا بيقين غروب الشمس؛ لأن الأصل بقاء النهار فيُسْتَصْحَبُ إلى أن يستيقن خلافه، ولو اجتهد وغلب على ظنه دخول الليل بِوِرْدٍ وغيره ففي جواز الأكل وجهان:
أحدهما، وبه قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني: أنه لا يجوز، وأصحهما: الجواز، وإذا كانت البلدة فيها أماكن مرتفعة وأماكن منخفضة فهل يتوقف فطر سكان الأماكن المنخفضة على تحقق غيبة الشمس عند سكان الأماكن المرتفعة؟ الظاهر اشتراط ذلك.
وفيه: جواز الاستفسار عن الظواهر؛ لاحتمال أن يكون المراد إمرارها على ظواهرها. عمدة القاري (11/ 44).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال المهلب: إنما حضَّ -عليه السلام- على تعجيل الفطر لئلا يُزاد في النهار ساعة من الليل، فيكون ذلك زيادة في فروض الله؛ ولأن ذلك أرفق بالصائم وأقوى له على الصيام. شرح صحيح البخاري (4/ 104).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
ووقعت ببغداد نازلة تتعلق بهذا الحديث؛ وذلك أن رجلًا قال وهو صائم: امرأته طالق إن أفطرت على حار وعلى بارد، فرفعت المسألة إلى أبي نصر بن الصّبّاغ إمام الشافعية... فقال: هو حانث؛ إذ لا بد من الفِطر على أحد هذين، ورفعت المسألة إلى أبي إسحاق الشيرازي بالمدرسة فقال: لا حنث عليه؛ لأنها قد أفطرت بدخولها على غير هذين وهو دخول الليل، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وساق الحديث إلى قوله: «فقد أفْطَرَ الصائِمُ».
وفتوى ابن الصباغ أشبه بمذهب مالك -رضي الله عنه- في تعليق الأيمان بالمقاصد، وفتوى أبي إسحاق الشيرازي صريح مذهب الشافعي -رضي الله عنه-؛ فإنه يعلّقها بالألفاظ ولا يلتفت إلى المقاصد، وكما حرّم الطعَام والجماع على الصائم لعلّه يتَّقي بصيامه فمَه وفرجَه عن الشهوات، فكذلك يلزمه أن يصون جوارحه عن السيئات. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 479-480):.
وقال الخطابي -رحمه الله-:
وفيه: استحباب تعجيل الإفطار، وإنما أشار بيده إلى ناحية المشرق؛ فإن الليل وهو أُوَيِّل الظُّلمة لا يُقْبِل من ذلك الشق إلا وقد سقط القرص. أعلام الحديث(2/ 966).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: أن الصوم هو حكم مؤقَّت بأولٍ وآخر، فإذا انتهى إلى وقته زال حكمه، فإن أخَّر أحدٌ إفطاره فقد أعلمه هذا الحديث أن الله غير معتدٍّ له بصيامٍ بعد غروب الشمس؛ لأن وقت حكم الصيام قد زال، وهذا مما يكون داعيًا إلى تعجيل الفطر. الإفصاح عن معاني الصحاح (1/ 135-136).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
يستفاد من الحديث: بيان وقت الصوم، وتحديده، والرد على أهل الكتاب وغيرهم من الشيعة الذين قالوا: لا يفطر حتى تظهر النجوم، وأن الأمر الشرعي أبلغ من الحسي، وأن العقل لا يقضي على الشرع، بل هو قاضٍ عليه؛ حيث جَعَلَ دخول الليل فطرًا شرعًا، والبيان بذكر اللازم والملزوم جميعًا؛ فإن اللازم يلزم منه وجود الملزوم، ولا ينعكس؛ فإنه -عليه الصلاة والسلام- ذكر إقبال الليل وهو لازم، وإدبار النهار وهو ملزوم الفطر؛ للإِيضاح والبيان. الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (5/ 315-316).
وقال النووي -رحمه الله-:
وفيه: بيان انقضاء الصوم بمجرد غروب الشمس، واستحباب تعجيل الفطر، وتذكير العالِم ما يخاف أن يكون نسيَه، وأن الفطر على التمر ليس بواجب، وإنما هو مستحب لو تركه جاز، وأن الأفضل بعده الفِطر على الماء، وقد جاء هذا الترتيب في الحديث الآخر في سنن أبي داود وغيره في الأمر بالفطر على تمر، فإن لم يجد فعلى الماء فإنه طهور. شرح صحيح مسلم (7/ 210- 211).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
دلّ الحديث: على بيان نهاية وقت الصوم، وأنّ غروب الشمس متى تحقق حلَّ الفطر، وعلى مشروعية الصوم في السفر...، وعلى أنّ دلالة الفعل أقوى من دلالة القول؛ فإنه -صلى الله تعالى عليه وسلم- شرب ثم قال لهم: «إذا رأيتم الليل قد أقبل...». المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (10/ 76).
وقال عبد الله بن مانع الروقي -حفظه الله-:
قوله: «فاجدح لنا» إذا قلنا: إن السويق شيء قد مُرِّرَ على النار، ففيه رد على من قال: إنه يستحب الفطر على شيء لم تمسّه النار، وإذا لم يكن كذلك، فالأصل جواز الفطر على كل شيء أباحه الله، ولكن الأفضل أن يكون الفِطر كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث سلمان بن عامر الضبي الذي أخرجه الترمذي وغيره أنه يفطر على الرُّطَب وهو التمر الرَّطِب؛ لما فيه من الحلاوة؛ ولأنه يُسرع لإعادة ما نقص من قوة الصائم، فإن لم يجد فعلى تمرات، وإن لم يجد فعلى ماء، فإن لم يجد فعلى ما يسَّر الله من المباح. شرح كتاب الصوم من صحيح البخاري (ص: 147-148).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: الحديث):
1-منها: بيان وقت انقضاء الصوم، وخروج النهار.
2-ومنها: بيان استحباب تعجيل الفطر، وأنه لا يجب إمساك جزء من الليل مطلقًا، بل متى تَحَقَّق غروب الشمس حَلَّ الفطر.
3-ومنها: أن فيه تذكيرَ العالِم بما يُخْشَى أن يكون نسيه، وتَرْكُ المراجعة له بعد ثلاث.
4-ومنها: بيان وقت الصوم، وأن الغروب متى تَحَقَّق كفى.
5-ومنها: أن فيه إيماءً إلى الزجر عن متابعة أهل الكتاب؛ فإنهم يؤخِّرون الفطر عن الغروب.
6-ومنها: جواز الصوم في السفر، وتفضيله على الفطر لمن لا تلحقه بالصوم مشقة ظاهرة.
7-ومنها: بيان أنَّ الفطر على التمر ليس بواجب، وإنما هو مستحب، لو تركه جاز، وأن الأفضل بعده الفطر على الماء...
8-ومنها: بيان أن الأمر الشرعيّ أبلغ من الحسيّ، وأن العقل لا يقضي على الشرع.
9-ومنها: أن فيه البيانَ بذكر اللازم والملزوم جميعًا لزيادة الإيضاح. البحر المحيط الثجاج (20/ 586-587).