عنِ الأحْنَفِ بنِ قَيْسٍ، قال: ذهبتُ لِأَنْصُرَ هذا الرَّجلَ، فلَقِيَنِي أبو بَكْرَةَ فقال: أين تُرِيدُ؟ قلتُ: أَنْصُرُ هذا الرَّجلَ، قال: ارْجِعْ؛ فإنِّي سمعتُ رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يقولُ: «إذا التَقَى المسلمانِ بسَيْفَيْهِمَا فالقاتلُ والمقتولُ في النارِ» فقلتُ: يا رسول اللَّه، هذا القاتلُ فما بالُ المقتولِ؟! قال: «إنَّه كانَ حرِيصًا على قَتْلِ صاحبِهِ».
رواه البخاري برقم: (31) واللفظ له، ومسلم برقم: (2888)، من حديث أبي بكرة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
شرح الحديث
قوله: «ذهبتُ لِأَنْصُرَ هذا الرجل»:
قال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «هذا الرجل» يعني: علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-. وقيل: يعني عثمان. الكواكب الدراري (1/ 142).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «ذهبتُ لأنصرَ هذا الرجل» يعني: عليًّا، كذا هو في مسلم من هذا الوجه، وقد أشار إليه المؤلف (البخاري) في الفتن، ولفظه: «أريد نصرة ابن عمِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-». زاد الإسماعيلي في روايته يعني: «عليًّا». فتح الباري (1/ 86).
قوله: «فلقيني أبو بكرة، فقال: أين تريد؟ قلتُ: أَنْصُرُ هذا الرجل»:
قال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «أَنْصُرُ» فإن قلتَ: السُّؤال عن المكان، والجواب عن الفعل، فلا تطابق بينهما، قلتُ: المراد: أريد مكانًا أَنْصُر. الكواكب الدراري (1/ 142-143).
قوله: قال: ارجع، فإني سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار»:
قال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «فالقاتل والمقتول في النار» فإن قلتَ: القاتل والمقتول من الصَّحابة في الجنة إذا كان قتالهم عن الاجتهاد الواجب اتِّباعه.
قلتُ: ذاك عند عدم الاجتهاد، وعدم ظنِّ أن فيه الصَّلاح الدِّيني، أما إذا اجتهد وظنَّ الصَّلاح فيه فهما مأجوران مثابان، مَنْ أصاب فله أجران، ومَنْ أخطأ فله أجر، وما وقع بين الصَّحابة -رضي الله تعالى عنهم- هو من هذا القسم؛ فالحديث ليس عامًّا.
فإن قلتَ: فلِمَ منع أبو بكرة الأحنف منه، وامتنع بنفسه منه؟
قلتُ: ذلك أيضًا اجتهادي، فكان اجتهاده أدى إلى الامتناع والمنع، فهو أيضًا يثاب في ذلك.
فإن قلتَ: لفظة: «في النار» مشعرة بحقيقة مذهب المعتزلة؛ حيث قالوا: بوجوب العقاب للعاصي.
قلتُ: لا؛ إذ معناه: حقُّهما أن يكونا في النار، وقد يعفو الله عنهما نحو قوله تعالى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} النساء: 93، معناه: هذا جزاؤه، وليس بلازم أن يجازى بها. الكواكب الدراري (1/ 143).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال العلماء: معنى كونهما في النار أنهما يستحِقَّان ذلك، ولكن أمْرهما إلى اللَّه تعالى، إن شاء عاقبهما، ثم أخرجهما من النار، كسائر الموحِّدين، وإن شاء عفا عنهما، فلم يعاقبهما أصلًا. وقيل: هو محمول على مَنِ استحلَّ ذلك، ولا حُجَّة فيه للخوارج، ومَنْ قال من المعتزلة بأن أهل المعاصي مُخلَّدون في النار؛ لأنه لا يلزم من قوله: «فهما في النار» استمرار بقائهما فيها.
واحتَجَّ به (يعني بالحديث) مَنْ لم يرَ القتال في الفتنة، وهم كُلُّ مَنْ ترك القتال مع علي -رضي الله عنه- في حروبه، كسعد بن أبي وقاص، وعبد اللَّه بن عمر، ومحمد بن مسلمة، وأبي بكرة وغيرهم -رضي الله عنهم-. وقالوا: يجب الكفُّ حتى لو أراد أحد قَتْله لم يدفعه عن نفسه، ومنهم مَنْ قال: لا يدخل في الفتنة، فإن أراد أحد قتله دفع عن نفسه.
وذهب جمهور الصَّحابة والتَّابعين إلى وجوب نصر الحقِّ، وقتال الباغين، وحَمَل هؤلاء الأحاديث الواردة في ذلك على مَنْ ضَعُف عن القتال، أو قَصُر نظره عن معرفة صاحب الحقِّ.
واتَّفق أهل السُّنَّة على وجوب منع الطَّعن على أحد من الصَّحابة -رضي الله عنهم- بسبب ما وقع لهم من ذلك، ولو عُرف المحقُّ منهم؛ لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد، وقد عفا اللَّه تعالى عن المخطئ في الاجتهاد، بل ثبت أنه يؤجر أجرًا واحدًا، وأن المصيب يؤجر أجرين، وحَمَل هؤلاء الوعيد المذكور في الحديث على مَنْ قاتل بغير تأويل سائغ، بل بمجرد طلب المُلك، ولا يَرِد على ذلك منع أبي بكرة الأحنف من القتال مع علي -رضي الله عنه-؛ لأن ذلك وقع عن اجتهاد من أبي بكرة أدَّاه إلى الامتناع والمنع؛ احتياطًا لنفسه، ولمن نصحه.
قال الطبري -رحمه الله-: لو كان الواجب في كُلِّ اختلاف يقع بين المسلمين الهرب منه بلزوم المنازل، وكسر السُّيوف لَمَا أقيم حدٌّ، ولا أُبطل باطل، ولَوَجَد أهل الفسوق سبيلًا إلى ارتكاب المحرمات، مِنْ: أَخْذ الأموال، وسَفْك الدِّماء، وسبي الحريم، بأن يحاربوهم، ويكفَّ المسلمون أيديهم عنهم، بأن يقولوا: هذه فتنة، وقد نُهينا عن القتال فيها، وهذا مخالف للأمر بالأخذ على أيدي السُّفهاء. انتهى.
وقد أخرج البزار في حديث: «القاتل والمقتول في النار» زيادة تُبيِّن المراد، وهي: «إذا اقتتلتم على الدُّنيا فالقاتل والمقتول في النار».
ويؤيِّده ما أخرجه مسلم بلفظ: «لا تذهب الدُّنيا حتى يأتي على الناس زمان لا يدري القاتل فِيمَ قَتل، ولا المقتول فِيمَ قُتل، فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: الهرج، القاتل والمقتول في النار». فتح الباري (13/ 33- 34).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- مُعلِّقًا:
هذا الذي قاله الطبريُّ تحقيقٌ نفيس جدًّا.
والحاصل: أن ما ذهب إليه الجمهور من وجوب نصر صاحب الحقِّ الذي تبيَّن أمره هو الحقُّ والصَّواب، وإلا لفُتح باب الشَّرِّ والفساد أمام الفسقة والفجرة، وهذا مخالف للشَّريعة الإسلاميَّة التي شرعها الله تعالى لصيانة النَّفس، والمال، والعِرض، والدِّين. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (44/ 236).
وقال أبو عبد الله القرطبي -رحمه الله-:
فبيَّن هذا الحديث أن القتال إذا كان على جهالة من طلب الدُّنيا أو اتِّباع هوى كان القاتل والمقتول في النار، فأمَّا قتال يكون على تأويل ديني فلا. التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (ص:1104)
وقال ابن حجر -رحمه الله- مُعلِّقًا:
قلتُ: ومِنْ ثَمَّ كان الذين توقَّفُوا عن القتال في الجمل وصفِّين أقلَّ عددًا من الذين قاتلوا، وكُلُّهم متأوِّل مأجور إن شاء الله، بخلاف مَنْ جاء بعدهم ممن قاتل على طلب الدُّنيا كما سيأتي عن أبي برزة الأسلمي، والله أعلم.
ومِمَّا يؤيِّد ما تقدَّم ما أخرجه مسلم، عن أبي هريرة رفعَه: «مَنْ قاتل تحت راية عِمِّيَّةٍ يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة فقُتِلَ فقتلته جاهلية». فتح الباري (13/ 34).
وقال النووي -رحمه الله-:
«إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» معنى تواجها: ضرب كُلُّ واحد وجه صاحبه، أي: ذاته وجملته.
وأمَّا كون القاتل والمقتول من أهل النار؛ فمحمول على مَنْ لا تأويل له، ويكون قتالهما عصبيَّة ونحوها.
ثم كونه في النار معناه: مُستحِقٌّ لها، وقد يجازى بذلك، وقد يعفو الله تعالى عنه، هذا مذهب أهل الحقِّ... وعلى هذا يُتأوَّل كُلُّ ما جاء من نظائره.
واعلم أن الدِّماء التي جرت بين الصَّحابة -رضي الله عنهم- ليست بداخلة في هذا الوعيد، ومذهب أهل السُّنَّة والحقِّ: إحسان الظَّنِّ بهم، والإمساك عما شجر بينهم، وتأويل قتالهم، وأنهم مجتهدون متأوِّلون لم يقصدوا معصية ولا محض الدُّنيا، بل اعتقد كُلُّ فريق أنه الْمُحِقُّ ومخالفُه باغٍ، فوجب عليه قتاله؛ ليرجع إلى أمر الله، وكان بعضهم مصيبًا، وبعضهم مخطئًا معذورًا في الخطأ؛ لأنه لاجتهاد، والمجتهد إذا أخطأ لا إثم عليه، وكان علي -رضي الله عنه- هو المحقُّ المصيب في تلك الحروب.
هذا مذهب أهل السُّنَّة، وكانت القضايا مشتبهة حتى إن جماعة من الصَّحابة تحيَّروا فيها فاعتزلوا الطَّائفتين، ولم يقاتلوا، ولم يتيقَّنُوا الصَّواب. شرح صحيح مسلم (18/ 11).
قوله: فقلتُ: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟! قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه»:
قال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «هذا القاتل» هو مبتدأ وخبر، أي: هذا يستحِقُّ النار؛ لأنه قاتل، فالمقتول لم يستحِقَّه وهو مظلوم؟
قوله: «كان حريصًا» فإن قلتَ: قالوا في قوله تعالى: {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} البقرة: 286، اختيار باب الافتعال للإشعار بأنه لا بُدَّ في الشَّرِّ من الاعتمال والمعالجة بخلاف الخير، فإنه بالنِّيَّة المجرَّدة فيه يثاب عليه، فما وجه كون المقتول بمجرد القصد في النار، قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم يتكلَّمُوا، أو يعملوا به»، وفي الحديث الآخر: «إذا همَّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه»؟
قلتُ: مَن عزم على المعصية بقلبه ووطَّن نفسه عليها، أَثِمَ في اعتقاده وعزمه؛ ولهذا جاء بلفظ الحرص فيما نحن فيه، ويحمل ما وقع في هذه الظَّواهر وأمثالها على أن ذلك فيما لم يوطِّن نفسه عليها، وإنما مرَّ ذلك بفكره من غير استقرار، ويُسمَّى هذا همًّا، ويُفرَّق بين الهمِّ والعزم، وأن هذا العزم يكتب سيئة، فإذا عملها كتبت معصية ثانية.
فإن قلتَ: فلِمَ أدخل الحرص على القتل وهو صغيرة في سلك القتل وهو كبيرة؟
قلتُ: أدخلهما في سلك واحد في مجرَّد كونهما في النار فقط، وإن تفاوتا صغرًا وكبرًا وغير ذلك. الكواكب الدراري (1/ 143-144).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
استَدَلَّ بقوله: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه» مَنْ ذهب إلى المؤاخذة بالعزم، وإن لم يقع الفعل، وأجاب مَنْ لم يقل بذلك أن في هذا فعلًا، وهو المواجهة بالسِّلاح، ووقوع القتال، ولا يلزم من كون القاتل والمقتول في النار أن يكونا في مرتبة واحدة، فالقاتل يُعذَّب على القتال والقتل، والمقتول يُعذَّب على القتال فقط، فلم يقع التَّعذيب على العزم المجرَّد، وقد تقدَّم البحث في هذه المسألة في كتاب الرِّقاق عند الكلام على قوله: «مَن هَمَّ بحسنة، ومَنْ همَّ بسيئة»، وقالوا في قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} البقرة: 286 اختيار باب الافتعال في الشَّرِّ؛ لأنه يُشعر بأنه لا بُدَّ فيه من المعالجة، بخلاف الخير، فإنه يثاب عليه بالنِّيَّة المجرَّدة، ويؤيِّده حديث: «إن اللَّه تجاوز لأمتي ما حَدَّثت به أنفسها، ما لم يتكلَّمُوا به، أو يعملوا».
والحاصل أن المراتب ثلاث: الهمُّ المجرَّد، وهو يثاب عليه، ولا يؤاخذ به، واقتران الفعل بالهمِّ، أو بالعزم، ولا نزاع في المؤاخذة به، والعزم، وهو أقوى من الهمِّ، وفيه النزاع. فتح الباري (13/ 34).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
«إنه كان حريصًا على قتل صاحبه» وفي رواية أخرى: «إنه قد أراد قتل صاحبه» فيه حُجَّة للقول الصَّحيح الذي عليه الجمهور: أن العزم على الذَّنب، والعقد على عمله معصية يأثم به، وإن لم يعمله ولا تكلَّم به، بخلاف الهمِّ المعفو عنه، وللمخالف أن يقول: هذا فعل أكثر من العزم، وهو المواجهة والقتال. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (3/ 21).
قال ابن الملقن -رحمه الله- أيضًا:
مقصوده بذلك (يعني ذِكْر البخاري هذا الحديث في باب {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} الحجرات: 9): أن مرتكب المعصية لا يكفر، ولا يخرج بذلك عن اسم الإيمان والإسلام، وهذا مذهب أهل السُّنَّة.
فإن قلتَ: إنما سُمِّي في الآية مؤمنًا، وفي الحديث مسلمًا حال الالتقاء لا في حال القتال وبعده.
قلتُ: الدَّلالة من الآية ظاهرة، فإن قوله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} الحجرات: 10، سمَّاهما أخوين بعد القتال، وأمر بالإصلاح بينهما؛ ولأنهما عاصيان قبل القتال، وهو من حين سعيا إليه وقصداه، والحديث محمول على معنى الآية. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (3/ 9).
وقال الطبري -رحمه الله-:
وقد استدلَّ بهذا (أي: الحديث) من رأى المؤاخذة بأعمال القلوب، ولا دلالة له فيه. غاية الأحكام (6/10).
وقال النووي -رحمه الله-:
فيه دلالة للمذهب الصَّحيح الذي عليه الجمهور أن مَنْ نوى المعصية وأصرَّ على النِّيَّة يكون آثمًا، وإن لم يفعلها ولا تكلَّم. شرح مسلم (18/ 12).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
هذا الحديث عند عدم وجود شبهة فيأثمون جميعًا، وأمَّا إذا كان لإحقاق حقٍّ أو قمع باغ فيأثم الباغي. الحلل الإبريزية من التعليقات البازية على صحيح البخاري (4/ 332).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي الحديث):
منها: بيان تحريم قتال المسلم أخاه المسلم.
ومنها: بيان الوعيد لمن قُتل في مواجهة المسلم؛ مع كونه مقتولًا؛ لكونه حريصًا على قَتْل صاحبه. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (44/ 234).