الخميس 27 رمضان 1446 هـ | 27-03-2025 م

A a

«إنَّ أعظمَ المسلمينَ جُرْمًا، مَن سَأَلَ عن شيءٍ لم يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مسأَلَتِهِ».


رواه البخاري برقم: (7289) واللفظ له، ومسلم برقم: (2358)، من حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«جُرْمًا»:
‌الجُرم: ‌الذَّنب، وقد جَرَم واجْتَرَمَ وتَجَرَّمَ.النهاية، لابن الأثير (1/ ٢٦٢).
وقال الركبي -رحمه الله-:
الجُرم: ‌الذَّنْبُ، وجمعه: أجرام، والجريمة: مثله، يقال: جَرم وأَجرم واجترم: بمعنى.النظم المستعذب(2/١٥٥).


شرح الحديث


قوله: «إنَّ أعظمَ المسلمينَ جُرْمًا» وفي مسلم: «أعظم المسلمين في المسلمين جُرْمًا»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«إنَّ أعظم المسلمين» وقوله: «في المسلمين» كان أصله نعتًا لـ «جُرْمًا» تقدَّم عليه، فأعرب حالًا؛ إذ القاعدة أنَّ نعت النَّكرة إذا قُدِّم يعرب حالًا...، «جُرْمًا» منصوب على التَّمييز؛ أي: من حيث الجُرم. البحر المحيط الثجاج (38/ 6).
وقال العظيم آبادي -رحمه الله-:
«إنَّ ‌أعظم ‌المسلمين في المسلمين ‌جُرْمًا» الجار والمجرور حال من «‌جُرْمًا» معناه: أنَّ أعظم من أجرم ‌جُرْمًا كائنًا في حقِّ المسلمين. عون المعبود (12/ 236).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«إنَّ ‌أعظم ‌المسلمين في المسلمين ‌جرمًا» أي: ذنبًا كائنًا فيهم. شرح المصابيح (1/ 160).
وقال العيني -رحمه الله-:
«إنَّ أعظم المسلمين جُرْمًا» أي: من حيث الجُرم، أي: الذَّنب، وفي رواية مسلم: «إنَّ أعظم الناس في المسلمين جُرْمًا»... وقوله: «في المسلمين» أي: في حقِّهم. عمدة القاري (25/ 32- 33).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
المراد بالجُرْم هنا الحدث على المسلمين، لا أنه من الجرائم والآثام المعاقب عليها؛ إذ كان السُّؤال أوَّلًا مباحًا، ولولا ذلك لَمَا قال -عليه السَّلام-: «سلوني». إكمال المعلم (7/ 329).
وقال النووي -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
هذا الذي قاله القاضي ضعيف، بل باطل، والصَّواب الذي قاله الخطابي وصاحب التحرير (الأصبهاني) وجماهير العلماء في شرح هذا الحديث: أنَّ المراد بالجُرْم هنا الإثم والذَّنب، قالوا: ويقال منه: جَرَم بالفتح واجترم وتجرَّم إذا أثم. المنهاج (15/ 111).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
قوله: «في المسلمين جُرْمًا» أي: أنَّ ذنبه مختصٌّ يختصُّ بهم ولهم؛ لأن التَّحريم راجع إليهم؛ ولهذا قال: «أعظمهم ذنبًا فيهم» فجعلهم محلًّا لجرمه. الشافي (5/ 42).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«‌أعظم ‌المسلمين ‌جُرْمًا» أي: إثمًا، والسُّؤال -وإن لم يكن في نفسه جريمة، فضلًا عن كونه كبيرة، فضلًا عن كونه أكبر الكبائر- إلا أنه لَمَّا كان سببًا لتحريم شيء مباح، صار أعظم الجرائم؛ لأنه سبب في التَّضييق على جميع المسلمين؛ فإن القتل مثلًا مضرَّته راجعة للمقتول، وهذا عام للكُلِّ. اللامع الصبيح (17/ 229).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
«إنَّ ‌أعظم ‌المسلمين ‌جُرْمًا» هذا تشديد وتغليظ لكون ضرره عامًّا باقيًا، والمراد السُّؤال من غير حاجة، أو يكون تكلُّفًا وتعنُّتًا، قوله: «في المسلمين» كلمة «في» أَجْلية، أي: في حقِّهم، ومن جهتهم. لمعات التنقيح (1/ 470).
وقال محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«في المسلمين ‌جُرْمًا» أي: ‌أعظم ‌المسلمين ‌جرمًا في عدم رعاية حقوق المسلمين. الكوكب الوهاج (23/ 241).
وقال الشيخ عبد العزيز الراجحي -حفظه الله-:
فالسُّؤال في زمن الوحي للتحريم، لكن النَّهي عن الأسئلة التي لا حاجة إليها عامٌّ. توفيق الرب المنعم (6/ 554).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
الجرم والجريمة: الذَّنب، وهذا صريح في أن السُّؤال الذي يكون على هذا الوجه، ويحصل للمسلمين عنه هذا الحرج: هو من أعظم الذُّنوب، والله تعالى أعلم. المفهم (6/ 166).

قوله: «مَن سَأَلَ عن شيءٍ لم يُحَرَّمْ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«مَن سأل» أي: نبيَّه «عن شيء» بالتَّنكير...، بأنْ يسأل: هل هو حرام أم لا؟ مرقاة المفاتيح (1/ 238).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «عن شيء» وفي رواية سفيان: «عن أمر». قوله: «لم يُحرَّم» على صيغة المجهول من التَّحريم صفة لقوله: «شيء». عمدة القاري (25/ 33).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«مَن سأل عن شيء لم يحرَّم» بضمِّ أوَّلِه، وتشديد الرَّاء، أي: لم يحرِّمه اللَّه تعالى ولا رسوله. شرح سنن أبي داود (18/ 124).
وقال عبد اللطيف بن الملك -رحمه الله-:
«مَن سأل عن أمر...» إلخ، اعلم أنَّ المسألة على نوعين:
أحدهما: ما كان على وجه التَّبيين فيما يحتاج إليه من أمر الدِّين؛ وذلك جائز، كسؤال عمر وغيره من الصَّحابة في أمر الخمر حتى حرمت بعد ما كانت حلالًا؛ لأن الحاجة دعت إليه.
وثانيهما: ما كان على وجه التعنُّت وهو السُّؤال عما لم يقع ولا دعت إليه حاجة، فسكوت النبي -صلى الله عليه وسلم- في مثل هذا عن جوابه ردع لسائله، وإن أجاب عنه كان تغليظًا له فيكون بسببه تغليظًا على غيره نظيره سؤال الأقرع حين وجب الحجِّ بقوله: أكل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى أعاد مسألته ثلاث مرات، فقال -عليه الصلاة والسلام-: «ويحك! وما يؤمِّنك أنْ أقول: نعم؟ والله لو قلتُ: نعم، لوجبت؛ ولَمَا استطعتم». والمراد في الحديث هذا النَّوع، وإنما كان هذا من أعظم الكبائر لتعدِّي جنايته إلى جميع المسلمين، ولا كذلك غيره. مبارق الأزهار (1/ 202).

قوله: «فحُرِّم من أجلِ مسألتِهِ»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فحُرِّم» بتشديد الرَّاء، مبنيًّا للمجهول أيضًا، من التَّحريم «عليهم» وفي رواية سفيان: «على الناس»، «من أجل مسألته» مصدر ميمي، من سأل؛ أي: لأجل سؤاله. البحر المحيط الثجاج (38/ 8).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
أي: عوقب لأجل سؤاله تعنُّتًا وعبثًا بتحريم ما سأل عنه، والتَّحريم إذا وقع يعمُّ السَّائل عنه وغيره، وهذا من أعظم الجرائم، وهو تحريم ما كان معفوًّا عنه؛ إذ فيه التَّشديد في الشَّريعة. شرح سنن أبي داود (18/ 124).
وقال صفي الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
«فحُرِّم عليهم من أجل مسألته» أي: من أجل سؤاله، فصار سببًا لتضييق الأمر على جميع المكلَّفين، وهذا يشعر بأن السُّؤال أو الإكثار من السُّؤال بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يكون بهذه المنزلة؛ لأن خوف الوجوب أو التَّحريم انتهى بعده -صلى الله عليه وسلم-، إلا أن النُّقول عن السَّلف كثيرة بكراهة الكلام في المسائل التي لم تقع. منة المنعم (4/ 57).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقال غيره (غير المهلب): أهل السُّنَّة لا ينكرون إمكان التَّعليل، وإنما ينكرون وجوبه، فلا يمتنع أن يكون المقدَّر الشَّيء الفلاني تتعلَّق به الحرمة إن سُئل عنه، فقد سبق القضاء بذلك، لا أنَّ السُّؤال علَّة للتَّحريم، وقال ابن التين: قيل: الجرم اللاحق به إلحاق المسلمين المضرَّة لسؤاله، وهي منعهم التَّصرُّف فيما كان حلالًا قبل مسألته. فتح الباري (13/ 268).
وقال المظهري -رحمه الله-:
يعني: مَن سأل نبيَّه عن شيء غير محرَّم، هل هو محرَّم أو لا؟ فحُرِّم ذلك الشَّيء لأجل سؤاله.
وكان ذنب هذا السَّائل أعظم من غيره من المسلمين؛ لأنه كان سببًا لحرمان جميع المسلمين من ذلك الشَّيء؛ لأنه لو لم يسأل عنه لم يحرَّمْ، ولو لَمْ يُحرَّمْ لانتفع به المسلمون، فكأنه منع المسلمين عن ذلك الشَّيء، ولا شكَّ أنَّ مَن فعل فعلًا يلحق ضرره جميع المسلمين أعظم ذنبًا من الذي فعل فعلًا يلحق ضرره واحدًا، أو جماعة قليلة كالقتل وغيره، وهذا زجر عن كثرة سؤال الأمم النَّبيِّين؛ لأنا قد قلنا: إن سؤال الأمم النَّبيِّين معصية.
والمنع والزَّجر عن السُّؤال مخصوص بزمان نزول القرآن، وأمَّا بعد وفاة النبي -عليه السلام- فلا بأس بالسُّؤال؛ لأنه لا يحرِّمُ حلالًا، ولا يُحِلُّ حرامًا بعد النبي -عليه السلام-. المفاتيح (1/ 257- 258).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
هذا في مسألة مَن يسأل عبثًا وتكلُّفًا فيما لا حاجة به إليه دون مَن سأل سؤال حاجة وضرورة، كمسألة بني إسرائيل في شأن البقرة؛ وذلك أن الله سبحانه أمرهم أن يذبحوا بقرة، فلو استعرضوا البقر فذبحوا منها بقرة لأجزأتهم، كذلك قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في تفسير الآية، فما زالوا يسألون ويتعنَّتُون حتى غلظت عليهم، وأُمِرُوا بذبح البقرة على النَّعت الذي ذكره الله في كتابه، فعظمت عليهم المؤنة، ولحقتهم المشقَّة في طلبها حتى وجدوها، فاشتروها بالمال الفادح، فذبحوها وما كادوا يفعلون.
وأمَّا مَن كان سؤاله استبانةً لحكم واجب واستفادةً لعلم قد خفي عليه، فإنه لا يدخل في هذا الوعيد، وقد قال سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} النحل: 43. وقد يحتجُّ بهذا الحديث مَن يذهب من أهل الظَّاهر إلى أن أصل الأشياء قبل ورود الشَّرع بها على الإباحة حتى يقوم دليل على الحظر، وإنما وَجْهُ الحديث وتأويله ما ذكرناه، والله أعلم. معالم السنن (4/ 301).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: التَّحذير من فضول القول، وكثرة السُّؤال على طريق التعنُّت، ولا سيّما في مقامات تعتريها خطرات مَن يرى نفسه متديِّنًا، فيرى التَّضييق على عباد الله في دينهم مستصوبًا، فلا يكون ممن شرح الله صدره للإسلام، بل ممن قال فيه -سبحانه وتعالى-: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} الأنعام: 125، ويرى بضيق عين بصيرته أن الله -سبحانه وتعالى- لم يُنعِمْ على عباده إلا بحسب ما عبدوه؛ فيتعرَّض لكُلِّ ما فيه تشديد وتضييق، فذلك المراد بهذا الحديث؛ ألا تراه -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن أعظم المسلمين جُرْمًا مَن سأل عن شيء لم يُحرَّمْ على الناس، فحُرِّم من أجل مسألته»؟ وإنما عظم جُرمه؛ لأنه جنى على المسلمين بما طرقه عليهم، ويجوز أن يكون جُرمه من حيث ردِّه لفيض كَرَمِ الله -سبحانه وتعالى- على عباده. الإفصاح (1/ 327- 328).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
فيه: أنَّ الأشياء على الإباحة حتى تُحرَّم، والقول بالوقف تعدٍّ لِمَا فيه من الإضرار، وهو المنع من التَّصرُّف فيها بالأكل وغيره. التوضيح (33/ 44).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: الحديث):
1. منها: أنه يؤخذ منه أن مَن عمل شيئًا أضرَّ به غيره كان آثمًا...
2. ومنها: أنه يستفاد منه عظم الذَّنب، بحيث يجوز وصف مَن كان السَّبب في وقوعه بأنه وقع في أعظم الذُّنوب، كما تقدَّم تقريره، والله أعلم.
3. ومنها: بيان أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يَرِدَ الشَّرع بخلاف ذلك، والله تعالى أعلم. البحر المحيط الثجاج باختصار(38/ 9).


ابلاغ عن خطا