«قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إني أراكَ تصومُ في شهرٍ ما لا أراكَ تصومُ في شهرٍ مثل ما تصومُ فيه، قالَ: أيُّ شهرٍ؟ قلتُ: شعبانُ، قالَ: شعبانُ بينَ رجبٍ وشهرِ رمضانَ، يغفُلُ الناسُ عنه، يُرفعُ فيه أعمالُ العبادِ، فأُحِبُّ أن لا يُرفعَ عَملي إلا وأنا صائمٌ».
رواه أحمد برقم: (21753)، والنسائي برقم: (2357)، والبيهقي في الشعب برقم: (3540) واللفظ له، وابن أبي شيبة برقم: (166)، والبزار برقم: (2617) من حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما-.
صحيح الجامع برقم: (3711)، والسلسة الصحيحة برقم: (1898).
شرح مختصر الحديث
.
شرح الحديث
قوله: «قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إني أراكَ تصومُ في شهرٍ ما لا أراكَ تصومُ في شهرٍ مثل ما تصومُ فيه، قالَ: «أيُّ شهرٍ؟» قلتُ: شعبانُ»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«قلتُ: يا رسول الله، لم أرك تصوم شهرًا من الشهور، ما تصوم من شعبان»، «ما» يحتمل أنْ تكون مصدرية، والمصدر المؤول مفعول «أرَ» أي: لم أرَ صومك.
ويحتمل أنْ تكون اسمًا موصولًا، أي: لم أرَ الذي تصومه من شعبان صائمًا إياه في سائر الشهور. ذخيرة العقبى(21/ 267).
قوله: قالَ: «شعبانُ بينَ رجبٍ وشهرِ رمضانَ»:
قال محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«بين رجب ورمضان» أراد -والله أعلم- أنهم يكثرون العبادة في هذين الشهرين، ويتساهلون بينهما في شعبان. ذخيرة العقبى (21/ 267).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«شعبان بين رجب وشهر رمضان» ليس المراد به: الإخبار عنه أنه بين ذلك، بل لأنهم قد كانوا بالنسيء الذي يفعلونه يحولونه عن زمانه هذا، ويقدمون ويؤخرون، وهم غير جاهلين؛ لكونه بين هذين الشهرين، أي: ذكر ذلك مقدمة لقوله: «تغفُلُ الناس عنه». التنوير (6/ 509).
قوله: «يغفُلُ الناسُ عنه»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قال -صلى الله عليه وسلم- مبينًا سبب إكثاره الصوم في شعبان: «ذلك شهر، يغفُلُ الناس عنه» بضم الفاء، من باب قعد: إذا ترك وسها. ذخيرة العقبى (21/ 267).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
في قوله: «يغفل الناس عنه» إشارة إلى أنَّ بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص، قد يكون غيره أفضل منه، إما مطلقًا، أو لخصوصية فيه، لا يتفطن لها أكثر الناس، فيشتغلون بالمشهور عنه، ويفوتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم.
وفيه: دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأنَّ ذلك محبوب لله -عز وجل- كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة، ويقولون: هي ساعة غفلة؛ ولذلك فضل القيام في وسط الليل المشمول الغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنْ استطعتَ أنْ تكون ممن يذكر الله في تلك الليلة فكن»؛ ولهذا المعنى كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يريد أنْ يؤخر العشاء إلى نصف الليل، وإنما علل ترك ذلك لخشية المشقة على الناس...
وفي هذا: إشارة إلى فضيلة التفرُّد بذكر الله في وقت من الأوقات لا يُوجَد فيه ذاكر له؛ ولهذا ورد في فضل الذكر في الأسواق ما ورد من الحديث المرفوع والآثار الموقوفة...، وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد:
منها: أنَّه يكون أخفى، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل، لا سيما الصيام، فإنَّه سر بين العبد وربه...
ومنها: أنَّه أشق على النفوس، وأفضل الأعمال أشقها على النفوس، وسبب ذلك أنَّ النفوس تتأسى بما تشاهد من أحوال أبناء الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعاتهم كثر أهل الطاعة لكثرة المقتدين بهم، فسهلت الطاعات، وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسى بهم عموم الناس، فيشق على نفوس المستيقظين طاعاتهم لقلة من يقتدون بهم فيها...
ومنها: أنَّ المفرد بالطاعة من أهل المعاصي والغفلة قد يدفع البلاء عن الناس كلهم، فكأنه يحميهم، ويدافع عنهم. لطائف المعارف (ص:130-132).
قوله: «يُرفعُ فيه أعمالُ العبادِ»:
قال السندي -رحمه الله-:
قوله: «يُرفع فيه أعمالُ» أي: أعمال السَّنة. حاشيته على مسند أحمد (5/196).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«تُرفع فيه» أي: في ليلة النصف منه «أعمال العباد» للعرض على الله. التيسير (2/ 77).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين» أي: فينبغي أنْ تكون الأعمال فيه صالحة، ولا سيما أفضل الأعمال، وهو الصوم. ذخيرة العقبى (21/ 267).
وقال المناوي -رحمه الله-:
فليستحِ عبد أنْ يعرض على مَن أنعم عليه من عمله ما نهاه عنه، ولا يعارضه خبر: «رفع عمل الليل قبل النهار، والنهار قبل الليل»؛ لأنها تعرض كل يوم، ثم تعرض أعمال الجمعة كل اثنين وخميس، ثم أعمال السَّنة في شعبان، فيعرض عرضًا بعد عرض، ولكل عرض حكمة استأثر بها الله، أو أطلع عليها مَن شاء، أو المراد: تعرض في اليوم تفصيلًا، ثم في الجمعة جملة أو عكسه. فيض القدير (2/ 426).
قوله: قال: «فأُحِبُّ أن لا يُرفعَ عَمَلي إلا وأنا صائمٌ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«فأحبُّ أنْ لا يُرفع عملي إلا وأنا صائم» أي: فأحبُّ أنْ أصوم شعبان؛ ولهذا ورد أنَّه ما كان يكثر الصوم بعد رمضان أكثر منه فيه. فيض القدير (4/ 161).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فأحبُّ أن لا يُرفع عملي إلا وأنا صائم» فلهذا كان لا يصوم في شهر بعد رمضان أكثر من شعبان.
إنْ قيل: هل في هذا الحديث دلالة على ندب صوم رجب؟ قلتُ: سُئلتُ عنه، وأُجيب بجواب بسيط حاصله: أنَّه لا دلالة فيه على ندب صومه، بل فيه الإخبار بأنَّ الناس لا يغفلون عن رجب ورمضان، فاحتمل أنهم لا يغفلون عن تعظيمه كما قدمناه، فإنَّه المعروف عندهم بأنَّه من الأشهر الحرم، وكانوا ينحرون فيه العتيرة، ويحتمل أنَّ المراد: لا يغفلون عن صومه، وغايته أن هذا الإخبار تقرير منه -صلى الله عليه وسلم- يدل على الجواز لا غير، ولا خلاف فيه، فلا دلالة على الندبية، هذا حاصل الجواب. التنوير (6/ 510).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
في صومه -صلى الله عليه وسلم- شعبان أكثر من غيره ثلاثة معانٍ:
أحدها: أنه كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فربما شغل عن الصيام أشهرًا، فجمع ذلك في شعبان؛ ليدركه قبل صيام الفرض.
الثاني: أنه فعل ذلك تعظيمًا لرمضان، وهذا الصوم يشبه سنة فرض الصلاة قبلها تعظيمًا لحقها.
الثالث: أنه شهر ترفع فيه الأعمال، فأحب -صلى الله عليه وسلم- أنْ يُرفَع عمله وهو صائم. تهذيب سنن أبي داود (1/ 494).
وقال النووي -رحمه الله-:
قيل في تخصيص شعبان بكثرة الصوم: لكونه ترفع فيه أعمال العباد، وقيل غير ذلك، فإن قيل: سيأتي قريبًا في الحديث الآخر أنَّ أفضل الصوم بعد رمضان صوم المحرم، فكيف أكثر منه في شعبان دون المحرم؟
فالجواب: لعله لم يعلم فضل المحرم إلا في آخر الحياة قبل التمكن من صومه، أو لعله كان يعرض فيه أعذار تمنع من إكثار الصوم فيه كسفر ومرض وغيرهما، قال العلماء: وإنما لم يستكمل غير رمضان؛ لئلا يظن وجوبه. المنهاج (8/ 37).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
بل قال في آخر حياته: «لئن بقيتُ إلى قابل لأصومنَّ التاسع»، وهذا مما يرد قول النووي -رحمه الله- أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- علم بفضل المحرم قبل وفاته، فلم يصمه. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 267).