الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

لم يَكنِ النبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- يصومُ شهرًا أكثرَ مِن شعبانَ، فإنَّه كانَ يصومُ شعبانَ كلَّهُ، وكانَ يقولُ: «خُذُوا مِن العملِ ما تُطِيقُونَ؛ فإنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حتَّى تَمَلُّوا»، وأحبُّ الصلاةِ إلى النبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- ما دُووِمَ عليه وإنْ قَلَّتْ، وكانَ إذا صلَّى صلاةً داومَ عليها».


رواه البخاري برقم: (1970) واللفظ له، ومسلم برقم: (782)، من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
وفي رواية لمسلم برقم: (746) «كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إذا عملَ عملًا أَثْبَتَهُ».


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«ما تُطِيقُونَ»:
أي: الذي تقدرون عليه، ولا تتكلَّفوا فوقَ ما تطيقونه، فتعجزوا. عمدة القاري، للعيني (11/ 75).

«لا يَمَلُّ»:
بفتح الياء التحتية، والميم، والملال: استثقال الشيء، ونفور النفس عنه بعد محبته، وهو مُحالٌ على الله تعالى باتفاق. حاشية السيوطي على سنن النسائي(2/ 64).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
يُقال: مَلِلْتُهُ، ومَلِلْتُ منه مَلَلًا، مِن باب تَعِبَ، ومَلَالَةً، سَئِمْتُ وضَجِرْتُ، والفاعِلُ مَلُولٌ، ويَتَعَدَّى بالْهمزةِ، فيقال: أَمْلَلْتُهُ الشيءَ. المصباح المنير (2/ 580).


شرح الحديث


قوله: «لم يكنِ النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- يصومُ شهرًا أكثرَ مِن شعبانَ»:
قال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
(أي) أنَّه -صلى الله عليه وسلم- لم يُكثر الصيام في شهر مثل ما أَكْثَرَ في شهر شعبان. فتح المنعم (5/ 35).

قوله: «فإنَّه كانَ يصومُ شعبانَ كلَّهُ»:
قال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
قولها: «فإنَّه كان يصوم شعبان كله» أي: أكثره؛ ليوافق الرواية السابقة («فما رأَيْتُ رسُولَ اللَّه اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إلا رمضانَ، وما رأَيْتُهُ أَكْثَرَ صيَامًا منْهُ فِي شعبانَ»)، أو هو على حذف أداة الاستثناء والمستثنى، أي: إلا قليلًا منه، بقرينة خبر: «فإنه كان يصومه كله تارة، وأكثره أخرى»؛ لئلا يتوهم وجوب صومه كله كرمضان. منحة الباري (4/ 410).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«كان يصوم شعبان كله» قيل: أي: في أول الأمر. مرقاة المفاتيح (4/ 1409).
وقال النووي -رحمه الله-:
«كله» أي: غالبه، وقيل: كان يصومه كله في وقت، ويصوم بعضه في سَنة أخرى، وقيل: كان يصوم تارة من أوَّله، وتارة من آخره، وتارة بينهما، وما يُخْلِي منه شيئًا بلا صيام، لكن في سنين. شرح مسلم (8/ 37).
وقال الطيبي -رحمه الله- مُتعقِّبًا النووي:
أقول: لفظة «كله» تأكيد لإرادة الشمول، ورفع التجوز من احتمال البعض، فتفسيره بالبعض منافٍ له، ولو جُعِلَ «كان» الثاني، وما يتعلَّق به استئنافًا؛ ليكون بيانًا للحالتين: حالة الإتمام، وحالة غيره، لكان أحسن وأعذب، فلو عطف بالواو لم يُحمل إلا على هذا التأويل. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1604).
وقال السنوسي -رحمه الله- مُعلِّقًا:
قلتُ: حاصل اختيار الطيبي: أنَّه كان يصومه كله في وقت، ويصوم بعضه في سَنة أخرى. مكمل إكمال الإكمال (3/171).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قول عائشة في حديث يحيى عن أبي سلمة بـ«أنه كان يصوم شعبان كُله» فليس على ظاهره وعمومه، والمراد: أكثره لا جميعه، وقد جاء ذلك عنها مفسرًا، روى ابن وهب عن أسامة بن زيد قال: حدثني محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة قال: سألتُ عائشة عن صيام رسول الله، فقالت: «كان يصوم حتى نقول: لا يُفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وكان يصوم شعبان أو عامة شعبان». شرح صحيح البخاري (4/ 116).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال الزين ابن المنير: إما أنْ يُحمل قول عائشة: «كله» على المبالغة، والمراد: الأكثر، وإما أنْ يُجمع: بأنَّ قولها الثاني متأخر عن قولها الأول، فأخبرت عن أول أمره: أنَّه كان يصوم أكثر شعبان، وأخبرت ثانيًا عن آخر أمره: أنه كان يصومه كُله، اهـ.
ولا يخفى تكلُّفه، والأول هو الصواب، ويؤيده رواية عبد الله بن شقيق عن عائشة عند مسلم وسعد بن هشام عنها عند النسائي، ولفظه: «ولا صام شهرًا كاملًا قط منذ قدم المدينة غير رمضان»، وهو مثل حديث ابن عباس المذكور في الباب الذي بعد هذا. فتح الباري (4/ 214).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله- معقبًا على كلام ابن المنير:
ولم أدرِ ما الحامل له على الجمع بهذا الذي هو عكس الترتيب اللفظي، مع أنَّ الجمع بما يُوافِق الترتيب اللفظي أوجَه، أي: كان أول أمره يصوم كله، فلما أسَنَّ وضعف صار يصوم أكثره. أشرف الوسائل (ص: 425).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
قلتُ: لعل الحامل وجهان:
أحدهما: أنَّه الأَولى منظرًا إلى الترقي إلى المقام الأعلى، لا سيما وقد أكد أمر الصوم في الآخر بفرضية رمضان، فقابله بزيادة الإحسان على الإحسان.
وثانيهما: أنَّ رواية النفي مُطْلَقة، ورواية الإثبات مقيَّدة بالرؤية، والظاهر: أنَّ الرؤية متأخرة لدلالتها على كمال قربها، وقوة حفظها، والله -سبحانه- أعلم. جمع الوسائل (2/ 97).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
قيل: الأولُ مفسِّرٌ للثاني، ومبينٌ بأنَّ المراد بالكل الأكثر.
وقيل: كان يصوم مرة كله، ومرة ينقص منه؛ لئلا يتوهم وجوبه.
وقيل في قولها: «كلَّه» أنَّه يصوم في أوله، وفي وسطه، وفي آخره، ولا يخص شيئًا منه، ولا يعمه بصيامه، كذا في الزركشي، قلتُ: الثلاثة كلها ضعيفة.
أما الأول: فلأن إطلاق الكل على الأكثر مع الإتيان به توكيدًا غيرُ معهود.
وأما الثاني: فلأن قولها: «كان يصوم شعبان كله» يقتضي تكرر الفعل، وأن ذلك عادة له على ما هو المعروف في مثل هذه العبارة.
وأما الثالث: فلأن أسماء الشهور إذا ذكرت غيرَ مضافٍ إليها لفظُ شهر، كان العمل عامًّا لجميعها، لا تقول: سرتُ المحرمَ، وقد سرتَ بعضًا منه، ولا تقول: صمتُ رمضانَ وإنما صمتَ بعضَه، فإنْ أضفت الشهر إليه لم يلزم التعميم، هذا مذهب سيبويه، وتبعه عليه غيرُ واحد.
قال الصفار: ولم يخالف في ذلك إلا الزجَّاجُ، فينبغي أنْ يُفكر في وجه الجمع بغير هذه الطرق، ويمكن أنْ يُقال: إنَّ قولها: «وما رأيته أكثرَ صيامًا منه في شعبان» لا ينفي صيامَه بجميعه، فإنَّ المراد: أكثريةُ صيامه فيه على صيامه في غيره من الشهور التي لم يفرض فيها الصوم؛ وذلك صادق بصومه كله؛ لأنه إذا صامه جميعه صدق أنَّ الصوم الذي أوقعه فيه أكثرُ من الصوم الذي أوقعه في غيره ضرورةَ أنَّه لم يصم غيره مما عدا رمضان كاملًا.
فإنْ قلتَ: فماذا تصنع بقولها في هذا الحديث: «لم يستكمل صيامَ شهرٍ إلا رمضان»؟
قلتُ: يُحمل على الحذف، أي: إلا رمضان وشعبان؛ بدليل قولها في الطريق الأخرى: «فإنَّه كان يصوم شعبانَ كلَّه» وحَذفُ المعطوفِ والعاطفِ جميعًا ليس بعزيز في كلامهم، ففي التنزيل: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} الحديد: 10، أي: ومَنْ أنفقَ من بعدِه، وفيه {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} النحل: 81، أي: والبرد، وفيه: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} البقرة: 196، أي: فإن أحصرتم فحللتم، وفيه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} البقرة: 196، أي: فحلقَ.
ويمكن الجمع بطريق أخرى، وهي أن يكون قولها: «وكان يصوم شعبان كله» محمولًا على حذف أداة الاستثناء والمستثنى، أي: إلا قليلًا منه، ويدل عليه ما حكاه ابن بطال عن عبد الرزاق: أنه روى من طريق أبي سلمة قال: «سألتُ عائشةَ عن صيامِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-» فذكرتْ الحديثَ، وقالت: «ما رأيتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- أكثرَ صيامًا منه في شعبان؛ فإنه كان يصومه كله إلا قليلًا»، فإنْ قلتَ: من ذا الذي من أئمة العربية أجاز مثلَ هذا الحذف؟
قلتُ: قال ابن هشام في مُغْنيه: والله لا أعلم أحدًا أجازه إلا أنَّ السهيلي قال في قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} الكهف: 23: إن الأصل: «إلا قليلًا» إلا أن يشاء الله، فتضمن كلامُه حذفَ أداة الاستثناء والمستثنى جميعًا.
فإنْ قلتَ: فهذا مثلُ الوجه الذي أنكرتَه من كونِ الكلِّ بمعنى الأكثر.
قلتُ: هو في المعنى مثله، إلا أنَّ هذا مستنِدٌ إلى تنزيل اللفظ على المقصود بطريقٍ قال بها بعضُ النحاة، وليس الأولُ كذلك، وقد استبان لك وجهُ الجمع على تقدير أنْ يكون الواقع صيامه لشعبان كله، أو لأكثره، فتأمله. مصابيح الجامع (4/384- 387).
وقال العيني -رحمه الله-:
قالوا: معنى: «كله» أكثره، فيكون مجازًا. قلتُ: فيه نظر من وجوهٍ:
الأول: أنَّ هذا المجاز قليل الاستعمال جدًّا.
والثاني: أنَّ لفظة: (كل) تأكيد لإرادة الشمول، وتفسيره بالبعض منافٍ له.
والثالث: أنَّ فيه كلمة الإضراب، وهي تنافي أنْ يكون المراد الأكثر؛ إذ لا يبقى فيه حينئذٍ فائدة.
والأحسن أنْ يُقال فيه: إنَّه باعتبار عامين فأكثر، فكان يصومه كله في بعض السنين، وكان يصوم أكثره في بعض السنين، وذكر بعض العلماء أنه وقع منه -صلى الله عليه وسلم- وَصْلُ شعبان برمضان، وفصله منه؛ وذلك في سنتين فأكثر. عمدة القاري (11/ 84).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
وبالجملة: تنزيل الأكثر منزلة الكل من عادة الناس في المحاورات مبالغة، وفي نسخة: «وكان يصوم» بالواو، وعلى هذا يكون المعنى: كان يصوم تارة كله، وأخرى أكثر، وهذا أحسن وأقوى، فافهم. لمعات التنقيح (4/ 468).
وقال الترمذي -رحمه الله-:
وروي عن ابن المبارك أَنه قال في هذا الحديث: هو جائز في كَلام العَرب إذا صام أكثر الشهر أن يُقال: صام الشَّهر كُله، ويُقال: قام فلان ليله أَجمع، ولعله تعشَّى واشتغل ببعض أَمره، كأن ابن المبارك قد رأى كِلا الحديثين متفقين، يقول: إِنما معنى هذا الحديث أَنه كان يصوم أكثر الشهر. سنن الترمذي رقم: (737).
وقال النووي -رحمه الله-:
فإنْ قيل: (جاء) في الحديث الآخر: «أنَّ أفضل الصوم بعد رمضان صوم المحرم» فكيف أكثر منه في شعبان دون المحرم؟!
فالجواب: لعله لم يعلم فضل المحرم إلا في آخر الحياة قبل التمكُّن من صومه، أو لعله كان يَعْرِضُ فيه أعذار تمنع من إكثار الصوم فيه، كسفر ومرض وغيرهما. شرح مسلم (8/ 37).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
بل قال في آخر حياته: «لئن بقيتُ إلى قابل لأصومنَّ التاسع» وهذا مما يرد قول النووي -رحمه الله-: إنّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- عَلِم بفضل المُحرم قبل وفاته، فلم يصمه. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 267).

قوله: «وكان يقولُ: خُذُوا مِن العملِ ما تُطِيقُونَ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «خذوا من العمل» في رواية: «من الأعمال». التيسير (1/ 513).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
قوله: «من الأعمال» المندوبة. فتح الإله (5/82).
وقال الباجي -رحمه الله-:
قوله: «من العمل» الأظهر أنَّه أراد به عمل البِر؛ لأنه ورد على سببه، وهو قول مالك: إنَّ اللفظ الوارد مقصور عليه، والثاني: أنَّه لفظٌ ورد من جهة صاحب الشرع، فيجب أنْ يُحمل على الأعمال الشرعية. المنتقى شرح الموطأ (1/ 213).
وقال ابن حجر -رحمه الله- مُعلِّقًا:
قلتُ: سبب وروده خاص بالصلاة، ولكن اللفظ عام، وهو المعتبر. فتح الباري (1/ 102).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «ما تطيقون» أي: تطيقون الدوام عليه بلا ضرر، أو اجتناب التعمُّق في جميع أنواع العبادات. عمدة القاري (11/ 85).
وقال الباجي -رحمه الله-:
يحتمل معنيين:
أحدهما: النَّدب لنا إلى تكلُّف ما لنا به طاقة من العمل.
والثاني: نهينا عن تكلُّف ما لا نطيق، والأمر بالاقتصار على ما نطيقه، وهو الأليق بنفس الحديث. المنتقى شرح الموطأ (1/ 213).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
«بما تطيقون» أي: اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه، فمنطوقه يقتضي الأمر بالاقتصار على ما يُطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلُّف ما لا يُطاق. فتح الباري (1/ 102).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «عليكم من الأعمال ما تطيقون» هذا حضٌّ على التخفيف في أعمال النوافل، ويتضمَّن الزجر عن التشديد، والغلو فيها، وسبب ذلك: أنَّ التخفيف يكون معه الدوام والنشاط، فيكثر الثواب لتكرار العمل، وفراغ القلب، بخلاف الشاق منها؛ فإنَّه يكون معه التشويش، والانقطاع غالبًا. المفهم (2/ 413).

قوله: «فإنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حتَّى تَمَلُّوا»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «فإنَّ الله لا يمل حتى تملوا» وفي الرواية الأخرى: «لا يسأم حتى تسأموا». إكمال المعلم (3/ 147).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«فإنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ» أي: يقطع ثوابه؛ إعراضًا عن مكافأتكم على أعمالكم «حتَّى تَمَلُّوا» فتتركوا العمل كسلًا، أو تأتوا به على وجه لا ثواب فيه، كما تقرَّر. فتح الإله (5/82)
وقال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «فإنَّ الله لا يمل حتى تملوا» أي: لا يعرض عنكم إعراض الملول عن الشيء، أو لا يقطع الثواب عنكم، ما بقي لكم نشاط للطاعة. التيسير (1/ 513).
وقال المازري -رحمه الله-:
الملالة التي بمعنى السآمة لا تجوز على الله -سبحانه-، وقد اختُلف في تأويل هذا الحديث، فقيل: إنَّما ذلك على معنى المقابلة، أي: لا يدَعُ الجزاء حتَّى تَدَعُوا العمل، وقيل: (حتى) ها هنا بمعنى الواو، فيكون قد نفى عنه جلَّت قدرته الملل، فيكون التقدير: لا يملُّ وتملُّون، وقيل: (حتى) بمعنى (حين). المعلم (1/ 457-458).
وقال النووي -رحمه الله-:
قال العلماء: الملل والسآمة بالمعنى المتعارف في حقنا محالٌ في حق الله تعالى، فيجب تأويل الحديث، قال المحققون معناه: لا يعاملكم معاملة المالّ، فيقطع عنكم ثوابه وجزاءه وبَسْط فضله ورحمته، حتى تقطعوا عملكم.
وقيل: معناه: لا يمل إذا مللتم، قاله ابن قتيبة وغيره، وحكاه الخطابي وغيره، وأنشدوا فيه شعرًا، قالوا: ومثاله قولهم في البليغ: فلان لا ينقطع حتى يقطع خصومه، معناه: لا ينقطع إذا انقطع خصومه، ولو كان معناه: ينقطع إذا انقطع خصومه لم يكن له فضل على غيره. شرح مسلم (6/ 71).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
قوله: «لا يمل حتى تملوا» حثٌّ على العمل، وهذا وصف يقوم بالله، مَلَلٌ يقوم بالله لا نقص فيه. الحلل الإبريزية (2/ 154).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله- أيضًا: مللٌ يليقُ بالله، لا يُشابه صفات المخلوقين في مَلَلِهِم، فالمخلوقون لديهم نقص وضعف، وأما صفات الله فهي كاملة تليق به سبحانه، لا يُشابه خَلْقَه، وليس فيها نقص ولا عيب، بل هي صفات تليق بالله -سبحانه وتعالى-، لا يشابه فيها خَلقه -جل وعلا-. فتاوى نور على الدرب (3/ 158).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «فإنَّ الله لا يمل حتى تملوا» من العلماء مَن قال: إنَّ هذا دليل على إثبات الملل لله، لكن مَلَل الله ليس كمَلَلِ المخلوق؛ إذ إنَّ مَلَلَ المخلوق نقصٌ؛ لأنه يدل على سأمه وضجره من هذا الشيء، أما ملل الله فهو كمال، وليس فيه نقص، ويجري هذا كسائر الصفات التي نثبتها لله على وجه الكمال، وإنْ كانت في حق المخلوق ليست كمالًا.
ومن العلماء مَن يقول: إنَّ قوله: «لا يمل حتى تملوا» يراد به بيان أنَّه مهما عملتَ من عمل فإنَّ الله يجازيك عليه، فاعمل ما بدا لك، فإنَّ الله لا يمل من ثوابك حتى تمل من العمل، وعلى هذا فيكون المراد بالملل لازم الملل.
ومنهم مَن قال: إنَّ هذا الحديث لا يدل على صفة الملل لله إطلاقًا؛ لأن قول القائل: لا أقوم حتى تقوم، لا يستلزم قيام الثاني، وهكذا أيضًا «لا يمل حتى تملوا» لا يستلزم ثبوت الملل لله -عز وجل-.
وعلى كل حال يجب علينا أنْ نعتقد أنَّ الله تعالى منزه عن كل صفة نقص من الملل وغيره، وإذا ثبت أنَّ هذا الحديث دليل على الملل، فالمراد به ملل ليس كملل المخلوق. مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (1/ 174-175).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
ليس في هذا الحديث إثبات الملل لله -عز وجل- صريحًا، بل هو من باب مفهوم المخالفة، وأما صريحه فنفي الملل عنه، فلا ينبغي أنْ نثبت به صفة الملل، فالأولى عندي قول بعضهم: إنَّ (حتى) هنا بمعنى الواو، وليست للغاية، فيكون المعنى: إنَّ الله لا يمل وأنتم تملون، أو يكون المعنى: لا يمل إذا مللتم، والمراد به تشجيعهم على المداومة على الأعمال القليلة التي لا تنقطع، ولا تؤدي إلى الملل؛ حيث إنَّ الله تعالى لا يلحقه ملل، فلا ينبغي للعبد أنْ يملَّ عن الإقبال عليه؛ إذ يؤدي ملَلُه إلى إعراض الله عنه، فإن مَن أعرض عن الله أعرض الله عنه. ذخيرة العقبى (9/ 486).
وقال عبد الله العتيبي -حفظه الله-:
فهذا الحديث ليس فيه صراحة إثبات هذه الصفة، وشيخنا ابن باز يُثبت هذه الصفة على وجه لا يماثل المخلوقين؛ لأنَّ صفات الله لا نقص فيها، أما تفسيرها، فليس من باب التأويل على قول بأنَّها صفة، بل من باب التفسير باللازم، والسلف إذا أثبتوا صفة رُبما فسروها باللازم أحيانًا، فالراجح عندي أنَّه لا تثبت صفة الملل لله -عز وجل-. شرح كتاب الصوم من صحيح البخاري (ص: 170).
قوله: «وأحبُّ الصلاةِ إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ما دُووِمَ عليه، وإنْ قَلَّتْ»:
قال ابن الملقن -رحمه الله-:
قوله: «وأحبُّ الصلاةِ» وفي لفظٍ: «أحبُّ الأعمالِ». التوضيح (13/ 444).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
قوله: «إلى النبي» وفي نسخة: «إلى الله»، «ما دُووِمَ عليه»، وفي نسخة: «ديم عليه». منحة الباري (4/ 410).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «وإنَّ أحب الأعمال إلى الله ما دُوِومَ عليه، وإنْ قل» هكذا ضبطناه «دُووِمَ عليه»، وكذا هو في معظم النُّسخ «دُووِمَ » بواوين، ووقع في بعضها «دوم» بواو واحدة، والصواب الأول. شرح مسلم (6/ 71).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «دُووِمَ » بلفظ مجهول، ماضي المداومة والدوام. الكواكب الدراري (9/ 132).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
إنَّما أحبَّ الدائم لمعنيين:
أحدهما: أنَّ المقبِل على الله -عز وجل- بالعمل إذا تركه من غير عذر كان كالمعْرِضِ بعد الوصل، فهو مُعَرَّض للذم؛ ولهذا ورد الوعيد في حق من حفظ آية ثم نسيها، وإنْ كان قبل حفظها لا يتعين عليه الحفظ، ولكنه أعرض بعد المواصلة، فَلاقَ به الوعيد، وكذلك يُكره أنْ يُؤْثِر الإنسان بمكانه من الصف الأول؛ لأنه كالراغب عن القُرب إلى الله -عز وجل-؛ ولهذا قال -عليه السلام- لعبد الله بن عمرو: «لا تكونن مثل فلان؛ كان يقوم الليل فترك قيام الليل».
والثاني: أنَّ مُداوم الخير ملازم للخدمة، فكأنَّه يتردد إلى باب الطاعة كل وقت، فلا يُنسى من البر لتردده، وليس كمن لازم الباب يومًا دائمًا، ثم انقطع شهرًا كاملًا. كشف المشكل (4/ 278-279).
وقال النووي -رحمه الله-:
وفيه: الحث على المداومة على العمل، وأنَّ قليله الدائم، خير من كثير ينقطع؛ وإنَّما كان القليل الدائم خيرًا من الكثير المنقطع لأن بدوام القليل تدوم الطاعة والذكر والمراقبة والنية والإخلاص، والإقبال على الخالق -سبحانه وتعالى-، ويثمر القليل الدائم، بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافا كثيرة. شرح مسلم (6/ 71).
وقال المناوي -رحمه الله-:
وفيه: فضيلة الدوام على العمل، ورأفة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بأمَّته؛ حيث أرشدهم إلى ما يصلحهم، وهو ما يمكنهم الدوام عليه بلا مشقة؛ لأن النفس فيه أنشط، وبه يحصل مقصود العمل، وهو الحضور، هذا عصارة ما قيل في توجيه الدوام في هذا المقام.
وأقول: يُحتمل أنْ يكون المراد بالدوام: الترفق بالنفس، وتدريبها في التعبُّد؛ لئلا تضجر، فيكون من قبيل: «إنَّ لجسدك عليك حقًّا»، يقال: استدمتُ الأمر: ترفقتُ به وتمهلتُ، واستدمتُ غريمي: رفقتُ به. فيض القدير (1/ 166).

قوله: «وكان إذا صلَّى صلاةً داومَ عليها»:
قال السهارنفوري -رحمه الله-:
«وكان» -صلى الله عليه وسلم- «إذا صلَّى صلاة» أي: من النوافل «داوم عليها»؛ لأنَّ أحبَّ الأعمال عنده -عليه السلام- أدومها. بذل المجهود (5/ 599-600).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وكان هذا في غالب نوافله -صلى الله عليه وسلم-، وإلا فإنَّه قد صلى الضحى وتركها. التنوير (8/ 422).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
صلاة الضحى فإنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يداوم عليها، باتفاق أهل العلم بسُنته. الفتاوى الكبرى (2/ 114).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
ولا يبعد أنْ يُقال: المراد بالدوام الغالب، لا التمام، أو كان يداوم إذا لم يخف المشقة على الأمَّة بالمتابعة، أو عند عدم خشية الوجوب، أو إذا لم يمنع مانع، أو لم يحدث أمر أفضل مما كان يداوم عليه، والله أعلم...، والمعنى: ما يُواظِب عليه مواظبة عُرفية، وإلا فالمداومة الحقيقية الشاملة لجميع الأزمنة غير ممكنة، ولا لأحدٍ من الخَلْق عليه مقدرة. جمع الوسائل (2/ 107-109).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
قولها: «وكان إذا صلَّى صلاةً داوم عليها» وفي الإدامة والمواظبة فوائد، منها: تخلُّق النفس واعتيادها، ولله در القائل:
هي النفس ما عودتها تتعوَّدُ.
والمواظب يتعرَّض لنفحات الرحمة، قال -عليه الصلاة والسلام-: «إنَّ لربكم في أيام دهركم نفحات، أَلَا فتَعَرَّضوا لها». إرشاد الساري (3/ 403).
وقال المناوي -رحمه الله-:
أي: داوَمَ عليها؛ بأنْ يُواظِب على إيقاعها في ذلك الوقت أبدًا؛ ولهذا لما فاته سُنة العصر لم يزل يصليها بعده، وما تركها حتى لقي الله، وقد عدوا المواظبة على ذلك من خصائصه. فيض القدير (5/ 148).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«وكان إذا صلى صلاةً داوم عليها» فيه: أنَّه ينبغي لسالك طريق الآخرة وكل أحد أنْ لا يتحمَّل من العبادة إلا ما يطيق الدوام عليه، ثم يُحافظ عليه، ولا يتركه. شرح سنن أبي داود (6/ 552).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
(فيه) مشروعية إكثار الصوم في شعبان...، وهل يُؤخَذ منه: بيان ضعف الحديث الذي رواه أبو هريرة: «إذا انتصف شعبان فلا تصوموا»؟
نعم، كيف ذلك؟ لأنَّه كان يكثر الصيام في شعبان. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 267).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
(الحديث) يدل على أنَّه يصومه كله أحيانًا، وربما أفطر بعضه. الحلل الإبريزية (2/ 154).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
اختُلف في الحكمة في إكثاره -صلى الله عليه وسلم- من صوم شعبان، فقيل: كان يشتغل عن صوم الثلاثة أيام من كل شهر لسفر أو غيره، فتجتمع فيقضيها في شعبان، أشار إلى ذلك ابن بطال، وفيه حديث ضعيف أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق ابن أبي ليلى عن أخيه عيسى عن أبيه عن عائشة: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فربما أخَّر ذلك حتى يجتمع عليه صوم السَّنة، فيصوم شعبان» وابن أبي ليلى ضعيف....
وقيل: كان يصنع ذلك لتعظيم رمضان، وورد فيه حديث آخر أخرجه الترمذي من طريق صدقة بن موسى عن ثابت عن أنس قال: «سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم- أي الصوم أفضل بعد رمضان؟ قال: شعبان؛ لتعظيم رمضان» قال الترمذي: حديث غريب، وصدقة عندهم ليس بذاك القوي، قلتُ: ويعارضه ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «أفضل الصوم بعد رمضان صوم المحرم».
وقيل: الحكمة في إكثاره من الصيام في شعبان دون غيره: أنَّ نساءه كنَّ يقضين ما عليهن من رمضان في شعبان، وهذا عكس ما تقدَّم في الحكمة في كونهن كنَّ يؤخرن قضاء رمضان إلى شعبان؛ لأنه ورد فيه أنَّ ذلك لكونهن كنَّ يشتغلن معه -صلى الله عليه وسلم- عن الصوم.
وقيل: الحكمة في ذلك: أنه يعقبه رمضان وصومه مُفترض، وكان يكثر من الصوم في شعبان قدر ما يصوم في شهرين غيره؛ لما يفوته من التطوع بذلك في أيام رمضان.
والأَولى في ذلك: ما جاء في حديث أصح مما مضى أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة عن أسامة بن زيد قال: قلتُ: يا رسول الله، لم أَرَكَ تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: «ذلك شهر يغفل الناس عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين؛ فأحب أنْ يُرفَع عملي وأنا صائم» ونحوه من حديث عائشة عند أبي يعلى، لكن قال فيه: «إنَّ الله يَكتب كل نفس ميتة تلك السَّنة؛ فأحب أنْ يأتيني أجلي وأنا صائم». فتح الباري (4/214- 215).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
قلتُ: ويجوز أنَّه كان يصوم صوم داود، فيبقى عليه بقية، فيكملها في هذا الشهر. التوضيح (13/ 443).
وقال شهاب الدين القسطلاني -رحمه الله-:
وقد قيل في صوم شعبان معنى آخر: وهو أنَّ صيامه كالتمرين على صيام رمضان، فلا يدخل في صيامه على مشقة وكُلفة، بل يكون قد تمرَّن على الصيام واعتاده، وَوَجَدَ بصيام شعبان قبل رمضان حلاوة الصوم ولذته، فيدخل في صيام رمضان بقوةٍ ونشاطٍ. المواهب اللدنية (3/438- 439).
وقال الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ :
والحكمة مِن ذلك: أنه يكون بين يدي رمضان كالرواتب بين يدي الفريضة. شرح رياض الصالحين.
وقال الصنعاني -رحمه لله-:
قلتُ: ويُحتمل أنَّه كان يصومه لهذه الحِكَم كلها. سبل السلام (1/ 584).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
ما يفيده الحديث:
1. استحباب الصيام في شهر شعبان.
2. ليس من السُّنة التطوع بصيام شهر كامل.
3. يُستحب العمل بما يتيسر للإنسان من الطاعة دون ما يشق عليه. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (3/ 237).

وينظر بيان معنى حديث : «إذا عمل عملًا أثبته» (هنا


ابلاغ عن خطا