الخميس 27 رمضان 1446 هـ | 27-03-2025 م

A a

كان رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُكْثِرُ أن يقولَ: «‌يا ‌مُقَلِّبَ ‌القلوبَ ثَبِّتْ قلبي على دينك»، فقلتُ: يا رسول الله، آمَنَّا بك، وبما جئتَ به فهل تخاف علينا؟ قال: «نعم؛ إنَّ القلوب بين أُصْبُعَيْنِ من أصابع الله يُقَلِّبُهَا كيف يشاء».


رواه أحمد برقم: (12107)، والترمذي برقم: (2140) واللفظ له، من حديث أنس -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (7987)، مشكاة المصابيح برقم: (102).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«مُقَلِّبَ ‌القلوب»:
قَلْبُ الشيء: ‌تصريفه ‌وصرفه عن وجهٍ إلى وجهٍ، كقلب الثّوب، وقلب الإنسان، أي: صَرْفُه عن طريقته ...، وتَقْلِيبُ الله القلوب والبصائر: صَرْفُها من رأيٍ إلى رأيٍ، قال: {‌وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ} الأنعام: 110. المفردات في غريب القرآن (ص: 681-682).


شرح الحديث


قوله: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُكْثِرُ أن يقول»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«يُكْثِرُ» من الإكثار. مرقاة المفاتيح (1/ 178).

قوله: «‌يا ‌مُقَلِّبَ ‌القلوب ثَبِّتْ قلبي على دينك»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«‌يا ‌مُقَلِّبَ ‌القلوب» أي: ‌مُصَرِّفُهَا تارة إلى الطاعة، وتارة إلى المعصية، وتارة إلى الْحَضْرَةِ، وتارة إلى الغفلة، «ثَبِّتْ قلبي على دِينك» أي: اجعله ثابتًا على دِينك، غير مائل عن الدين القويم، والصراط المستقيم، والخُلق العظيم. مرقاة المفاتيح (1/ 178).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
إنَّ أحوال القلوب منتقلة، غير ثابتة، ولا دائمة؛ فحق العاقل أن يحذر على قلبه من تقلبه، ويفزع إلى ربه في حفظه. المفهم (6/ 673).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«‌يا ‌مقلب ‌القلوب» المراد تقليب أغراضها، وأحوالها، لا ذواتها، «ثَبِّتْ قلبي على دينك» بكسر الدال، قال البيضاوي: إشارة إلى شمول ذلك للعباد حتى الأنبياء، ودفع توهم أنهم يستثنون من ذلك...
وفيه: أنَّ أغراض القلوب من إرادة وغيرها يقع بخلْق الله، وجواز تسمية الله بما ثبت في الحديث، وإن لم يتواتر، وجواز اشتقاق الاسم له من الفعل الثابت. فيض القدير (5/ 167).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
«‌يا ‌مُقَلِّبَ ‌القلوب ثَبِّتْ قلبي» أضاف القلب إلى ذاته الكريمة تعريضًا لأصحابه، والمقصود الأصلي الدعاء لهم؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- مأمون العاقبة بلا شبهة، وكذا الحال في جميع ما وقع مثله في الأدعية المأثورة؛ ولهذا قال أنس -رضي الله عنه-: «فهل تخاف علينا؟» إلا أنه لما أضافه ظاهرًا إليه قال: «ثَبِّتْ»، وأضاف في حديث عبد اللَّه بن عمرو ... إلى الأصحاب صريحًا فقال: «‌صَرِّفْ قلوبنا»، ومعنى الحديثين واحد، وما وقع بينهما من اختلاف في تقديم الدعاء، وذكر اسم الجلالة، وفي أصابع اللَّه وذِكْر الدِّين ههنا، وتأخير الدعاء، وذكر اسم الرحمن، وذكر طاعتك هناك؛ فمن باب التفنن، مع أنه يمكن أن يكون نقلًا بالمعنى وقع من كل واحد من الصحابة روايته على ما اتفق، وتعرض الطيبي لبيان نكتة هذا الاختلاف بما لا يخلو عن خفاء، واللَّه أعلم. لمعات التنقيح (1/391-392).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «‌يا ‌مُقَلِّبَ ‌القلوب» فإن قلتَ: ما الفائدة في تقديم هذه الكلمات في هذا الحديث، وتأخيرها في حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-...، وتخصيصه هنا بـ«ثَبِّتْ» وهناك بـ«‌صَرِّفْ»، وأضاف القلب إلى نفسه هنا، وهناك مع الجماعة؟
قلتُ -وبالله التوفيق-: قدَّم ها هنا وخصَّ بذكر «ثَبِّتْ» وأضاف القلب إلى نفسه تعريضًا بأصحابه؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- مأمون العاقبة فلا يخاف على نفسه وعلى استقامتها؛ لقوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يس: 3- 4، ومن ثم خصَّ الدِّين بالذِّكْر؛ ولذلك سأل أنس: «هل تخاف على ديننا؟».
وأخّر هناك، وخصَّ بـ«‌صَرِّفْ»، وجَمَع القلب؛ لأن سَوق الكلام لبيان القَدَر، وكان ذِكْر الدعاء مستطردًا له كما سبق. الكاشف عن حقائق السنن (2/ 566).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
قوله: «‌ثَبِّتْ ‌قَلبي ‌عَلَى ‌دِينِكَ» هذا منه -صلى الله عليه وسلم- إما تواضعًا، وأداءً لمقام العبودية حقها، أو تشريعًا لأُمَّته. الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية (4/ 403).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
سَأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ربَّه -سبحانه وتعالى- بعد بيانه أنَّ قلوب العباد بين يدي الله -سبحانه وتعالى- بمنزلة قلب واحد يصرِّفه كيف يشاء، أن يصرف قلبه إلى طاعته؛ لأن مَن جعل الله -سبحانه وتعالى- قلبه مصروفًا إلى طاعته لم يكن له اهتمام بغير طاعة الله تعالى والعمل بما يقرب منه تعالى؛ إذ لا رغبة لقلبه إلى غير طاعته، ولا التفات إلى شيء من المعصية، ومثل هذا ما ورد من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: «يا مقلب القلوب ‌ثبِّت ‌قلبي ‌على ‌دينك».
والحاصل: أن تثبيت قلب العبد على الدِّين وانصرافه إلى الحق من أعظم أسباب النجاة والفلاح والعصمة عن كثير من الذنوب التي يقارفها كثير من العباد. تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين (ص: 447).
وقال الساعاتي -رحمه الله-:
وقال البيضاوي: في نسبة تقلُّب القلوب إلى الله -عز وجل- إشعار بأنه يتولى قلوب عباده، ولا يَكلها إلى أَحدٍ من خلقه، وفي دعائه -صلى الله عليه وسلم-: «‌يا ‌مُقَلِّبَ ‌القلوب ثَبِّتْ قلبي على دينك» إشارة إلى شمول ذلك للعباد حتى الأنبياء، ورفع توهم مَن يتوهم إنهم يستثنون من ذلك، وخص نفسه بالذكر؛ إعلامًا بأن نفسه الزكية إذا كانت مفتقر أن تلجأ إلى الله سبحانه، فافتقار غيرها ممن هو دونه أحق بذلك. الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (14/ 288).

قوله: «فقلتُ: يا رسول الله، آمَنَّا بك، وبما جئتَ به، فهل تخاف علينا؟»:
قال المظهري -رحمه الله-:
يعني: يا رسولَ الله ليس قولُك: «ثبَّت قلبي على دِينك» لأجل نفسك؛ لأنك معصومٌ عن الخطأ والزَّلَّة، خصوصًا عن تقلُّب قلبك عن الدِّين، وإنما تقول هذا ومرادُك أمَّتُك؛ لِتَعْلَمَ أمَّتُك هذا الدعاءَ، ولا يَأمَنُوا من زوال نعمة الإيمان، «فهل تخاف علينا» من أنْ نَرتدَّ عن الدِّين بعد أنْ آمنَّا بك، وبما جئتَ به من الدِّين؟. المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 208).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فقلتُ: يا نبي الله آمنا بك..» أي: بنبوتك، ورسالتك «وبما جئتَ به» من الكتاب والسنة «فهل تخاف علينا؟» يعني: أنَّ قولك هذا ليس لنفسك؛ لأنك في عصمة من الخطأ والزلة خصوصًا مِن تقلُّب القلب عن الدِّين والملة، وإنما المراد تعليم الأُمَّة، فهل تخاف علينا من زوال نعمة الإيمان، أو الانتقال من الكمال إلى النقصان؟ مرقاة المفاتيح (1/ 178).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
لما سمع أنس دُعَاه انتقل إلى نفسه وإلى العباد، فإنه إذا كان -صلى الله عليه وسلم- يخاف تقليب قلبه فكيف بالعباد؟! التحبير لإيضاح معاني التيسير (7/ 26).

قوله: «قال: نعم؛ إنَّ القلوب بين أُصْبُعَيْنِ من أصابع الله، يُقَلِّبُهَا كيف يشاء»:
قال المظهري -رحمه الله-:
فقال -عليه السلام-: «نعم» يعني: أخاف عليكم؛ فإن القلوبَ بمشيئة الله تعالى يقلِّبها كيف يشاء من الإيمان إلى الكفر، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الطاعة إلى العصيان، ومن العصيان إلى الطاعة؛ فلا ينبغي لأحدٍ أن يَأمَنَ زوالَ نعمة الله التي أنعمها عليه، بل ينبغي أن يخافَ ويتضرَّعَ ويسألَ إثباتَ نعمة الإيمان والإسلام والطاعة، وغير ذلك من نِعَمِ الله عليه. المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 208).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قال: «نعم» يعني: أخاف عليكم «إنَّ القلوب بين أُصْبُعَيْنِ من أصابع الله» وفي خبر مسلم: «من أصابع الرحمن»، والفرق: أنه ابتدأ به ثمة فالرحمة سبقت الغضب، فناسب ذِكْر الرحمن، وهنا وقع تأييدًا للخوف عليهم، فالمقام مقام هيبة وإجلال، فناسب ذِكْر مقام الجلالة والإلهية المقتضية لأنْ يخص من شاء بما شاء من هداية أو ضلالة.
«يُقَلِّبُهَا» أي: القلوب «كيف يشاء» مفعول مطلق أي: تقليبًا يريده، أو حال من الضمير المنصوب أي: يُقلِّب على أي صفة شاءها. مرقاة المفاتيح (1/ 178).
قال المناوي -رحمه الله-:
«إنَّ القلوب» أي: قلوب بني آدم جمع قلب، وليس المراد بها هنا اللحم الصنوبري الشكل القارّ في الجانب الأيسر من الصدر؛ فإنه موجود في البهائم، بل لطيفة ربانية روحانية لها بذلك القلب الجسماني تعلُّق، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان، وهي المدرِك، والمخاطَب، والمطالَب، والمعاقَب؛ ولهذه اللطيفة علاقة بالقلب الجسداني، وقد تحيَّرت عقول الأكثر في كيفية التعلُّق، وأن تعلُّقها به يضاهي تعلُّق الأعراض بالأجسام والأوصاف بالموصوفات، أو تعلُّق المستعمِل للآلة بالآلة، أو تعلُّق المتمكِّن بالمكان، وتحقيق التعلق متعلق بعلوم المكاشفة لا بالعلوم النظرية.
«بين أُصْبُعَيْنِ من أصابع الله يُقَلِّبُهَا حيث شاء» أي: يُصرِّفها إلى ما يريد بالعبد بحسب القَدَر الحاوي عليه المستنِد إلى العِلْم الأزلي، بحسب خَلْق تلك الدواعي والصوارف، فتصرفه -سبحانه وتعالى- في خَلْقِه إما ظاهر بخلْقٍ يخرق العادات كالمعجزة، أو بنصب الأدلة كالأحكام التكليفية، وإما باطن بتقدير الأسباب نحو: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} الأنفال: 42، أو يخلق الدواعي والصوارف نحو: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} الأنعام: 108، {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ} الأنعام: 110. فيض القدير (2/379).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «يُقَلِّبُهَا كيف يشاء» والمراد: أنَّ الله هو المتمكن من قلوب العباد، والمتسلِّط عليها والمتصرف فيها كيف يشاء. التحبير لإيضاح معاني التيسير (7/ 26).
وقال ابن تيمية -رحمه الله- في بيان أن "مُقلّب القلوب" اسم من أسماء الله المضافة:
وكذلك أسماؤه المضافة، مثل: أرحم الراحمين، وخير الغافرين، ورب العالمين، ومالك يوم الدين، وأحسن الخالقين، ‌وجامع ‌الناس ‌ليوم لا ريب فيه، ومقلب القلوب، وغير ذلك مما ثبت في الكتاب والسنة وثبت في الدعاء بها بإجماع المسلمين، وليس من هذه التسعة والتسعين. مجموع الفتاوى (22/ 485).
وقال ابن قتيبة -رحمه الله- بعد أن ذكر حديث عبد الله بن عمرو: أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن …»:
ونحن نقول: إنَّ هذا الحديث صحيح، وإنَّ الذي ذهبوا إليه في تأويل الإصبع لا يشبه الحديث؛ لأنه -عليه السلام- قال في دعائه: «يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك» فقالت له إحدى أزواجه: أو تخاف يا رسول الله على نفسك؟ فقال: «إنَّ قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الله -عز وجل-»، فإنْ كان القلب عندهم بين نعمتين من نعم الله تعالى فهو محفوظ بِتَيْنِك النعمتين؛ فلأي شيء دعا بالتثبيت؟ ولمَ احتج على المرأة التي قالت له: «أتخاف على نفسك؟» بما يؤكد قولها؟ وكان ينبغي ألا يخاف إذا كان القلب محروسًا بنعمتين.
فإن قال لنا: ما الإصبع عندك ها هنا؟
قلنا: هو مثل قوله في الحديث الآخر: «يحمل الأرض على إصبع» وكذا على إصبعين، ولا يجوز أن تكون الإصبع ها هنا نعمة، وكقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} الزمر: 67، ولم يجز ذلك.
ولا نقول: إصبع كأصابعنا، ولا يد كأيدينا، ولا قبضة كقبضاتنا؛ لأن كُل شيء منه -عز وجل- لا يشبه شيئًا مِنَّا. تأويل مختلف الحديث (ص: 302-303).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
أخذ السلف أهل السُّنة بظاهر الحديث، وقالوا: إن لله تعالى أصابع حقيقة، نثبتها له كما أثبتها له رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يلزم من كون قلوب بني آدم بين إصبعين منها أن تكون مماسة لها، حتى يقال: إنَّ الحديث موهم للحلول، فيجب صرفه عن ظاهره؛ فهذا السحاب مسخَّر بين السماء والأرض وهو لا يمس السماء ولا الأرض. ويقال: بدر بين مكة والمدينة، مع تباعد ما بينها وبينهما، فقلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن حقيقة، ولا يلزم من ذلك مماسة ولا حلول. القواعد المثلى (ص: 51).
وقال الشيخ عبد العزيز الراجحي -حفظه الله-:
وهذا فيه إثبات الأصابع لله -عز وجل-، وأنَّ قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
وفيه: فضل دعاء: «‌يا ‌مقلب ‌القلوب ثبت قلوبنا على دينك».
وفيه: أنَّ الله يرفع ويخفض، وهذا من صفاته الفعلية، فنُثبت له ذلك كما يليق بجلاله وعظمته. شرح سنن ابن ماجه (13/ 12).


ابلاغ عن خطا