خطَبَنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «أيها الناس، قد فَرَضَ الله عليكم الحج فَحُجُّوا»، فقال رَجل: أَكُلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لو قلتُ: نعم لوَجَبت ولما استطعتم»، ثم قال: «ذَرُوْنِي ما تركتكم، فإنما هَلَك من كان قبلكم بِكَثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمَرْتُكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتُكم عن شيء فدعوه».
رواه البخاري برقم: (7288)، ومسلم، برقم: (1337) واللفظ له، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«فَرَضَ»:
أي: أَوْجَبَ. وأصل الفرض: القطع. النهاية في غريب الحديث والأثر (3/432).
«ذَرُوْنِي»:
بمعنى دعوني. فتح الباري (13/260).
شرح الحديث
قوله: «خطَبَنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«خطَبَنا» يتعدى بنفسه وبـ(على) كما في المصباح.دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (2/416).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«خطَبَنا» أي: وعَظَنا، أو خطَب لنا عام فُرِضَ الحج فيه، أو ذكَر لنا في أثناء خُطبة له.مرقاة المفاتيح(5/1740).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
يمتنع أن تكون هذه الخطبة في الحج؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- إنما حج في العاشر، وفَرْضُ الحج كان سابقًا، قيل: سنة خمس. وقيل: ست. وقيل: تسع، إلا أن يكون قاله أيضًا في حجة الوداع، أفاده الأَبّي.ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (23/277).
قوله: «أيها الناس، قد فَرَضَ الله عليكم الحج، فحُجُّوا»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «قد فَرَضَ» أي: أوجب، وألزم، وإن كان أصل الفرض: التقدير، كما تقدم، ولا خلاف في وجوبه مرة في العمر على المستطيع.المفهم (3/ 447).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «عليكم الحج»: الحج في اللغة: القصد.
وفي الشرع: قَصْدُ البيت على الوجه المخصوص، في الزمان المخصوص، وهو شوال وذو القعدة، وعشر ليالٍ من ذي الحجة.شرح المشكاة (6/1936).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
قوله: «يا أيها الناس، إن الله قد فرض عليكم الحج فحُجُّوا» أي: أدُّوا ذلك الواجب.دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (2/416).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
ومعنى «فَرَضَ اللَّه عليكم الحج»: أوْجَبَه، ومن ثَمَّ أجمعوا على وجوبه، وأنه مرةً في العمر بأصل الشرع.
والأصح: أنه على التَّراخي؛ لأن الأمر لا يقتضي الفور على الأصح؛ ولأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أخَّره عن سَنَة إيجابه، ومن ثَمَّ قال القائلون بفوريته: يجوز تأخيره السَّنَة والسَّنتين.فتح المبين بشرح الأربعين(ص: 281).
قوله: «فقال رجل: أَكُلَّ عام يا رسول الله؟»:
قال النووي -رحمه الله-:
هذا الرجل السائل هو الأقرع بن حابس، كذا جاء مبيَّنًا في غير هذه الرواية.شرح النووي على صحيح مسلم (9/101).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
قوله: «فقال رجل» قال ابن حجر الهيثمي: هو الأقرع بن حابس، انتهى، وقد جاء تعيينه في حديث رواه أحمد والنسائي والدارمي، وسنده حسن.دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/ 73).
وقال -رحمه الله- :
قوله: «أكُلَّ عام؟» بالنصب، ظرف لـ(فَرَضَ) مُقدرًا.دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/ 73).
وقال المغربي -رحمه الله-:
قوله: «أكُلَّ عام؟» معناه: أيتكرر وجوبه على المكلَّف في كل عام؟ البدر التمام شرح بلوغ المرام (5/ 206)
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
قوله: «أَكُلَّ عام يا رسول الله؟» أي: أتأمرنا أن نحج كل عام؟ وهذا يدل على أن مجرد الأمر لا يفيد التكرار ولا المرة، وإلاّ لما صح الاستفهام.إرشاد الساري (3/ 92).
وقال أبو القرطبي -رحمه الله-:
وقول السائل: «أَكُلّ عام؟» سؤالٌ مَن تردَّد في فَهم قوله: «فحُجُّوا» بين التكرار والمرة الواحدة، وكأنه عنده مجملٌ، فاستفصل.المفهم (11/ 3).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «قد فَرَضَ الله عيكم الحج فحُجُّوا»، فقال رَجل: أكُلَّ عام؟ فسكت ثم قال: «لو قلتُ: نعم، لوجبت، ولما استطعتم» الحديث.
قال الإمام: اختلف الناس في الأمر المطلق، فقال بعضهم: يُحمل على فعل مرة واحدة.
وقال بعضهم: على التَّكرار.
وقال بعضهم: بالوقف، فيما زاد على مرة.
وظاهر هذا أن السائل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما سأله؛ لأن ذلك عنده يحتمل، فيصح أن يكون ذهب إلى بعض هذه الطرق، ويصح أن يكون إنما احتمل عنده من وجه آخر.
وذلك أن الحج في اللغة: قَصْدٌ فيه تَكرير، فيكون احتمل عنده التَّكرير من جهة اشتقاق اللفظ، وما يقتضيه من التَّكْرَار.
وقد تعلق بما ذكرنا عن أهل اللغة ههنا من قال بإيجاب العمرة، وقال: لما كان قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} آل عمران: 97، يقتضي على حكم الاشتقاق المتكرر، واتفق على أن الحج لا يلزم إلا مرة واحدة، كانت العودة إلى البيت تقتضي أن تكون في عمرة؛ حتى يحصل التَّردّد إلى البيت كما اقتضاه الاشتقاق.إكمال المعلم بفوائد مسلم (4/443).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
أقول: والاستدلال بسؤال الرَّجل على أن الأمر لا يفيد التكرار ولا المرة ضعيف؛ لأن الإنكار وارد على السؤال الذي لم يقع موقعه؛ ولهذا زَجَره.شرح المشكاة (6/1937).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
والأظهر أن مبنى السؤال قياسه على سائر الأعمال من الصلاة والصوم وزكاة الأموال، ولم يَدْرِ أن تكراره كلَّ عام بالنسبة إلى جميع المكلَّفين من جملة الْمُحال كما لا يخفى على أهل الكمال.مرقاة المفاتيح(5/1740).
قوله: «فسكت، حتى قالها ثلاثًا»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«فسكت حتَّى قالها» أي: الأقرعُ، الكلمةَ التي تكلَّمها «ثلاثًا».شرح المصابيح (3/ 236).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فسكت» -صلى الله عليه وسلم- «عنه» أي: عن ردِّ الجواب عن سؤاله.ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (23/278).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
إنما سكت زجرًا له عن السؤال الذي كان السكوت عنه أولى بأولي الفهم المتأدِّبة بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، المتلقِّية قوله بإلقاء السمع، الذين نوَّر الإيمانُ قلوبهم؛ وذلك لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما بُعث لبيان الشريعة، فلم يكن ليسكت عن بيان أمر عُلِم أن بالأمة حاجة إلى الكشف عنه، فالسؤال عن مثله تَقَدُّمٌ بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد نهوا عنه، وفي الإقدام عليه ضربٌ من الجهل. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/587).
وقال القاضي البيضاوي -رحمه الله-:
وإنما سكت -عليه السلام- حتى قالها ثلاثًا زجرًا له عن السؤال، فإنه تقديم بين يدي الرسول منهي عنه بقوله تعالى: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَي اللهِ وَرَسُولِهِ} الحجرات:1؛ لأنه -عليه السلام- مبعوث لبيان الشرائع، وتبليغ الأحكام، فلو وجب الحج كل سَنة لبيَّنه الرسول لا محالة، ولم يقتصر على الأمر به مطلقًا، سواء سُئل عنه أو لم يُسأل، فيكون السؤال استعجالًا ضائعًا.
ثم إنه لما رأى أنه لا ينزجر به، ولا يقنع إلا بالجواب الصريح، أجاب عنه بقوله: «لو قلتُ: نعم لوجَبَت» أي: لوجبت كل عام حجة.تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (2/ 120)
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«فسكت» -صلى الله عليه وسلم- عن جوابه «حتى قالها» أي: المقالة المذكورة «ثلاثًا» منصوب على المصدرية.
وسكوته عنه لينزجر عن سؤاله الواقع في غير محله؛ لوجوه:
منها: أنّ مدلول الأمر مرة، وما زاد عليها لا بد له من دليل خارجي، ومع ملاحظة ذلك فلا وجه لسؤاله، فكان فيه نوع تعنُّت وسؤال عما لا يحتاج إليه.
ومنها: أنه -صلى الله عليه وسلم- أُرسل لتبليغ الأحكام بغاية الإِيضاح والبيان، فلو وجب التَّكرار لأفاده صريحًا، وإن لم يُسأل عنه، فالسؤال حينئذٍ ضائع؛ ولما علم -صلى الله عليه وسلم- من تكريره له أنه لا ينزجر بذلك، ولا يقنع إلا بجواب صريح أجابه بما فيه نوع توبيخ له، «فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لو قلتُ: نعم» أي: فَرَض عليكم كل عام «لوجَبَت».دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/74).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
ولا يبعد أن يكون سكوته -صلى الله عليه وسلم- انتظارًا للوحي.ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (23/279).
قوله: «لو قلتُ: نعم لَوَجَبَت؛ ولما استطعتم»:
قال القرطبي -رحمه الله-:
«لو قلتُ: نعم لَوَجَبَت» أي: لَوَجَبَت المسألة، أو الحجَّة في كل عام، بحكم ترتيب الجواب على السؤال.المفهم (3/ 447).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
وإنما قال: «لَوَجَبَت» على صيغة التأنيث؛ لأنه أراد حِجَجًا كثيرة؛ لتكررها عليهم عامًا بعد عام، أو أراد: لَوَجَبَت كل عام حجة.الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 586).
وقال المغربي -رحمه الله-:
وقوله: «لَوَجَبَت» قد يُستدل به على أنه يجوز التفويض للنبي -صلى الله عليه وسلم- في شرع الأحكام، وقد ذهب إليه ابن السمعاني، وهو أحد قولي الشافعي، قالوا: وهو مختص بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وقال الإمام يحيى: إنه يجوز للنبي وللمجتهد دون غيرهما، وتوقف في وقوعه، وذهب موسى بن عمران من المعتزلة إلى جوازه، ووقوعه مطلقًا في حق النبي وغيره، وظاهره ولو غير مجتهد، وذهب الجمهور من متأخري الحنفية والشافعية وغيرهم إلى جوازه عقلًا، ولكنه لم يقع، وتردد الشافعي فقيل: في الجواز، وقيل: في الوقوع، والذي عليه الجمهور من العلماء أنه لا يجوز من الله أن يفوض إلى أحد شرع الأحكام كيف يشاء بما اتفق، قالوا: لأن الأحكام الشرعية إنما شُرعت لمصالح العباد، ولا يستمد من أحد اختيار الصلاح، وإدراكه على جهة الاتفاق، وتأولوا ما أوْهَم ذلك مثل هذا الحديث، ومثل قوله: «لولا أن أشقَّ على أمتي لأمرتهم بالسواك»، ومثل قوله تعالى: {إلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} آل عمران: 93، ومثل قوله في حديث العباس: «إلا الإذْخِر»، فقال: «إلا الإذْخِر»، فإن ذلك متأول، فمثل الآية محمول على الاجتهاد بدليل ظني، ومثل «إلا الإذْخِر» قاله العباس، وقد كان فهم التخصيص فقرره النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومثل حديث السواك والحج أنه قد كان خُيِّر -صلى الله عليه وسلم- بين أن يأمر بالسواك، وأن لا يأمر، وبين أن يوجب الحج في كل عام أو لا، أو أنه أراد أنه يقول ذلك بوحي؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، والله أعلم.البدر التمام شرح بلوغ المرام (5/206- 207).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
واحتَج بهذا الحديث من جوَّز تفويض الحكم إلى رأي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيقول الله له: احكم بما شئت؛ فإنك لا تحكم إلا بالصواب، فإن قوله -صلى الله عليه وسلم¬-: «لو قلتُ: نعم لوَجَبَت» يدل على أنه كان إليه إيجاب ما شاء، وهو ضعيف؛ لأن قوله: «لو قلتُ» أعم من أن يكون قولًا من تلقاء نفسه، أو من وحي نازل، أو رأي يراه إن جوَّزنا له الاجتهاد، والدَّال على الأعم لا يدل على الأخص، لكنه يدل على أن الأمر للوجوب؛ لأن قوله: «لو قلتُ: نعم لوَجَبَت» تقديره: لو قلتُ: نعم حِجُّوا كل سَنة، لوجَبَت كل عام حجة؛ وذلك إنما يصح إذا كان الأمر مقتضيًا للوجوب.شرح المشكاة (6/1937).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأما قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لو قلتُ: نعم لوجَبَت» ففيه دليل للمذهب الصحيح أنه -صلى الله عليه وسلم- كان له أن يجتهد في الأحكام، ولا يشترط في حكمه أن يكون بوحي.
وقيل: يشترط، وهذا القائل يجيب عن هذا الحديث بأنه لعله أوحي إليه ذلك، والله أعلم.شرح النووي على صحيح مسلم (9/101).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «لو قلتُ: نعم لوجَبَت».. الخ، أي: لوَجَب الحج كل عام.
وهذا بظاهره يقتضي أن أمر افتراض الحجّ كلّ عام كان مفوّضًا إليه، حتى لو قال: نعم لحصل، وليس بمستبْعَد؛ إذ يجوز أن يأمر الله -تعالى- بالإطلاق، ويفوّض أمر التَّقييد إلى الذي فوّض إليه البيان، فهو إن أراد أن يُبقيه على الإطلاق يُبقيه عليه، وإن أراد أن يُقيّده بكلّ عام يقيّده به.
ثم فيه إشارة إلى كراهة السؤال في النصوص المطلقة، والتفتيش عن قيودها، بل ينبغي العمل بها على إطلاقها، حتى يظهر فيها قيد، وقد جاء القرآن موافقًا لهذه الكراهة.حاشية السندي على سنن النسائي (5/110).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
أفاد به أنه لا يجب كلَّ عام؛ لما في «لو» من الدلالة على انتفاء الشيء لانتفاء غيره، وأنه إنما لم يتكرر لما فيه من الحَرج والكُلفة الشاقة.
ونبَّه على أن العاقل ينبغي له أن لا يستقبل الكُلف الخارجة عن وسْعِه، وأن لا يسأل عن شيء إن يُبدَ له أساءه.شرح المشكاة (6/1937).
وقال -رحمه الله-:
وفي قوله: «لو قلتُ: نعم» أيضًا بحث؛ لأن القول إذا صُرح به يجب أن يجري على حقيقته إلا إذا مَنَع مانع، فيجري على المجاز، لنا قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أيحسب أحدكم أن يكون متكئًا على أريكته، يظن أن الله -تعالى- لم يحرم شيئًا إلا ما في هذا القرآن، ألَا إني والله قد أمَرْتُ، ووعظْتُ، ونهَيت عن أشياء، إنها لمثل القرآن أو أكثر» رواه العرباض، وفي حديث المقدام: «إنما حرم رسول الله كما حرم الله»، وفي تسميته -صلى الله عليه وسلم- نفسه رسول الله إشعار باستقلاله في الأمر والنهي، وكذلك القسم في الحديث الأول مُؤْذِن بالغضب الشديد على المنكر، ووصْفه بالاتكاء على الأريكة شبْعَان من هذا القبيل.شرح المشكاة (6/ 1937).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقوله: «ولما استطعتم» أي: لا تطيقون ذلك؛ لثقله، ومشقته على القريب، ولتعذُّره على البعيد.المفهم (11/ 3)
وقال الطيبي -رحمه الله-:
وفي قوله: «لما استطعتم» إشارة إلى أن بناء الأمر على اليُسر والسهولة، لا العسر والصعوبة، كما ظن السائل.شرح المشكاة (6/ 1937).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«ولما استطعتم» ذلك؛ لأن فيه من المشقة ما لا يُطاق تحمله.دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/ 73).
وقال المباركفوري -رحمه الله-:
«ولما استطعتم» أي: وما قدَرْتُم كلُّكم إتيان الحج في كل عام، {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} البقرة: 286.مرعاة المفاتيح (8/ 296).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وفي رواية النسائيّ: «وَلَوْ وَجَبَتْ، مَا قُمْتُمْ بِهَا» أي: ما قدَرْتم كلّكم على القيام بأدائها في كلّ عام، فتقعون بذلك في حرج عظيم.البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (24/ 271).
وقال الشيخ العبَّاد عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
«ولما استطعتم» فكيف يحج الناس كلهم في كل سَنة؟! ثم إن مكة لا تسع الناس، فهذا السؤل ما كان ينبغي أن يسأل عنه.شرح سنن أبي داود (ص: 2).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
وقد دل قوله: «ولما استطعتم» على أن الحج لو كان كل سَنة لحصل للناس من التعب والمشقة الشيء الكثير، وإذا كان هذا متوقعًا في زمان الصدر الأول، وما بعده، فكيف الحال في زماننا هذا؟! ولكن من تيسير الله -تعالى- ورحمته بعباده، ولطفه بهم أن الحج مرة واحدة في العمر، فالحمد لله على ذلك حمدًا كثيرًا.منحة العلام شرح بلوغ المرام (ص: 145).
قوله: «ذَرُوْنِي ما تركتكم»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«ذَرُونِي» وفي رواية البخاريّ: «دَعُوني» أي: اتركوني من السؤال عن القيود في المطلقات، قال في (القاموس): ذَرْهُ؛ أي: دَعْهُ، يَذَرُه تركًا، ولا تقل: وَذْرًا، وأصله وَذِرَهُ يَذَرُهُ، كوَسِعَه يَسَعُهُ، لكن ما نطقوا بماضيه، ولا بمصدره، ولا باسم الفاعل، أو قيل: وَذِرْتُهُ شاذًّا. انتهى.البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (24/ 271).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
وآثر (تركْتُكُم) على (وذَرْتُكُم) ماضي (يَذَر)؛ لأن العرب لا تستعمله إلا في الشِّعر.
قال سيبويه: اغتناءً عنه بـ(تَرَكَ)، وقال غيره: لما كانت الواو ثقيلة، وكان في هذا الكلام بمعناه فعل لا واو فيه أنْفَوه، حكاهما القرطبي في تفسير سورة هود من تفسير الكبير، وكذا (وَدَعَ) وقيل: بل استعمل وَدَعَ قليلًا، ومنه قوله تعالى: {مَا وَدَعَك رَبُّكَ} الضحى:3، على قراءة التخفيف شاذًا، وحديث: «دَعُوا الحبشة ما وَدَعُوكم».دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (2/96- 97).
وقال -رحمه الله-:
«ذرُوني» أي: لأني لا أنطق إلا بما شرعه الله لكم، ولا أحتاج إلى تنبيه؛ لأني لا أخِلُّ بشيء مما يحتاج إلى البيان عند الحاجة إليه.دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/ 73).
وقال -رحمه الله-:
قوله: «ما تركتُكُم» (ما) فيه ظرفية مصدرية.دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (2/ 96).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «ما تركتكم» أي: مدة تركي إياكم بغير أمر بشيء، ولا نهي عن شيء، وإنما غَايَر بين اللَّفظين؛ لأنهم أماتوا الفعل الماضي، واسم الفاعل منهما، واسم مفعولهما، وأثبتوا الفعل المضارع وهو (يَذَر)، وفعل الأمر وهو (ذَر)، ومثله (دَعْ) و(يَدَعُ)، ولكن سُمِع (وَدَعَ) كما قُرئ به في الشاذ في قوله تعالى: {مَا وَدَعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} الضحى: 3، قرأ بذلك إبراهيم بن أبي عبلة وطائفة، وقال الشاعر:
وَنَحْنُ وَدَعْنَا آلَ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ *** فَرَائِسَ أَطْرَافِ الْمُثَقَّفَةِ السُّمْرِ
ويحتمل: أن يكون ذكَر ذلك على سبيل التَّفَنُّن في العبارة، وإلا لقال: اتركوني، والمراد بهذا الأمر ترك السؤال عن شيء لم يقع؛ خشية أن ينزل به وجوبه أو تحريمه، وعن كثرة السؤال لما فيه غالبًا من التَّعنت، وخشية أن تقع الإجابة بأمر يُستثقل، فقد يُؤدي لترك الامتثال فتقع المخالفة.فتح الباري (13/260).
وقال النووي -رحمه الله-:
وقوله: «ذروني ما تركتكم» ظاهر في أنه لا يقتضي التَّكرار.شرح النووي على صحيح مسلم (9/101).
وقال -رحمه الله- أيضًا:
فيه دليل على أن الأصل عدم الوجوب، وأنه لا حكم قبل ورود الشرع. وهذا هو الصحيح عند محققي الأصوليين؛ لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} الإسراء: 15.شرح النووي على صحيح مسلم (9/101).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
ومعنى الكلام: اتركوني لا تسألوني عما لا يعنيكم في أَمر دينكم، مهما أنا تركتكم لا أقول شيئًا.الشَّافِي في شرح مسند الشافعي (5/555).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «ذروني ما تركتكم»: يعني: لا تكثروا من الاستفصال عن المواضع التي تكون مقيّدَةً بوجهٍ ما ظاهرٍ، وإن كانت صالحة لغيره.
وبيانُ ذلك: أن قوله: «فحُجّوا» وإن كان صالِحًا للتكرار، فينبغي أن يُكتَفَى بما يصدُق عليه اللفظ، وهو المرّة الواحدة، فإنها مدلولةُ اللّفظ قطعًا، وما زاد عليها يُتغافَل عنه، ولا يُكثَر السؤال فيه؛ لإمكان أن يكثر الجواب المترتّب عليه، فيضاهي ذلك قصّة بقرة بني إسرائيل التي قيل لهم فيها: اذبحوا بقرة، فلو اقتصروا على ما يصدق عليه اللفظ، وبادروا إلى ذبح بقرة أيّ بقرة كانت لكانوا ممتثلين، لكن لما أكثروا السؤال كثُر عليهم الجواب، فَشَدّدوا، فشُدِّد عليهم، فذُمُّوا على ذلك، فخاف النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مثل هذا على أمَّتِه.المفهم(3/447-448).
وقال عبد الحق الدِّهْلوي -رحمه الله-:
قوله: «ذروني ما تركتكم» لأني مبعوث لبيان الشَّرائع، وتبليغ الأحكام، فما كان مشروعًا أبيِّنُه لكم لا محالة، ولا حاجة إلى السُّؤال.لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح (5/ 274).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قاله النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن بعض الصحابة من حرصهم على العلم ومعرفة السّنّة كانوا يسألون النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أشياء قد لا تكون حرامًا، فتحْرُم من أجل مسألتهم، أو قد لا تكون واجبة، فتَجِب من أجل مسألتهم، فلهذا أمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يدَعُوهُ، أن يتركوا ما تركه، ما دام لم يأمرهم ولم ينههم، فليحمدوا الله على العافية.
ثم علل ذلك بقوله: «فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم».شرح رياض الصالحين (2/269).
قوله: «فإنما هَلَك من كان قبلكم بِكَثرة سؤالهم»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فإنما أهلك» بفتحات، وقال بعد ذلك: «سؤالهم» بالرفع على أنه فاعل «أهلك»، وفي رواية غير الكَشْمَيْهَني «أُهلِك» بضم أوله، وكسر اللام، وقال بعد ذلك: «بسؤالهم»: أي: بسبب سؤالهم.
وقوله: «واختلافُهم» بالرفع، وبالجر على الوجهين، ووقع في رواية همام عند أحمد بلفظ: «فإنّما هَلَك» -يعني كرواية المصنّف-، وفيه «بسؤالهم»، ويتعين الجر في «واختلافِهم» وفي رواية الزهري: «فإنما أهلك» وفيه «سؤالهم»، ويتعين الرفع في «واختلافُهم».
وأما قول النووي في أربعينِه: «واختلافُهم» برفع الفاء لا بكسرها، فإنه باعتبار الرواية التي ذكرها، وهي التي من طريق الزهري.فتح الباري (13/261).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فإنما أهلك» فاعله مستتر عائدًا لله تعالى؛ لدلالة المقام.
ويحتمل: أنه مبني للمفعول، ونائبه (بكثرة مسائلهم)، ويحتمل: أنه للفاعل، والفاعل بـ(كثرة)، والباء زائدة من باب (كفى بالله)، وهذه النسخة الصحيحة، وفي نسخة: «فإنما هلك» والأمر فيها واضح.التنوير شرح الجامع الصغير (6/ 172).
وقال البِرْماوي -رحمه الله-:
«سؤالُهم» فاعلُ أهلك، وفي بعضها: «هلكَ بسؤالهم»، وإنما كان السؤالُ مهلِكًا؛ لأنه فُضولٌ، وإيذاءٌ للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-.اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (17/228).
قال أبو الفضل العراقي -رحمه الله-:
فيه: نهيه -صلى الله عليه وسلم- أصحابه عن سؤاله عمَّا سَكت عنه.طرح التثريب في شرح التقريب (2/116).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
المراد منه: هو النهي عن الاقتراح والسؤال عمَّا لا يعنيهم ولا يَلِيق بهم، فإنه تَضْيِيع للعمر، ودليل على التَّردد في الأمر، وقد يصير سبب الوقوع في الزَّيغ والبدع؛ لسوء الفهم وضعف البصيرة، ومن أجله ضلَّ مَن قبلهم من الأمم السالفة، واستزلوا واستوجبوا اللَّعن والمسخ، وغير ذلك من البلايا والمحن.تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/130).
وقال التُّورِبِشْتِي -رحمه الله-:
«ذروني ما تركتكم..» الحديث قلتُ: إنما كان كثرة السُّؤال والاختلاف على الأنبياء سببًا للهلاك؛ لأنهما من أمارات التَّردّد في أمر المبعوث، وإساءة الأدب بين يديه، ومِن حق المبعوث إليه أن يعلم أن الله بعث نبيه إليه ليُعرِّفه مصالح مَعَاده ومعاشه، ويبصِّره بمعالم دينه، ولا جائز أن يسكت عند الحاجة، أو يتكلم على خلاف المصلحة، أو يغفل عن مواطن الضرورة، فإن الله -تعالى- لم يجعله مستعدًا لنبوته، ولا أمينًا على وحيه، إلا وقد تكفَّل له بالإصابة، وأيده بالهداية إلى الأرشد والأصلح، فعلى المبعوث إليه أن يُلْقي سمعه إليه، ويشهد بقلبه بين يديه، ويغتنم سكوته إذا سكت، وكلامه إذا تكلم، ويسد دونه باب الاختلاف، ويجتنب معه عن مَظَان الاعتراض، فمهما عوَّد نفسه كثرة السؤال، وفتح عليها باب الاختلاف حرم بركة الصُّحْبَة، فابتلي بسوء الأدب؛ وذلك منشأ الوبال، ومطلع الهلاك.الميسر في شرح مصابيح السنة (1/79).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- لا ينبغي أن يُسأل عن شيء مسكوت عنه؛ ولهذا قال: «دعوني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم»، أما في عهدنا، وبعد انقطاع الوحي بموت النبي -صلى الله عليه وسلم- فاسأل، اسأل عن كل شيء تحتاج إليه؛ لأن الأمر مستقر الآن، وليس هناك زيادة ولا نقص.
أما في عهد التشريع فيمكن أن يُزاد، ويمكن أن ينقص، وبعض العوام يفهم من قوله تعالى: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} المائدة: 101، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «دعوني ما تركتكم...» يفهم من ذلك فهمًا خاطئًا، فتجده يفعل الحرام، ويترك الواجب ولا يسأل، حتى إن بعضهم يقال له: هذا حرام، اسأل العلماء، فيقول: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} المائدة: 101، وهذا لا يجوز.
فالواجب على الإنسان أن يتفقه في دين الله. قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «من يُرِد الله به خيرًا يفقِّهه في الدين».شرح رياض الصالحين (2/271-272).
وقال الشيخ عبد المحسن العبَّاد -حفظه الله-:
قوله: «فإنَّما أهلك مَن كان قبلكم كثرةُ سؤالهم، واختلافُهم على أنبيائهم»، المنهيُّ عنه في الحديث: ما كان من المسائل في زمنه، يترتَّب عليه تحريم شيء على الناس بسبب مسألته، وما يترتَّب عليه إيجاب شيء فيه مشقَّة كبيرة وقد لا يُستطاع، كالحجِّ كلَّ عام.
والمنهيُّ عنه بعد زمنه: ما كان فيه تكلُّف وتنطُّع واشتغال به عمَّا هو أهم منه.فتح القوي المتين في شرح الأربعين(ص: 51).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
قوله: «ذروني» اتركوني، وجاء في الحديث الصحيح: «شرُّ الناس من سأل عن شيء فحُرِّم من أجله»، هذا التضييق على الناس بسبب السؤال، أما الآن بعد انقطاع الوحي لا مانع من السؤال؛ لأن المحظور المرتَّب على السؤال في حياته -عليه الصلاة والسلام- ارتفع؛ ولذا جاء النهي عن السؤال في حياته -عليه الصلاة والسلام-، مع أنه جاء في الآية: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ} النحل: 43، والعلماء سألوا وفصَّلوا في المسائل وشققوها وفرعوها، وليس هذا من التَّعنت ولا من التَّكلف؛ لأن الإشكال وسبب المنع ارتفع.شرح كتاب الحج من صحيح مسلم (23/31).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
فهذا الحديث ... يدلُّ على كراهة المسائل وذمِّها.
ولكن بعضَ الناس يزعمُ أنَّ ذلك كان مختصًا بزمن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-؛ لما يُخشى حينئذٍ من تحريم ما لم يُحرّم، أو إيجاب ما يشقُّ القيام به، وهذا قد أُمن بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم-، ولكن ليس هذا وحده هو سببَ كراهة المسائل، بل له سببٌ آخر، وهو الذي أشارَ إليه ابنُ عباس -رضي الله عنه- في كلامه الذي ذكرنا بقوله: «ولكن انتظرُوا، فإذا نزل القرآن فإنَّكم لا تَسألونَ عن شيءٍ إلا وجدتم تبيانه»، ومعنى هذا: أنَّ جميعَ ما يَحتاجُ إليه المسلمون في دينهم لا بدَّ أنْ يُبينه الله في كتابه العزيز، ويبلِّغ ذلك رسوله عنه، فلا حاجةَ بعدَ هذا لأحدٍ في السؤال، فإنَّ الله -تعالى- أعلمُ بمصالح عباده منهم، فما كان فيه هدايتُهم ونفعُهُم فإن الله لا بدَّ أنْ يبيِّنه لهمُ ابتداءً من غيرِ سؤال، كما قال: {يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} النساء: 176، وحينئذٍ فلا حاجة إلى السُّؤال عن شيءٍ، ولا سيما قبلَ وقوعه، والحاجة إليه، وإنَّما الحاجةُ المهمةُ إلى فهم ما أخبرَ الله به ورسولُه، ثمَّ اتباعُ ذلك، والعملُ به، وقد كان النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُسأَل عنِ المسائل فيُحيل على القرآن، كما سأله عمرُ -رضي الله عنه- عنِ الكَلالَةِ، فقالَ: «يَكفيك آيةُ الصَّيف».
وأشار -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث إلى أنَّ في الاشتغال بامتثالِ أمرِه، واجتنابِ نهيه شغلًا عن المسائل، فقال: «إذا نهيتُكم عن شيءٍ، فاجتنبوه، وإذا أمرتُكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم»، فالذي يتعيَّنُ على المسلم الاعتناءُ به والاهتمامُ: أنْ يبحثَ عمَّا جاءَ عن الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ثم يجتهدُ في فهم ذلك، والوقوف على معانيه، ثم يشتغل بالتَّصديقِ بذلك إنْ كان من الأمور العِلْمِية، وإنْ كان من الأمور العَمَلِية بَذَل وسْعَهُ في الاجتهاد في فعل ما يستطيعه من الأوامر، واجتناب ما يُنهى عنه، وتكون همَّتُهُ مصروفةً بالكلية إلى ذلك لا إلى غيره.
وهكذا كان حالُ أصحابِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- والتَّابعين لهم بإحسانٍ في طلب العلم النافع مِنَ الكتاب والسنة.
فأما إنْ كانت هِمَّةُ السامع مصروفةً عند سماعِ الأمر والنهي إلى فرض أمورٍ قد تقع، وقد لا تقع، فإنَّ هذا مما يدخل في النَّهي، ويثبِّطُ عنِ الجد في متابعة الأمر.جامع العلوم والحكم (1/ 256-258).
وقال -رحمه الله- أيضًا:
وقد انقسم الناسُ في هذا الباب أقسامًا:
فمِن أتْباع أهلِ الحديث منْ سدَّ بابَ المسائل حتَّى قلَّ فقْهُه وعلمُه بحدود ما أنزل الله على رسوله، وصار حامِلَ فقه غير فقيه.
ومن فقهاء أهل الرَّأي مَن توسَّع في توليدِ المسائل قبلَ وقوعها، ما يقع في العادة منها وما لا يقع، واشتغلُوا بتكلُّفِ الجواب عن ذلك، وكثرة الخصومات فيه، والجدال عليه، حتَّى يتولدَ مِن ذلك افتراقُ القلوب، ويستقرَّ فيها بسببه الأهواءُ والشحناءُ والعداوةُ والبغضاءُ، ويقترن ذلك كثيرًا بِنِيَّة الـمُغالبة، وطلب العلوِّ والمباهاة، وصرف وجوه الناس، وهذا ممَّا ذمَّه العلماءُ الربانيون، ودلَّتِ السُّنَّةُ على قُبْحِه وتَحْرِيمه.
وأما فقهاء أهل الحديث العامِلُون به، فإنَّ معظمَ همِّهمُ البحثُ عن معاني كتاب الله -عزَّ وجلَّ-، وما يُفسِّرُهُ من السنن الصحيحة، وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وعن سُنَّةِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومعرفة صحيحها وسقيمِها، ثم التفقه فيها وتفهمها، والوقوف على معانيها، ثم معرفة كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان في أنواع العلوم من التفسير والحديث، ومسائل الحلال والحرام، وأصول السُّنة والزهد والرقائق، وغيرِ ذلك.
وهذا هو طريقة الإمام أحمد، ومن وافقه من علماء الحديث الرَّبّانيين، وفي معرفة هذا شغلٌ شاغلٌ عن التَّشاغُل بما أُحدثَ من الرَّأي ممَّا لا يُنتفع به، ولا يقع، وإنَّما يُورثُ التجادلُ فيه الخصوماتِ والجدالَ وكثرة القِيل والقَال.
وكان الإمام أحمد كثيرًا إذا سُئِلَ عن شيء من المسائل المولَّدات التي لا تقع يقول: دعونا من هذه المسائل المحدثة.جامع العلوم والحكم (1/263-264).
وقال -رحمه الله- أيضًا:
وفي الجملة: فمن امتثل ما أَمَر به النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث، وانتهى عما نهى عنه، وكان مشتغلًا بذلك عن غيره حَصَلَ له النجاةُ في الدنيا والآخرة، ومَنْ خالف ذلك، واشتغلَ بخواطرهِ، وما يستحسنه وقع فيما حذَّرَ منه النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من حال أهل الكتاب الذين هلكوا بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، وعدمِ انقيادهم وطاعتهم لرسلهم.جامع العلوم والحكم (1/ 267).
وقال أبو الفضل العراقي -رحمه الله-:
المراد من قوله: «ذروني ما تركتكم» النَّهي عن السؤال أو كثرة السؤال، والنهي عن الاختلاف عليه، بدليل قوله: «فإنما هَلك الذين من قبلكم» بكذا وكذا، فذكر في التَّعليل الأمرين معًا، وفي رواية مسلم: «بكثرة سؤالهم»، وفي رواية له: «كثرة سؤالهم»، وقد يدل هذا على أن المنهي عنه كثرة السؤال لا مُطْلَقه، وكذلك في حديث المغيرة بن شعبة المتفق عليه أنه «نهى عن كثرة السؤال» الحديث.طرح التثريب في شرح التقريب (2/117).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
فدلَّت هذه الأحاديثُ على النهي عن السُّؤال عمَّا لا يُحتاج إليه مما يسوءُ السائلَ جوابُه، مثل: سؤال السائل هل هوَ في النار أو في الجنة؟ وهل أبوه من ينتسب إليه أو غيره؟ وعلى النهي عن السؤال على وجه التَّعنّت والعبث والاستهزاء، كما كان يفعلُه كثيرٌ من المنافقين وغيرهم.
وقريبٌ من ذلك سؤالُ الآيات واقتراحُها على وجه التَّعنتِ، كما كان يسأله المشركون وأهل الكتاب، وقد قال عكرمة وغيرُه: إنَّ الآية نزلت في ذلك.
ويقرب من ذلك السؤالُ عما أخفاه الله عن عباده، ولم يُطلعهم عليه، كالسؤال عن وقتِ الساعة، وعن الروح.
ودلَّت أيضًا على نهي المسلمين عن السّؤال عن كثيرٍ من الحلالِ والحرام مما يُخشى أنْ يكون السؤال سببًا لنزول التَّشديد فيه، كالسُّؤال عَنِ الحجِّ: هل يجب كلَّ عامٍ أم لا؟ وفي الصحيح عن سعدٍ عنِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: «إنَّ أعظمَ المسلمين في المسلمين جُرمًا مَن سأل عن شيءٍ لم يُحرَّم، فحُرِّمَ من أجل مسألته».
ولما سُئلَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عن اللِّعان كَرِه المسائل وعابها، حتى ابتُلي السائلُ عنه قبلَ وقوعه بذلك في أهله، و«كان النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن قِيْلَ وقَال، وكثرة السؤال، وإضاعةِ المال».
ولم يكن النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُرخِّصُ في المسائل إلاَّ للأعرابِ ونحوهم من الوُفود القادمين عليه؛ يتألَّفهم بذلك، فأمَّا المهاجرون والأنصار المقيمون بالمدينة الذين رَسَخَ الإيمانُ في قلوبهم، فنُهُوا عَنِ المسألة، كما في صحيح مسلم عن النَّوَّاس بن سمعان -رضي الله عنه-، قال: «أقمتُ مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة سنة ما يمنعني منَ الهجرة إلاَّ المسألةُ، كان أحدُنا إذا هاجر لم يسأل النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-».
وفيه أيضًا عن أنسٍ -رضي الله عنه-، قال: «نُهينا أنْ نسألَ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيءٍ، فكان يُعجِبُنا أنْ يجيءَ الرجلُ من أهل البادية العاقل فيسأله ونحنُ نَسْمَعُ».
وفي المسند عن أبي أُمامة -رضي الله عنه- قال: «كان الله قد أنزل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُم} المائدة: 101 قال: فكنَّا قد كرهنا كثيرًا مِنْ مسألته، واتَّقينا ذلك حين أَنْزل الله على نبيه -صلى الله عليه وسلم-، قال: فأتينا أعرابيًا، فَرَشَوْنَاهُ بُردًا، ثمَّ قلنا له: سلِ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، وذكر حديثًا».
وفي مسند أبي يعلى عن البراء بنِ عازب -رضي الله عنه- قال: «إنْ كان لتأتي عليَّ السَّنةُ أريد أنْ أسألَ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيءٍ فأتهيَّب منه، وإنْ كنَّا لنتمنَّى الأعرابَ».جامع العلوم والحكم (1/253-255).
وقال ابن المَلَك الكَرمانيّ -رحمه الله-:
«فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم»: فيه إشارة إلى أن بعض السؤال لا يضر إذا كان بقدر الحاجة.شرح مصابيح السنة(1/160).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «كثرة سؤالهم» دليل على أن بعض السؤال وقليله لا بأس به.التَّحبير لإيضَاح مَعَاني التَّيسير (4/707).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
كثرة السؤال من غير ضرورة مشعر بالتعنُّت أو مُفْض إليه، وهو حرام.دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (2/415).
قوله: «واختلافهم على أنبيائهم»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«واختلافُهم» بالضم؛ لأنه أبلغ في ذم الاختلاف؛ إذ لا يتقيد فيه بكثرة الخلاف، بخلاف ما لو جُرَّ لتقيَّد به، كذا قيل.
وقيل: بالجر، عطف على (كثرة)، لا على السؤال؛ لأن الاختلاف على الأنبياء حرام قلَّ أو كثر.التنوير شرح الجامع الصغير (6/ 172).
وقال المظهري -رحمه الله-:
معنى «الاختلاف» هنا: الاعتراض؛ أي: واعتراضُهم على أنبيائهم، والشكُّ في أقوالهم.المفاتيح في شرح المصابيح (1/257).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قال الأبّيّ -رحمه الله-: قوله: «واختلافهم على أنبيائهم» هو زيادة على ما وقع، فإن الذي وقع إنما هو الإلحاح في السؤال لا الاختلاف.البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (24 /274).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
قوله: «واختِلافُهم» هو بضَمِّ الفاء لا بِكَسْرِها، كما ضَبطهُ النوَوي في نُكَتِهِ؛ عطفًا على «كثرةُ» لا على «مسائِلهم» أي: أهلكهم كثرةُ مسائلهم، وأهلكهم اختلافُهم، وهو أبلغ؛ لأنَّ الهلاكَ نشأ عن الاختلاف.المعين على تفهم الأربعين (ص: 180).
وقال السندي -رحمه الله-:
«واختلافهم» عطف على «كثرة السؤال» إذ الاختلاف وإن قلَّ يؤدي إلى الهلاك.
ويُحتمل أنه عطف على «سؤالهم»، فهو إخبار عمَّن تقدم بأنه كَثُر اختلافهم في الواقع، فأداهم إلى الهلاك، وهو لا ينافي أن القليل من الاختلاف مؤدٍ إلى الفساد.حاشية السندي على سنن النسائي (5/110-111).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
استُفيد منه: تحريم الاختلاف وكثرة المسائل من غير ضرورة؛ لأنه توعد عليه بالهلاك، والوعيد عن الشيء دليل تحريمه، بل كونه كبيرة، ووجهه في الاختلاف: أنه سبب تفرُّق القلوب، ووهن الدِّين؛ وذلك حرام، فسببه المؤدي إليه حرام.دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (2/415).
قوله: «فإذا أمرتُكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «وإذا أمرتكم بشيء»، في رواية مسلم: «بأمر فأتوا منه ما استطعتم» أي: افعلوا قدر استطاعتكم، ووقع في رواية الزهري: «وما أمرتكم به»، وفي رواية همام المشار إليها «وإذا أمرتكم بالأمر فائتمروا ما استطعتم»، وفي رواية محمد بن زياد «فافعلوا».فتح الباري (13/262).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «فإذا أمرتُكُم بشيء فأتوا منه» أي: افعلوا من ذلك المأمور به «ما استطعتم»، «ما» موصولة مفعول «أتوا»؛ أي: الذي تستطيعون فعله، أو هي مصدريّة، أي: افعلوا قدر استطاعتكم.البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (24 /274).
وقال الشيخ عبد العزيز الراجحي ـ حفظه الله ـ :
قوله: «وإذا أمرتكم بشيء» أراد به من أمور الدِّين لا من أمور الدنيا.شرح صحيح ابن حبان (1/17).
وقال الرافعي -رحمه الله-:
قوله: «فما أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم... إلى آخره» يشير إلى أن المأمور قد يُستطاع منه الشيء دون الشيء، فينبغي أن يأتي المأمور بالقدر المستطاع.شرح مسند الشافعي (3/387).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله: «فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» هذا من قواعد الإسلام المهمة، ومن جوامع الكَلِم التي أُعطيها -صلى الله عليه وسلم-، ويدخل فيها ما لا يحصى من الأحكام كالصلاة بأنواعها، فإذا عجز عن بعض أركانها أو بعض شروطها أتى بالباقي، وإذا عجز عن بعض أعضاء الوضوء أو الغسل غسَل الـمُمكن، وإذا وَجد بعض ما يكفيه من الماء لطهارته أو لغسل النجاسة فعَل الممكن، وإذا وجبت إزالة منكرات، أو فطرة جماعة من تلزمه نفقتهم، أو نحو ذلك، وأمكنه البعض فعَل الممكن، وإذا وجد ما يَسْتُر بعض عورته، أو حفِظ بعض الفاتحة أتى بالممكن، وأشباه هذا غير منحصرة، وهي مشهورة في كتب الفقه، والمقصود التنبيه على أصل ذلك.
وهذا الحديث موافق لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} التغابن: 16، وأما قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} آل عمران: 102 ففيها مذهبان:
أحدهما: أنها منسوخة بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} التغابن: 16.
والثاني: -وهو الصحيح أو الصواب وبه جزم المحققون- أنها ليست منسوخة، بل قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} التغابن: 16 مفسِّرة لها، ومبيِّنة للمراد بها، قالوا: {حَقَّ تُقَاتِهِ} آل عمران: 102 هو امتثال أمره، واجتناب نهيه، ولم يأمر -سبحانه وتعالى- إلا بالمستطاع، قال الله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا إِلاَّ وُسْعَهَا} البقرة: 286، وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الحج: 78، والله أعلم.شرح النووي على صحيح مسلم (9/102).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
قوله: «وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» يعني: أنه لا عذر في مفارقته شيء من المنهي عنه، كالعذر في ترك بعض المأمور به عند عدم الاستطاعة، مثلما لو وجد من الماء ما يكفي بعض أعضائه للطهارة، فالواجب عليه استعماله، وتيمم للباقي؛ لقوله: «فأتوا منه ما استطعتم».الإفصاح عن معاني الصحاح (7/250).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه» وجوبًا في الواجب، وندبًا في المندوب «ما استطعتم» أي: ما أطَقْتُم؛ لأن فعله هو إخراجه من العدم إلى الوجود؛ وذلك يتوقف على شَرَائِط وأسباب كالقُدْرة على الفعل ونحوها، وبعضه لا يُستطاع، وبعضه له، فلا جَرم يسقط التكليف بما لا يُسْتطاع؛ إذ لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وبدلالة الموافقة له يخص عموم {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الحشر: 7.
ويؤخذ منه كما قال النووي -رحمه الله- في الأذكار: ينبغي لمن بلغه شيء من فضائل الأعمال أن يعمل به ولو مرة؛ ليكون من أهله، ولا يتركه مطلقًا، بل يأتي بما تيسر منه لهذا الخبر.فيض القدير (3/ 562).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
قوله: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» قد دل على وجوب المقدور عليه من جميع المأمورات، فإن من لم يمكنه الصلاة قاعدًا صلَّى على جنب، وكذلك إذا وجد من الماء بعض ما يكفي في الطهارة فإنه يستعمله ثم يتيمَّم لما بقي، إن كانت جنابة فلا خلاف في المذهب، وإن كان وضوءًا ففيه لأصحابنا وجهان، وللشافعي قولان، المنصور عندنا وعندهم استعماله.
وقال أبو حنيفة ومالك: لا يلزم استعماله في الطهارتين.كشف المشكل من حديث الصحيحين (3/509).
وقال عبد الحق الدِّهْلوي -رحمه الله-:
قوله: «فأتوا منه ما استطعتم» يجوز أن يكون تأكيدًا ومبالغة في إتيان ما أَمَر به، وبذلِ الطاقة فيه، وأن يكون إشارة إلى التيسير ورفع الحرج، كما في الصلاة وأركانها وشرائطها إذا عجز عن بعضها أتى بما استطاع.لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح (5/ 274).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
الحديث دليل على أن الأشياء على استصحاب حال الإباحة فيما لم ينزل فيه حكم.إكمال المعلم بفوائد مسلم (4/ 443).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
من من فوائد الحديث: أن مَن أُمر بشيء فعجز عن بعضه ففعل المقدور أنه يسقط عنه ما عجز عنه؛ وبذلك استدلّ المزنيّ -رحمه الله- على أنّ ما وجب أداؤه لا يجب قضاؤه، ومن ثمّ كان الصحيح أن القضاء بأمر جديد.
قال الجامع -عفا الله عنه-: القول بأن القضاء بالأمر هو الأرجح.البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (24 /278).
قوله: «وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه»:
قال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «فدَعُوه»، أي: فاتركوه.المفاتيح في شرح المصابيح (1/257).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقوله: «وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» يعني: أن النهي على نَقِيض الأمر، وذلك: أنه لا يكون ممتثلًا بمقتضى النهي حتى لا يفعل واحدًا من آحاد ما يتناوله النهي، ومن فَعل واحدًا فقد خالف وعصى، فليس في النهي إلا ترْك ما نهي عنه مطلقًا دائمًا، وحينئذٍ يكون ممتثلًا لترك ما أمر بتركه، بخلاف الأمر على ما تقدم.المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (3/448).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله: «وإذا نهيتكم عن شيء فدَعُوه» فهو على إطلاقه، فإن وُجِد عذر يُبِيحه كأكل الميتة عند الضرورة، أو شرب الخمر عند الإكراه، أو التَّلفظ بكلمة الكفر إذا أُكره، ونحو ذلك فهذا ليس منهيًا عنه في هذا الحال، والله أعلم.شرح النووي على صحيح مسلم (9/102).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ثم إن هذا النهي عام في جميع المناهي، ويستثنى من ذلك ما يُكره المكلَّف على فعله، كشرب الخمر، وهذا على رأي الجمهور.
وخالف قوم، فتمسكوا بالعموم، فقالوا: الإكراه على ارتكاب المعصية لا يبيحها.
والصحيح: عدم المؤاخذة إذا وجد صورة الإكراه المعتبرة. واستثنى بعض الشافعية من ذلك الزنا، فقال: لا يُتصور الإكراه عليه، وكأنه أراد التَّمادي فيه، وإلا فلا مانع أن يُنْعظ أي: انْتَصَبَ الرَّجل بغير سبب، فيكره على الإيْلَاج حينئذٍ، فيولج في الأجنبية، فإن مثل ذلك ليس بمحال، ولو فعله مختارًا لكان زانيًا، فتُصُوِّر الإكراه على الزنا.فتح الباري (13/261).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
قوله: «وإذا نهيتكم عن شيء فدَعُوه» فيه أن الأوامر مُقيَّدة بالاستطاعة دون النواهي؛ لأن الأولى: من باب جَلْبِ المصالح، والثانية: من باب دَرْءِ المفاسد، ودرؤها مقدم على جلب تلك، فلذا سُوْمِح في هذه ما لم يُسامح في تلك.دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/75).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
والظاهر أنَّ ما ورد مِن تفضيل ترك المحرَّمات على فعل الطاعات إنَّما أُريد به على نوافل الطّاعات، وإلاّ فجنسُ الأعمال الواجبات أفضلُ مِنْ جنسِ ترك المحرَّمات؛ لأنَّ الأعمال مقصودة لذاتها، والمحارم المطلوبُ عدمها؛ ولذلك لا تحتاج إلى نية بخلاف الأعمالِ.
وكذلك كان جنسُ ترك الأعمال قد يكون كفرًا كتركِ التوحيد، وكتركِ أركان الإسلام أو بعضها على ما سبق، بخلاف ارتكاب المنهيات فإنَّه لا يقتضي الكفر بنفسه، ويشهد لذلك قولُ ابنِ عمر: «لَرَدُّ دانقٍ من حرام أفضلُ مِنْ مائة ألفٍ تُنْفَقُ في سبيل الله».
وعن بعض السَّلفِ قال: تركُ دانق مما يكره الله أحبُّ إليَّ من خمس مائة حجة. وقالت طائفة من المتأخرين: إنَّما قال -صلى الله عليه وسلم-: «إذا نهيتُكم عن شيءٍ فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»؛ لأنَّ امتثالَ الأمر لا يحصلُ إلاّ بعمل، والعمل يتوقَّفُ وجودُه على شروط وأسباب، وبعضها قد لا يُستطاع، فلذلك قيَّده بالاستطاعة، كما قيد الله الأمر بالتقوى بالاستطاعة، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} التغابن: 16، وقال في الحجّ: {وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} آل عمران: 97.
وأما النهيُّ: فالمطلوب عدمُه؛ وذلك هو الأصل، فالمقصود استمرار العدم الأصلي، وذلك ممكن، وليس فيه ما لا يُستطاع.
وهذا أيضًا فيه نظر، فإنَّ الداعي إلى فعل المعاصي قد يكون قويًا، لا صبر معه للعبد على الامتناع مع فعل المعصية مع القدرة عليها، فيحتاج الكفُّ عنها حينئذٍ إلى مجاهدةٍ شديدةٍ، ربما كانت أشقَّ على النفوس من مجرَّدِ مجاهدة النفس على فعل الطاعة؛ ولهذا يُوجَدُ كثيرًا من يجتهد فيفعل الطاعات، ولا يقوى على ترك المحرمات.
والتحقيق في هذا أنَّ الله لا يكلِّفُ العبادَ مِنَ الأعمال ما لا طاقةَ لهم به، وقد أسقط عنهم كثيرًا من الأعمال بمجرَّدِ المشقة رخصةً عليهم، ورحمةً لهم.
وأمَّا المناهي فلم يَعْذِرْ أحدًا بارتكابها بقوَّةِ الدَّاعي والشَّهوات، بل كلَّفهم تركها على كلِّ حال، وأنَّ ما أباح أنْ يُتناول مِنَ المطاعم المحرَّمة عند الضرورة ما تبقى معه الحياة، لا لأجل التلذذ والشهوة، ومن هنا يعلم صحة ما قاله الإمام أحمد: إنَّ النهي أشدُّ من الأمر.
وقد روي عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- من حديث ثوبان -رضي الله عنه- وغيره أنَّه قال: «استقيموا ولن تُحْصُوا» يعني: لن تقدروا على الاستقامة كلها.جامع العلوم والحكم (1/ 268-270).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قوله:«وإذا نهيتكم عن شيء فدَعُوه» أي: دائمًا على كلِّ تقدير، ما دام منهيًا عنه حتمًا في الحرام، وندبًا في المكروه؛ إذ لا يَتَمثَّل مُقتضى النَّهي إلا بِتَرك جميع جُزْئِياته، وإلا صدق عليه أنه عاصٍ أو مخالف.فيض القدير (3/562).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير ـ حفظه الله ـ :
ما في شيء من النواهي لا يستطاع؛ لأنها ترك، والترك كلٌ يستطيعه، لكن قد تدعو الضرورة إلى ارتكاب شيء من المنهيات، يضطر إلى أكل الميتة، فأبيح له، رخص له في أكل الميتة، مقابلة الأمر والنهي هنا، وتخفيف الأمر بِتَعْلِيقه بالاستطاعة، وحَسَمَ المنهيات دون تعليق، جعل الجمهور يجعلون ارتكاب المحظور أشدّ من ترك المأمور، ويؤيده القاعدة العامة عندهم: أن درء المفاسد مُقَدّم على جلب المصالح، فارتكاب المحظور أشد من ترك المأمور، وهذا قول الجمهور، ويؤيده هذا الحديث؛ لأن الأمر عُلِّق بالاستطاعة، بينما النهي فيه الجزم، ما في تعليق باستطاعة.
شيخ الإسلام يرى عكس هذا، يرى أن ترك المأمور أعظم من ارتكاب المحظور، وحجَّته في ذلك معصية آدم، ومعصية إبليس.
معصية إبليس بترك مأمور بترك السجود، ومعصية آدم بارتكاب محظور الأكل من الشجرة، ولا شك أن معصية إبليس أعظم من معصية آدم، أيُّ القولين أرجح؟ يُنظر إلى كل متقابلين على حِدَة، ما معنى هذا الكلام؟ ننظر في المأمور وميزانه في الشرع، وننظر إلى المحظور وأثره في الفاعل وفي غيره، وما ورد فيهما من النصوص، فكم مِن ترك مأمور أعظم من ارتكاب محظور، وكم مِن ارتكاب محظور أعظم من ترك مأمور.شرح كتاب الحج من صحيح مسلم (23/33).