«إنِّي واللهِ -إنْ شاءَ اللهُ- لا أَحْلِفُ على يَمِينٍ، ثم أَرَى خيرًا منها؛ إلَّا كَفَّرْتُ عن يميني، وأَتَيْتُ الَّذِي هو خَيْرٌ».
رواه البخاري برقم: (6718)، ومسلم برقم: (1649) واللفظ له، من حديث أبي موسى -رضي الله عنه-.
وفي لفظ للبخاري برقم: (5518) ومسلم برقم:(1649): «إلا أتيتُ الذي هو خيرٌ وتحلَّلتُها».
شرح مختصر الحديث
.
شرح الحديث
قوله: «إني والله إن شاء الله»:
قال ابن الملقن -رحمه الله-:
هذا الحديث ورد على سبب وهو أنه -عليه الصلاة والسلام- قدِم عليه رهطٌ من الأشعريين فسألوه الحملان فقال: «والله لا أحملكم ولا عندي ما أحملكم عليه، ثم أُتي بعد ذلك بإبل فأمر لهم بثلاث ذَود، وفي رواية: بخمس ذَود غُبْر (غُرّ) (جمع أغر وهو الأبيض) الذُّرى (جمع ذروة وهي من كل شيء أعلاه)، فلما انطلقوا كرهوا تحلُّل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمينَه وخافوا عقوبة ذلك، فأتوه وأخبروه بالخبر؛ فقال: ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم، ثم قال: إني والله...» إلى آخر الحديث.
وفي رواية في الصحيح: «إلا كفَّرت عن يميني وأتيت الذي هو خير»، وفي الصحيح: «إن ذلك كان في جيش العسرة وهي غزوة تبوك»، وفي أخرى فيه: «أنه أعطاهم ستة أبْعرة ابْتَاعَهُنَّ من سعد». الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (9/ 249).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
وقوله: «إني والله إن شاء الله» تنبيه على تأكيد ما يُخبر به الإنسان عن نفسه في المستقبل بالقسَم، وبالاستثناء بـ«إن شاء الله» تبركًا وأدبًا؛ فإنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا أحلف على يمين» وذلك لا يكون إلا مستقبلًا. العدة في شرح العمدة (3/ 1506).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«إن شاء الله» فإنه في حكم الاستثناء في عدم ثبوت الحكم، واتفق العلماء على أن الاستثناء يمنع اليمين على الانعقاد، وكذا سائر الإنشاءات كالإعتاق والطلاق، إلا مالك فإنه خصه باليمين؛ لورود الحديث فيه، وحجة القوم: أنه لا فرق في المعنى بين اليمين وغيره؛ لأن العلة عدم الاطلاع على ما في علمه تعالى، والعلة المشتركة، وشرط الاتصال، إلا رواية عن ابن عباس أنه أراد إظهاره لا أصل الاستثناء، فقال أبو عبيد: أراد ابن عباس أنه لا يأثم بالتأخير؛ لأنه مأمور به في قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} الكهف: 23، 24، لا ترتيب الحكم، وهذا الذي قاله موقوف على أن يكون النهي للتحريم في كل واحد، ولم يقل به أحد، ومعنى الاتصال: ألا يعرض عن اليمين، وسكنة النفس لا تضر (كالصمت)، وكذا التذكير. الكوثر الجاري (10/ 299).
وقال السفاريني -رحمه الله-:
«إني والله إن شاء الله» أتى بالاستثناء المأمور به في قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} الكهف: 23، 24، فكان عليه ذلك واجبًا. كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (6/ 351).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«والله إن شاء الله» التعليق بالمشيئة هنا الظاهر أنه للتبرك، وإلا فحقيقته ترفع القسَم الذي هو المقصود لتأكيد الحكم وتقريره. صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري (13/ 51).
قوله: «لا أحلف على يمين ثم أرى خيرًا منها»:
قال الزمخشري -رحمه الله-:
وسمَّى المحلوف عليه يمينًا لتلبسه باليمين، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمن بن سمرة: «إذا حلفتَ على يمين فرأيتَ غيرها خيرًا منها فأتِ الذي هو خير وكفِّر عن يمينك» أي: على شيء مما يُحلف عليه. تفسير الكشاف (1/ 267).
قال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «لا أحلفُ على يمين» جواب القسم و «إن شاء الله» معترضة، والقسيمة خبر «إن»، الكشاف (للزمخشري): سمّي المحلوف عليه يمينًا لتلبُّسه باليمين. (النهاية لابن الأثير): الحلف هو اليمين، كما تقول: حَلَفَ يَحْلِفُ حَلْفًا، وأصلها العقد بالعزم والنية، فخالَفَ بين اللفظين، أي: «حلف» و «على يمين» تأكيدًا لعقده، وإعلامًا أن لغو اليمين لا ينعقد.
أقول: يؤيد هذا الوجه ما روى النسائي عن أبي موسى قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما على الأرض يمين أحلِف عليها فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيتُه» فإنه لا يدل إلا على التأكيد؛ لأن «أَحْلِفُ عليها» صفة مؤكدة لـ«يمين» نحو: (أمسٌ الدَّابِرُ لا يعود) أي: مَن حَلَفَ على حَلِفٍ، كقول المتنبي:
أرقٌ على أرقٍ ومثليَ يأرَقُ
والمعنى: مَن حلف يمينًا جزمًا لا لغوًا ثم بدا له أمرٌ آخرُ إمضاؤه أفضل من إبرار يمينه؛ فليأتِ ذلك الأمر وليكفِّر عن يمينه، فعلى هذا «يمين» مصدر مؤكّدة لقوله: «أَحْلِفُ». الكاشف عن حقائق السنن (8/ 2439).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
«على يمين» هو -والله أعلم- من باب تسمية المفعول باسم المصدر، سمي الأمر المحلوف عليه يمينًا كما يُسمى المخلوق خلقًا والمضروب ضربًا والمبيع بيعًا ونحو ذلك. مجموع الفتاوى (35/ 279).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
قوله: «لا أحلف على يمين» أي: محلوف يمين، والمراد: ما شأنه أن يكون محلوفًا عليه، وإلا فهو قبل اليمين ليس محلوفًا عليه، ولمسلم: «على أمر» بدل قوله: «على يمين»، «فأرى غيرها خيرًا منها» أي: من الخصلة المحلوف عليها. إرشاد الساري (5/ 216).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«لا أحلف على يمين» أي: بها أو على محلوفها، «فرأيت» أي: علمتُ. منحة الباري (9/ 547).
وقال السفاريني -رحمه الله-:
«لا أحلف على يمين» مكفَّرة «فأرى غيرها» أي: غير ذلك الذي حلفتُ عليه «خيرًا منها» أي: من إمضاء اليمين التي حلفتُها؛ بأن كان الحلف على ترك مندوب أو واجب، أو فعل مكروه أو محرَّم. كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (6/ 351).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
«لا أحلفُ على يمين» أي: محلوفِ يمين، فأطلق عليه لفظ (يمين) للملابسة، والمراد: ما شأنه أن يكون محلوفًا عليه، فهو من مجاز الاستعارة، ويجوز أن يكون فيه تضمين، فقد وقع في رواية لمسلم: «على أمر»، ويحتمل أن تكون (على) بمعنى الباء، فقد وقع في رواية النسائي: «إذا حلفت بيمين» وُرجِّح الأول بقوله: «فرأيت غيرها خيرًا منها»؛ لأن الضمير في «غيرها» لا يصح عوده على اليمين، وأجيب بأنه يعود على معناه المجازي للملابسة أيضًا..
وقوله: «على يمين» تأكيد لعقده، وإعلام بأنها ليست لغوًا. فتح الباري(11/٦١٣).
قوله: «إلا كفَّرتُ عن يميني، وأتيت الذي هو خير»:
قال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«وكفَّرت عن يميني» أي: عن حكمها وما يترتب عليها من الإثم. منحة الباري (9/ 547).
وقال السفاريني -رحمه الله-:
«إلا أتيت الذي هو خير» من فعل المطلوب، وترك المكروه. كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (6/ 351).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«إلا أتيت الذي هو خير» أي: منها، «وتَحَلَّلْتُها» بالكفارة. إرشاد الساري (5/ 216).
وقال القسطلاني -رحمه الله- أيضًا
«وأتيت الذي هو خير» منها، أو «أتيت الذي هو خير وكفَّرت عن يميني» أي: لا أحلف على موجِب يمين؛ لأن اليمين توجبه، والموجب هو الذي انعقد عليه الحلف، وخبر (إنَّ) جملة: «لا أحلف»، وجواب القسم محذوف سدَّ مسدَّ خبر (إنّ)، ويحتمل أن يكون «لا أحلف» جواب القسم، وخبر (إنّ) القسَم، وجوابه «إن شاء الله» جملة معترضة لا محل لها، وقدَّم استثناء المشيئة وكان موضعه عقِب جواب القسم؛ وذلك أن جواب القسم جاء بـ(لا)، وعقبه الاستثناء بـ(إلا)، فلو تأخر استثناء المشيئة حتى يجيء الكلام: (والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير إن شاء الله) لاحتمل أن يرجع إلى قوله: «أتيت» أو إلى قوله: «هو خير»، فلما قدَّمه انتفى هذا التخيّل، وأيضًا ففي تقديمه اهتمام به؛ لأنه استثناء مأمور به شرعًا، وينبغي أن يبادر بالمأمور به.
والتعليق بالمشيئة هنا الظاهر أنه للتبرك، وإلا فحقيقته ترفع القسم المقصود هنا لتأكيد الحكم وتقريره، وهل يحكم على اليمين المقيدة بتعليق المشيئة إذا قصد بها التعليق أنها منعقدة أو لم تنعقد أصلًا؟
فيه خلاف لأصحابنا (الشافعية)، وقوله: «أو أتيت» إما شك من الراوي في تقديم «أتيتُ» على «كفَّرْتُ» والعكس، وإما تنويع من الشارع -صلى الله عليه وسلم- إشارة إلى جواز تقديم الكفارة على الحنث وتأخيرها. إرشاد الساري (9/ 365).
قوله: «إلا أتيتُ الذي هو خيرٌ وتحلَّلتُها».
قال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «وتحللتها» يريد الكفارة، يقال: تحلَّل الرجلُ في يمينه: إذا استثنى فقال: إن شاء الله، قال النمر بن تولب:
وأُرسل أيماني ولا أتحلَّل
ومعنى التحلل: التَّفَصِّي مِن عهدة اليمين، والخروج من حرمتها إلى ما يحل له منها، وقد يكون ذلك مرة بالاستثناء مع العقد، ومرة بالكفارة عند الحنث. أعلام الحديث (2/ 1450).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
قوله -عليه السلام-: «وتحللتها» التكفير عنها، ويحتمل أن يكون معناه: إتيان ما يقتضي الحنث؛ فإن التحلل نقيض العقد، والعقد: هو ما دلت عليه اليمين من موافقة مقتضاها، فيكون التحلل الإتيان بخلاف مقتضاها.
فإن قلت: فيكفي عن هذا قوله: «أتيت الذي هو خير» فإنه بإتيانه إياه تحصل مخالفة اليمين والتحلل منها فلا يفيد قوله -عليه السلام- حينئذ: «وتحللت» فائدة زائدة على ما في قوله: «أتيت الذي هو خير»، قلت: فيه فائدة التصريح والتنصيص على كون ما فعله محللًا. والإتيان به بلفظه يناسب الجواز والحل صريحًا، فإذا صرح بذلك كان أبلغ مما إذا أتى به على سبيل الاستلزام. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (2/ 255)
وقال القاضي -رحمه الله-:
«إلا أتيت الذي هو خير، وتحلَّلْتها» وفي الرواية الأخرى: «إلا كفّرت عن يميني وأتيت الذى هو خير» وفي الحديث الآخر: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليكفِّر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير»، وفي الرواية الأخرى: «فليأت الذي هو خير، وليكفّر عن يمينه»، قال القاضي رحمه الله: بحسب اختلاف ألفاظ هذه الرواية اختلف العلماء -رحمهم الله- في إجزاء الكفارة قبل الحنث، مع اتفاقهم أنها لا تجب إلا بعد الحنث، وأنه يجوز تأخيرها بعد الحنث، فجمهورهم على إجزائها قبل الحنث، لكن مالكًا والثوري والأوزاعي والشافعي منهم يستحبُّون كونها بعد الحنث، ويوافقون على إجزائها قبله، وروي هذا عن أربعة عشر من الصحابة، وجماعة من التابعين -رضى الله عنهم- وغيرهم، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنها لا تجزئ، وهي رواية أشهب عن مالك، وقال الشافعي: يجزئ فيه الكفارة بالطعام والكفارة بالكسوة والمشقة، قيل: لا يجزئ بالصوم إلا بعد الحنث، والخلاف في هذا مبني على: هل الكفارة لحل اليمين أو التكفير بإثمها بالحنث؟ فعند الجمهور أنها رخصة شرعها الله لحل ما عقد الحالف من يمينه؛ فتجزئ قبل وبعد، وليس في الوجهين إثم، لا في الحلف ابتداء ولا في تحنيث الإنسان نفسه؛ لإباحة الشرع له ذلك، ومعنى قوله: «فأرى غيرها خيرًا منها» أي: ما حلف عليه من فعل أو ترك خير لدنياه أو لأخراه، أو أوفق لهواه وشهوته ما لم يكن إثمًا. إكمال المعلم (5/ 408).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «وتحلَّلْتُها» يعني: تحللتها بالتكفير عنها، ويحتمل أنه إتيان ما يقتضي الحنث؛ فإن التحلل يقتضي العقد، والعقد هو ما دلت عليه اليمين من موافقة مقتضاها، فيكون التحلل: الإتيان بخلاف مقتضاها، وهذا مستفاد من قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إلا أتيت الذي هو خير» يعني: ما كان خلاف مقتضى اليمين، فلا يبقى لهذا الاحتمال فائدة زائدة عليه من حيث مقتضاه، اللهم إلا أن تكون الفائدة بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «وتحللتها» التنصيص والتصريح بما يناسب الجواز والحل صريحًا؛ فإنه أبلغ مما إذا أتى به بطريق الاستلزام.
كيف وقد أكد -صلى الله عليه وسلم- الحكمَ المذكور باليمين بالله تعالى عليه، وهو يقتضي المبالغة في ترجيح الحنث على الوفاء بما حلف عليه؛ وذلك يرجع إلى مصالح الحنث المتعلقة بالمفعول المحلوفِ على تركه مثلًا، وسببُ الحديث الذي ذكرناه يبينه. العدة في شرح العمدة (3/ 1506).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «وتحللتها» كذا في رواية حماد وعبد الوارث وعبد الوهاب كلهم عن أيوب، ولم يذكر في رواية عبد السلام «وتحللتها» وكذا لم يذكرها أبو السليل عن زهدم عند مسلم، ووقع في رواية غيلان عن أبي بردة: «إلا كفرت عن يميني» بدل «وتحللتها»، وهو يرجح أحد احتمالين أبداهما ابن دقيق العيد، ثانيهما: إتيان ما يقتضي الحنث؛ فإن التحلل يقتضي سبق العقد، والعقد هو ما دلت عليه اليمين من موافقة مقتضاها، فيكون التحلل الإتيان بخلاف مقتضاها، لكن يلزم على هذا أن يكون فيه تكرار؛ لوجود قوله: «أتيت الذي هو خير»؛ فإن إتيان الذي هو خير تحصل به مخالفة اليمين والتحلل منها، لكن يمكن أن تكون فائدته التصريح بالتحلل، وذكره بلفظ يناسب الجواز صريحًا؛ ليكون أبلغ مما لو ذكره بالاستلزام، وقد يقال: إن الثاني أقوى؛ لأن التأسيس أولى من التأكيد، وقيل: معنى «تحللتها»: خرجتُ من حرمتها إلى ما يحل منها؛ وذلك يكون بالكفارة، وقد يكون بالاستثناء بشرطه السابق، لكن لا يتجه في هذه القصة إلا إن كان وقع منه استثناء لم يشعروا به، كأن يكون قال: (إن شاء الله) مثلًا، أو قال: (والله لا أحملكم إلا إن حصل شيء). فتح الباري (11/ 613).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
اختلف العلماء في جواز الكفارة قبل الحنث، فقال ربيعة ومالك والثوري والليث والأوزاعي: تجزئ قبل الحنث، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور، وروي مثله عن ابن عباس وعائشة وابن عمر، وقال الشافعي: يجوز تقديم الرَّقَبة والكسوة والإطعام قبل الحنث، ولا يجوز تقديم الصوم، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تجزئ الكفارة قبل الحنث، قال ابن القصار: ولا سلف لأبي حنيفة في ذلك، واحتج له الطحاوي بقوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} المائدة: 89، والمراد: إذا حلفتم فحنثتم. شرح صحيح البخاري (6/ 185).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الحنث إذا رآه خيرًا من التمادي على اليمين.
المسألة الثانية: جواز الحلف من غير استحلاف.
المسألة الثالثة: تقديم ما يقتضي الحنث في اللفظ على الكفارة، إن كان معنى: «وتحللتها» التكفير عنها. الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (9/ 249).
قال أبو داود -رحمه الله-:
أحاديث أبي موسى الأشعري وعدي بن حاتم وأبي هريرة في هذا الحديث، روي عن كل واحد منهم في بعض الرواية الحنث قبل الكفارة، وفي بعض الرواية الكفارة قبل الحنث. سنن أبي داود (3/ 224 ط مع عون المعبود).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
فروي عن الحسن البصري أنه قال: لم يكفِّر أصلًا؛ لأنه مغفور له، وإنما نزلت كفارة اليمين تعليمًا للأمَّة، وتُعقب بما أخرجه الترمذي من حديث عمر في قصة حلفه على العسل -أو مارية-، فعاتبه الله وجعل له كفارة يمين، وهذا ظاهر في أنه كفَّر، وإن كان ليس نصًّا في ردِّ ما ادعاه الحسن، وظاهر قوله أيضًا في حديث الباب: «وكفّرت عن يميني» أنه لا يترك ذلك، ودعوى أن ذلك كله للتشريع بعيد. فتح الباري (11/ 613).
وقال البغوي -رحمه الله-:
وإن حلف على ترك مباح، بأن حلف لا يدخل الدار، أو لا يأكل اللحم -ونحو ذلك- يباح له الحنث والإقامة على حفظ اليمين، وأيهما أولى؟
فيه وجهان:
أحدهما: الأَولى أن يحفظ يمينه، ولا يحنث؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} النحل: 91.
والثاني: الأولى أن يحنث؛ لقوله تعالى: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} المائدة: 87.
وقيل: إن حلف على التأبيد، فالأولى أن يحنِّث نفسه، وإن كان مؤقتًا فلا يحنث. التهذيب في فقه الإمام الشافعي (8/ 105).
وقال النووي -رحمه الله-:
وفي الحديث الآخر: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير وليكفِّر عن يمينه» وفي رواية: «إذا حلف أحدكم على اليمين فرأى خيرًا منها فليكفِّرها وليأت الذي هو خير»، في هذه الأحاديث دلالة على مَن حلف على فعل شيء أو ترْكه وكان الحنث خيرًا من التمادي على اليمين استحب له الحنث وتلزمه الكفارة، وهذا متفق عليه، وأجمعوا على أنه لا تجب عليه الكفارة قبل الحنث، وعلى أنه يجوز تأخيرها عن الحنث، وعلى أنه لا يجوز تقديمها على اليمين. شرح صحيح مسلم(11/ 108).
وقال الفاكهاني -رحمه الله-:
يستحب الحلف على تقرير الأمور المهمة وإن لم يُستحلف، وكأن فائدة توكيده -عليه الصلاة والسلام- هذا الحديث باليمين: ترجيح الحنث على الوفاء باليمين عند رؤية ما هو خير مما حُلف عليه، وقطع وهْم متوهِّم يرى الوفاء مما حلف عليه أولى، والتنبيه على خطئه في اعتقاد ذلك، والله أعلم.
فيه: استحباب الاستثناء بالمشيئة في اليمين، إلا أنه إن قصد بالاستثناء حل اليمين، لم ينعقد بالشروط المذكورة في الاستثناء، وإن لم يقصد ذلك، كان ذلك أدبًا مندوبًا إليه في اليمين وغيرها.
وشرط الاستثناء عندنا: أن يكون متصلًا، ملفوظًا به. رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام (5/ 281).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
وهذا يدل على أن المندوب الحنث والتكفير فيما هو خير، وإلا فحفظ اليمين أولى؛ لقوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} المائدة: 89، أي: عن الحنث. شرح المصابيح (4/ 97).
وقال إسماعيل الأنصاري -رحمه الله-:
يستفاد منه:
1) جواز الحلف من غير استحلاف لتأكيد الخبر ولو كان مستقبلًا.
2) الاستثناء بـ(إن شاء الله). الإلمام بشرح عمدة الأحكام (2/ 133).