«سيأتي على الناس سنواتٌ خدَّاعات، يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتَمن فيها الخائن، ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرُّوَيْبِضَةُ»، قيل: وما الرّويبِضَة؟ قال: «الرَّجُل التّافِهُ في أَمرِ العامّة».
رواه أحمد برقم: (7912)، وابن ماجه برقم: (4036)، والحاكم برقم: (8439)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع، برقم: (3650)، سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم: (1887).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«سنواتٌ خدَّاعات»:
الخِداعُ: المكر والحيلة، وإضافة الخداع إلى السنوات مَجَازِيَّة، والمراد أهل السنوات.شرح سنن ابن ماجه للسيوطي (ص: 292).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
«سُنونٌ خَدَّاعة» أي: تكثر فيها الأمطار، ويقل الرَّيع، فذلك خداعها؛ لأنها تُطمعهم في الخصب بالمطر، ثم تُخلِف. وقيل: الخداعة: القليلة المطر، مِنْ خَدَعَ الرِّيق إذا جَفَّ.النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 14).
«الرُّوَيْبِضَةُ»:
تصغير الرَّابِضَة، وهو العاجز الذي رَبَضَ عن معالي الأمور، وقعد عن طلبها، وزيادة التاء للمبالغة.النهاية في غريب الحديث والأثر(2/ 185).
الرُّوَيْبِضَةُ: الوضيع من الناس.التوضيح لشرح الجامع الصحيح(19/ 603).
وقال البغوي -رحمه الله-:
وقيل: الرُّوَيْبِضَةُ، تصغير الرابضة، وهو راعي الرَّبِيضِ، والرَّبِيضُ: الغنم، والهاء للمبالغة.شرح السنة (1/ 12).
«التَّافِهُ»:
التَّافِهُ: الخسيس الحقير، هو مِن الشيء التَّافِهِ الحقير، يقال: تَفِهَ يَتْفَهُ فهو تَافِهٌ.النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 192).
«أمْرِ العامّة»:
أي: شؤون أكثرِ الناس، وأغلبِهم.مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (24/ 240).
شرح الحديث
قوله: «سيأتي على الناس سنواتٌ خدَّاعات»:
قال السّندي -رحمه الله-:
قوله: «سنواتٌ» جمع سَنَة، بعد ردِّها إلى الأصل، فإنَّ أصلها (سَنَوَ) بالواو، «خدَّاعاتٌ» بتشديد الدّال للمبالغة.حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/ 494).
وقال الهرري -رحمه الله-:
«سنوات خدَّاعات»:
بتشديد الدَّال، أي: كثيرة الخداع، من الخَدْع وهو المكر والحيلة، ووصْف السنوات بالخدَّاعات مجازيٌّ، والمراد بها: أهل السنوات.مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (24/ 239).
وقال السخاوي -رحمه الله-:
ومنها: -أي أشراط يوم القيامة- كون السنين الخدَّاعات قبله، ويمكن أن تكون هي الوارد أنه يُكذَّب فيها الصادق، ويُصدَّق فيها الكاذب، ويُخوَّن فيها الأمين، ويُؤْتَمن فيها الخائن، ويتكلَّم فيها الرُّوَيْبِضَةُ، أي: الرَّجُل التَّافِه في أمْرِ العامة، وهو المشار إليه بكون زعيم القوم أرذلهم وفاسقهم، وبذمِّ إمْرَة السفهاء، سيما وقد ثبت: «إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة».
فلا مانع من كون سببها: الجدب، وقد فُسِّر خداعها بكثرة الأمطار فيها، وقلة الرَّيع؛ لأنها تُطمِعُهم في الخصب بالمطر، ثم تُخْلِفُ، ويشهد له ما ثبت: «ليست السَّنَةُ ألا تُمطَروا، ولكن السَّنَة أن تُمطَروا، ثم لا تُنبتُ الأرضُ شيئًا».القناعة في ما يحسن الإحاطة من أشراط الساعة (1/ 38).
قوله: «يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق»:
قال الهرري -رحمه الله-:
«يُصدَّق» بالبناء للمجهول، «فيها» أي: في تلك السنوات، «الكاذبُ»، «ويُكذَّبُ» بالبناء للمجهول أيضًا، «فيها الصادقُ» ومثله الفِعْلان اللذان بعده.مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (24/ 240).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
يُكذَّبُ الصادق: وذلك لغلبة سُوء الظن، وخُبث الطباع.
ويحتمل: أنَّه أُريد به زمن الدجال، الذي يُكذَّب فيه أهل الإيمان.
«ويُصدّق فيه الكاذبُ» وهو الدجال الذي يَكذِبُ بدعوى الربوبية، ولوازمها من إحياء الموتى، ونحوه.التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 200).
قوله: «ويُؤْتَمَنُ فيها الخائن، ويُخوَّنُ فيها الأمين»:
قال ابن رجب -رحمه الله-:
وهذا كله من انقلاب الحقائق في آخر الزمان، وانعكاس الأمور.جامع العلوم والحكم (1/ 140).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وتخوين الأمين، وائتمان الخائن» أي: انقلاب الأمور عن وجهها.التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 580).
وقال الصنعاني أيضًا -رحمه الله-:
وذلك: لخُبث الطّباع، وانقلاب الأفكار عن الإصابة، فيرى المعروفَ منكرًا، والمنكرَ معروفًا.التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 200-201).
وقال الهرري -رحمه الله-:
قوله: «ويُؤْتَمَنُ فيها الخائنُ»:
أي: يوصَف فيها الخائن بالأمانة؛ لكونه ذَا غنىً ومال وجاه، وقوله: «ويُخوَّنُ فيها» أي: يوصف بالخيانة «الأمينُ»؛ لكونه فقيرًا أو وضيعًا.مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (24/ 240).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى يُؤْتَمَنُ الخائن، ويُسْتَخْوَن الأمينُ»، وهذا إنما يكون إذا غَلَب الجهل، وضعف أهل الحق عن القيام به، ونصرته.شرح صحيح البخاري (1/ 128).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
وفيه: أنَّ الساعة لا تقوم حتى يُؤْتَمَنُ الخائن، وهذا إنما يكون إذا غلب الجهّال، وضعُف أهل الحق عن القيام به، ونصرته.إرشاد الساري (1/ 155).
وقال الشيخ أحمد حطيبة -حفظه الله-:
لإنسان الأمين تُلفَّق له التُّهم أنه خائن ومخْتلِس ومُرْتَشٍ وكذا؛ لأنه يقول كلمة الحق، فيُخَوَّنُ الأمينُ، حتى ينزل من المكان الذي هو فيه؛ لكونه أمينًا.
«ويُؤْتَمَنُ الخائنُ» أي: أنَّ الإنسان الخائن يُعطَى المناصب الكبيرة، ويُعطى الودائع والأمانات، ويقال عنه: هذا أمين، وهم يعرفون أنه خائن.التفسير(503/ 11).
وقال الدكتور عمر سليمان الأشقر -رحمه الله-:
أخبرنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنَّ المقاييس التي يُقوَّم بها الرِّجَال تختلُّ قبل قيام الساعة، فيُقبل قول الكذَبة ويُصَدَّق، ويُردُّ على الصادق خبره، ويُؤْتَمَنُ الخونة على الأموال والأعراض، ويُخوَّن الأمناء ويُتهَمون، ويَتكلَّم التافهون من الرجال بالقضايا التي تهم عامة الناس، فلا يُقدِّمون إلا الآراء الفجَّة، ولا يهدون إلا الأمور المعوجَّة.
فقد أخرج الأمام أحمد وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «سيأتي على الناس سنواتٌ خداعات، يُصَدَّقُ فيها الكذاب، ويُكَذَّبُ فيها الصادق، ويُؤْتَمَنُ فيها الخائنُ، ويُخوَّنُ فيها الأمينُ، وينطق فيها الرُّوَيْبِضَةُ»، قيل: وما الرُّوَيْبِضَةُ؟ قال: «الرَّجُل التَّافِه يتكلم في أمر العامة».
ومَن تأمَّل في أحوال عالَمِنا اليوم وجد أننا نعيش في هذا العصر الذي أخبرنا فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- عنه، فالكَذَبَة من الكفار والمشركين الذي يملكون وكالات الأنباء والإذاعات، ومَن على طريقهم يُصَدَّقون، وأهل الصدق والعدل يُكذَّبون.
والأُمَّة الإسلامية تضع أموالها في أيدي الكفرة الخونة، ويُؤتَمنُون على ذلك، ويُخوَّن المسلمون، ولا يُؤْتَمَنُون على شيء من ذلك، وقد تكلَّم في شؤون العامة التافهون من الرجال، وقادوه قيادة هوجاء تُوشك أن تدمر البشرية جمعاء.القيامة الصغرى (ص:193).
قوله: «وينطق فيها الرُّوَيْبِضَةُ» قيل: وما الرُّوَيْبِضَةُ؟»:
قال الهرري -رحمه الله-:
«ويَنْطِقُ فيها» عند الإصلاح بين الناس «الرُّوَيْبِضَةُ» تصغير رابِضَة؛ وهو العاجز الذي ربَضَ عن معالي الأمور، وقعد عن طلبها، وتَاؤُهُ لِلمُبالغة؛ لكونه غنيًّا.
«قيل» لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو لأبي هريرة، واحد من الحاضرين عنده: «وما الرُّوَيْبِضَةُ» يا رسول الله، أو يا أبا هريرة؟ قال المسؤول منهما في جواب السائل: «الرُّوَيْبِضَةُ: الرَّجُلُ التَّافِه» أي: الوضيع الحسب، الدنيء النسب، القليل الفقه والعلم؛ لكونه غنيًّا ذا مال.مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (24/ 240).
وقال سيد عفيفي:
وتصغيره (الرويبضة) يُقلِّل من شأنه أكثر فأكثر، يُسمح لهؤلاء السفهاء من الناس بالحديث في أمر العامة، والحُكْم عليهم، وربما توجيه مسار حياتهم كذلك.
وهذا أيضًا من تمام سنوات خداعات منتكِسة المعايير، هذه الأمور تحدث الآن أمامنا كثيرًا في وسائل الإعلام.على أبواب القيامة (ص:47).
وقال الطحاوي -رحمه الله-:
فلم يكن فيما رويناه من هذه الآثار من ذِكْر الرُّوَيْبِضَةِ ما يُوجِب اختلافًا فيه مَن هو مِن الناس على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ لأنه قد يجوز أن يكون وصْفُه إياه بالفسق الذي يمنع مثله من الكلام في أمر العامة، ينطلق له في الدهر المذموم الكلام في أمر العامة، كما يكون فيه تصديق الكاذب، وتكذيب الصادق، وائتمان الخائن.
ويكون وصْفُه إياه بأنه لا يُؤبه له؛ لإعلانه بفسقه؛ ولأنه ممن لا حاجة بالناس إليه، فيكون بذلك خاملًا لا يؤبه له.
فاتفق -بحمد الله- المعنيان اللذان روينا في تفسير الرُّوَيْبِضَةِ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الباب، ولم يختلفا.شرح مشكل الآثار (1/ 405).
قوله: قال: «الرَّجُلُ التَّافِهُ في أمر العامة»:
قال أبو العباس القرطبي ـ رحمه الله ـ :
قال أبو عبيد: التَّافِهُ: الرّجل الخسيس الخامل من الناس، وكذلك كُلّ شيء خسيس فهو تافه، قال: ومما يُثبت حديث الرّويبضة، الحديث الآخر أنه قال: «مِن أشراط الساعة أن ترى رُعَاء الشَّاءِ رؤوسَ الناس، وأن ترى العراة الحفاة يتبارون في البنيان، وأن تلد الأَمَةُ ربَّتَهَا»، وذكر أبو عبيد في الغريب له في حديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : «لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والبخل، ويُخَوَّن الأمينُ ويُؤْتَمَن الخائنُ، ويهلك الوُعُولُ، ويظهر التُّحُوتُ».التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة(ص: 1245).
قوله: «في أمْر العامة»:
قال الهرري -رحمه الله-:
متعلِّقٌ بـ«ينطق» أي: شؤون أكثرِ الناس، وأغلبِهم.مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (24/ 240).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وقد ذكَر ابن أبي شيبة من حديث المقبري عن أبي هريرة قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «سيأتي على الناس سنواتٌ خدَّاعات، يُصدَّقُ فيها الكاذب..»، وقد رأينا أكثر هذه العلامات، وما بقي منها فغير بعيد.شرح صحيح البخاري (10/ 207).