«مَن قال: رَضِيتُ باللهِ رَبًّا، وبالإسلامِ دِينًا، وبمحمَّدٍ -صلَّى الله عليه وسلَّم- رسولًا، وجَبَتْ له الجَنَّةُ».
رواه أبو داود برقم (1529)، والنسائي في السنن الكبرى برقم (9748)، وابن حبان برقم (863)، والحاكم في المستدرك برقم (1904)، من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (6428)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (334).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«وجَبَت»:
وجَبَ الشيء يجب وجوبًا: إذا ثبت ولزم. النهاية، لابن الأثير (5/ 152).
شرح الحديث
قوله: «من قال: رضيت بالله ربًّا»:
قال ابن هبيرة -رحمه الله-:
ومعنى: «رضيت بالله ربًّا»؛ أي: لستُ بِمُكْرَهٍ على ذلك، بل أنا راضٍ. الإفصاح عن معاني الصحاح (1/ 347).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«من قال: رضيت بالله» وفي بعض النُّسخ المعتمدة الصحيحة: «رضيتُ اللهَ» بحذف الباء ونصب «الله»، وهما لغتان يقال: رضيت الشيء ورضيت به رِضًا: اخترته واجتبيته.
قال صاحب التحرير (في شرح مسلم للأصبهاني): معنى رضيت بالشيء: قنعتُ به ولم أطلب معه غيره، فمعنى الحديث: لم أطلب غير الله «ربًّا» أي: رضيتُ اللهَ على الدوام ربًّا، أي: سيدًا ومالكًا ومصلحًا ومدبرًا وقائمًا بإصلاح أموري ومعبودًا. شرح سنن أبي داود (7/ 348).
وقال ابن رسلان -رحمه الله- أيضًا:
«رضيت باللَّه ربًّا» أي: اطْمَأَنَّتْ -بكونه ربه- نفسُه، وخالطت البشاشة قلبَه، فلم يطلب منه غيره. شرح سنن أبي داود (19/ 311- 312).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
يقال: رضيت فلانًا صاحبًا أي: حمدت صحبته ووافقني أمره، والمعنى: مَن رضي بالله مالكًا وسيدًا قاهرًا فلم يعترض على حُكمه ولم يجزع، ولم يضطرب مما جرى من الأحكام، وحقيق على من رضي بالله ربًّا وسيدًا أن يعرض عن تصرفه وتدبيره، ولا يعترض على حكم الله وتقديره. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب(4/ 349- 350).
وقال السندي -رحمه الله-:
والمعنى: رضيت بربوبيته تعالى...، وهذا لا يكون إلا إذا كان راضيًا بجمع أوامره ونواهيه تعالى، بل بجميع ما يرد منه تعالى من الشدائد التكليفية، والمصائب المالية والبدنية على مقتضى الربوبية...، وليس المراد بهذا مطلق القول ولو بلا مواطأة القلب؛ لأنه كذب في حضرته تعالى يُخاف منه أن يزيده بُعدًا، بل القول مع مواطأة القلب وبه يستحق الجزاء، فهذا في الحقيقة ترغيب في تحصيل هذه الرتبة العلية، والله تعالى أعلم. فتح الودود في شرح سنن أبي داود (2/ 169- 170).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
أي: مالكًا ومربيًا، والرضا خلاف السخط، فإن رضي بالله ربًّا تلقَّى كل ما آتاه بالرضا من السراء والضراء، وأفرده بالربوبية، ولم يتخذ من دونه ربًّا كما اتخذت اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله.التحبير لإيضاح معاني التيسير (1/ 129- 131).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
والرضا بربوبية الله يستلزم القبول لكل ما كان من عنده من الأوامر الشرعية والأمور القدرية. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 532).
وقال محمود السبكي -رحمه الله- أيضًا:
فـ«ربًّا» تمييز محول عن المضاف أي: رضيت بربوبيته، ويحتمل أن يكون حالًا أي: رضيت بالله مربيًا ومالكًا وكذا قوله: «رسولًا» و«دينًا» في الجملتين بعده. المنهل العذب المورود (4/ 198).
قوله: «وبالإسلام دينًا»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«وبالإسلام» المذكور في قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} آل عمران: 19، ولم أسْعَ في غير طريقه، وهو الذي فسَّر به حديث جبريل وهو الإيمان والأقوال والأعمال والشُّعب. شرح سنن أبي داود (7/ 348).
وقال ابن رسلان -رحمه الله- أيضًا:
«وبالإسلام دينًا» أي: رضيت بشريعة الإسلام وما فيها من الحدود والمعالم والمحرمات والمحللات، وبما هي عليه دِينًا ألتزمه ولا أفارقه. شرح سنن أبي داود (3/ 483).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وبالإسلام» أي: بجميع أحكام الإسلام من الأوامر والنواهي «دينًا» أي: اعتقادًا أو انقيادًا. مرقاة المفاتيح (2/ 562).
وقال العيني -رحمه الله-:
فإن قيل: ما المراد من قوله: «دينًا»؟
قلتُ: المراد من الدِّين ها هنا التوحيد، وبذلك فسر صاحب الكشاف في قوله: تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} آل عمران: 85، بمعنى التوحيد...
فإن قيل: لم قال: بالإِسلام ولم يقل: بالإيمان؟
قلتُ: الإِسلام والإيمان واحد فلا يرد السؤال، والدليل على ذلك قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} الذاريات 35- 36، والمراد بهما آل لوط -عليه السلام-، فوصفهم تارة بأنهم مؤمنون، وتارة بأنهم مسلمون، فدل على أن الإيمان والإِسلام شيء واحد. نخب الأفكار (3/ 120- 121).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وبالإسلام دينًا» وفيه التبرؤ عن نحو اليهودية والنصرانية. مرقاة المفاتيح(4/ 1665).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«وبالإسلام دينًا» أتَدَيَّنُ بأحكامه دون غيرهِ من الأديان، فإذا قال ذلك بلسانه أُجْرِيت عليه أحكام الإيمان؛ مِنْ عِصْمَة الدم والمال وغير ذلك من الأحكام الدنيوية؛ فإنْ اقترن بذلك التصديق القلبي صار مؤمنًا إيمانًا حقيقيًا موجِبًا لدخول الجنة. فيض القدير (3/ 196).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
ورضيت بدين الإسلام الذي جاء به -صلى الله عليه وآله وسلم- من أصول وفروع، وامْتَثَلْتُ أوامره واجْتَنَبْتُ نواهيه. المنهل العذب المورود (4/ 198).
قوله: «وبمحمد رسولًا».
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«وبمحمد» -صلى الله عليه وآله وسلم- «رسولًا» إلى الخلق كافةً بالقرآن الذي هو معجزة مستمرة، ولم أَسْلُك إلا ما يوافق شريعة محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-. شرح سنن أبي داود (7/ 348).
وقال ابن رسلان -رحمه الله- أيضًا:
«وبمحمد -صلى اللَّه عليه وسلم- رسولًا» وعلامة الرضا برسالته: التمسك بها والاقتداء بأفعاله وأقواله. شرح سنن أبي داود (19/ 312).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «وبمحمد رسولًا» أي: رضيت بمحمد رسولًا بمعنى: آمنت به في كونه مرسلًا إلي وإلى سائر المسلمين.
وانتصاب «ربًّا» و«دينًا» و«رسولًا» على التمييز، والتمييز وإن كان الأصل أن يكون في المعنى فاعلًا يجوز أن يكون مفعولًا -أيضًا- كقوله تعالى: {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا} القمر: 12، ويجوز أن يكون نصبها على المفعولية؛ لأنَّ «رضي» إذا عُدِّي بالباء يتعدى إلى مفعول آخر. شرح سنن أبي داود (5/ 439).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وبمحمد رسولًا» أي: بجميع ما أُرسل به وبلَّغه إلينا من الأمور الاعتقادية وغيرها. مرقاة المفاتيح (2/ 562).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- أيضًا:
«وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا» ويلزم منه قبول مراتب الإيمان الإجمالية. مرقاة المفاتيح (4/ 1665).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
ومن رضي بمحمد رسولًا قَبِل ما جاء به فآمن به وصدَّق ما جاء من الأحكام وشرائع الإسلام، وتعظيم رب الأنام، والتصديق بكل ما جاء به من الوعد والوعيد، وغير ذلك من أحوال المبدأ والمعاد، ومن الجزاء يوم المعاد، وعظّم هذا الرسول بحسن الاتباع، وهجر الابتداع. التحبير لإيضاح معاني التيسير (1/ 131).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«و» رضيت «بمحمد» من جهة كونه نبيًّا لي. مرشد ذوي الحجا والحاجة (23/ 98).
وقوله: «وجَبَتْ له الجنة»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«وجبت له الجنة» أي: مَن مات على ذلك فلا بد له من دخول الجنة قطعًا، ولو دخل النار في كبائر عليه فمآله إلى الجنة على كل حال. المفهم (3/ 710).
وقال الشيخ محمد بن علي الأتيوبي -رحمه الله-:
«وجبت له الجنة» أي: ثبتت، وتحقَّقَت، وعبَّر بالماضي مبالغة في تحقق وقوعها. البحر المحيط الثجاج (32/ 413).
وقال النووي -رحمه الله-:
فيكون المراد باستحقاق الجنة ما قدمناه من إجماع أهل السنة أنه لا بد من دخولها لكل موحد إما مُعَجَّلًا معافى وإما مؤخرًا بعد عقابه. شرح مسلم (1/ 220).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
يعني: أنه تعالى يعطيه الجنة تفضُّلًا وتكرُّمًا، بحيث لا يخالف وعده، كمن وجب عليه شيء؛ لأنه كريم لا يضيع أجر المحسنين. شرح المصابيح (1/ 233).
وقال خليل السهارنفوري -رحمه الله-:
يعني: من قال ذلك ومات عليه وجبت له الجنة في الحال، إن لم يوجد منه ما يوجب العقوبة، أو وجد وعُفي عنه، أو في المآل إن وجد منه موجب العقاب. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (6/ 265- 266).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
«وجبت له الجنة» الحديث، أي: من آمن بالله ورضي به وبدين الإسلام ونبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- وجبت له الجنة واستحق دخولها، فإذا دخلها بفضلة وكرمه أُعْطِيَ الثواب بقدر عمله. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (6/ 467).
وقال النووي -رحمه الله-:
لأن رضاه (العبد) بالمذكورات دليل لثبوت معرفته، ونفاذ بصيرته، ومخالطة بشاشته قلبه؛ لأن من رضي أمرًا سهل عليه، فكذا المؤمن إذا دخل قلبه الإيمان سهل عليه طاعات الله تعالى، ولذَّت له، والله أعلم. شرح مسلم (2/ 2).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
وفي الحديث: دليل على أن التكلم بهذا الذكر هو من موجبات الجنة. تحفة الذاكرين (ص: 379).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
هذا الحديث يدلنا على فضل هذا الذكر، وهو مشتمل على الأمور الثلاثة التي يسأل عنها في القبر؛ لأن الإنسان في القبر يسأل عن ربه ودينه ونبيه. شرح سنن أبي داود (8/ 283).