الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

أُقِيمَتِ الصلاةُ فتقدَّم عمَّارٌ وقام على دُكَّانٍ يُصلِّي والناسُ أَسْفلَ منه، فتقدَّم حذيفةُ فأخذَ على يديْهِ فاتَّبَعَهُ عمارٌ، حتَّى أنزلهُ حذيفةُ، فلمَّا فرغ عمارٌ مِن صلاتِهِ قال له حذيفةُ: ألم تسمع رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- يقولُ: «إذا أمَّ الرَّجلُ القومَ فلا يَقُمْ في مكانٍ أرفعَ مِن مقامِهِم» أو نحو ذلك؟ قال عمارٌ: «لذلك اتَّبَعْتُكَ حينَ أَخذْتَ على يدَيَّ».


رواه أبو داود برقم: (598)، والبيهقي في الكبرى برقم: (5441)، والبغوي في شرح السنة برقم: (830)، من حديث حذيفة -رضي الله عنه-.
صحيح أبي داود برقم: (611)، إرواء الغليل برقم: (544).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«‌دُكَّان»:
الدُّكَّان: الدَّكَّة، وهو الموضع المرتفع يجلس عليه. جامع الأصول، ابن الأثير (5/ 633).
وقال العيني -رحمه الله-:
الدكان واحد الدكاكين وهي: الحوانيت، فارسي معرَّب، وقيل: الدكان: الدكة المبنية للجلوس عليها، واختلف في النون، فمنهم من يجعلها أصلًا، ومنهم من يجعلها زائدة. شرح سنن أبي داود (3/ 103).


شرح الحديث


قوله: «أقيمت الصلاة فتقدَّم عمارٌ وقام على دُكَّان يصلي والناس أسفل منه، فتقدم حذيفة فأخذ على يديه فاتَّبعه عمار حتى أنزله حذيفة»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
قوله: «فأقيمت الصلاة، فتقدَّم ‌عمارٌ وقام على ‌دكان» أي: مَسْطبة «يصلي والناس» يصلون «أسفلَ» بالنصب على الظرفية كقوله تعالى: {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} الأنفال: 42، «فتقدم ‌حذيفة» بن اليمان «فأخذ على يديه» أي: تناوله وجبذه...
«فاتَّبعه» فيه التخفيف والتشديد لغتان قرئ بهما في السبع «‌عمار» في ما جبذه «حتى أنزله ‌حذيفة» عن الدكان. شرح سنن أبي داود (3/ 670).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «وقام» أي: وحده، فإنه لو قام الإمام مع بعض القوم في المكان الأعلى لا يُكره. مرقاة المفاتيح (3/ 858).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «يصلي» حقيقة، أو يريد الصلاة وهو الأظهر، «والناس أسفل منه» أي: قائمون في مكان أسفل من مكانه. مرقاة المفاتيح (3/ 859).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
قوله: «فتقدَّم حذيفة، فأخذ على يديه» أي: أمسكهما، وجرَّه إلى أسفل، فيستوي مع المأمومين «فاتَّبَعَهُ » أي: طاوعه. فتح الإله في شرح المشكاة (4/388).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فأخذ على يديه» أي: أمسكهما وجرَّ عمارًا من خلفه لينزل إلى أسفل ويستوي مع المأمومين، «فاتّبعه» بالتشديد «عمارٌ» أي: طاوعه «حتى أنزله» أي: مِن الدكانِ حذيفة. مرقاة المفاتيح (3/ 859).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
ومنه أخذ أئمتنا أنه يُكره للإمام أن يكون أرفع من المأمومين، قالوا: ويقاس بذلك عكسه، بل أولى؛ لأن ارتفاع المأموم أفحش، ولا فرق في كراهة ارتفاع أحدهما بين أن يكونا في المسجد، أو خارج، ولا بين أنْ يكونا بمحلٍّ واحد ...، وفي صريح الحديث خلاف لمن قال: لا كراهة للمسجد مطلقًا. فتح الإله في شرح المشكاة (4/388-389).
وقال أبو علي الهاشمي (الحنبلي) -رحمه الله-:
ولا بأس أن يكون موقف المأموم أعلى من موقف الإمام مع اتصال الصفوف، قد صلى أنس بن مالك -رضي الله عنه- فوقف في غُرفة له يصلي بصلاة الإمام. الإرشاد إلى سبيل الرشاد (ص: 70).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
فإن كان المأموم أعلى من الإمام -كالذي على سطح المسجد، أو رف أو دكة عالية- فلا بأس؛ لأنه روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه صلى بصلاة الإمام على سطح المسجد، وفعله سالم وبه قال.
ويُكره للإمام أن يصلي في طاق القبلة، أو يتطوع في موضع المكتوبة، إلا من حاجة. الشرح الكبير على المقنع (4/ 456).

قوله: «فلما فرغ عمار من صلاته قال له حذيفة: ألم تسمع رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إذا أمَّ الرجلُ القومَ فلا يقم في مكانٍ أرفع من مقامهم»، أو نحو ذلك؟ قال عمار: «لذلك اتبعتك حين أخذتَ على يَديَّ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «فلما فرغ عمار من صلاته، قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟» وهذا يدل على شهرة هذا الحديث عندهم «يقول: إذا أمَّ الرجل القوم فلا يقم في مقام أرفع» أي: أعلى «من مقامهم، أو نحو ذلك» عطف على مفعول «يقول».
«فقال» أي: له كما في نسخة صحيحة «عمار: لذلك» أي: لأجل سماعي هذا النهي منه أولًا، وتذكُّري بفعلك ثانيًا «اتبعتك» أي: في النزول «حين أخذت على يَدِي» وفي نسخة صحيحة بالتثنية. مرقاة المفاتيح (3/ 859).
وقال محمود خطاب السبكي -رحمه الله-:
فلما سلّم ‌عمارٌ من صلاته قال له ‌حذيفة: «ألم تسمع...» أي: أفعلتَ ذلك ولم تسمع رسول الله -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم- يقول: «إذا أم الرجل...» إلخ؟ وقوله: «لذلك اتبعتك» أي: لأجل سماعي النهى عن ذلك منه -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم- وتذّكري إياه اتبعتك. المنهل العذب المورود (4/ 321).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
فإن كان العلو كثيرًا أبطل الصلاة في قول ابن حامد، وهو قول الأوزاعي؛ لأن النهى يقتضي فساد المنهي عنه، وقال القاضي: لا تبطل، وهو قول أصحاب الرأي؛ لأن عمارًا أتم صلاته، ولو كانت فاسدة لاستأنفها، ولأن النهي معلَّل بما يفضي إليه من رفع البصر، وهو لا يبطل الصلاة، فسببه أولى. الشرح الكبير على المقنع (4/ 456).
وقال القاضي أبو يعلى (الحنبلي) -رحمه الله-:
فإن قيل: يُحمل هذا النهي عليه إذا لم يقصد به تعليم مَن خلفه الصلاة، قيل له: النهي عام، فلم يجز تخصيصه إلا بدلالة؛ ولأن موضع الإمام أعلى من موضع المأموم؛ فوجب أن يُكره ذلك، أصله: إذا لم يرد أن يعلِّم مَن خلفه؛ ولأنه إذا كان الإمام أعلى لم يمكنه أن يقتدي به إلا بعد رفع رأسه إليه، وهو منهي عن ذلك. التعليقة الكبيرة(2/ 430).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
فأما حديث سهل -رضي الله عنه- فالظاهر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان على الدرجة السفلى؛ لئلا يحتاج إلى عمل كثير في الصعود والنزول، فيكون ارتفاعًا يسيرًا، فلا بأس به؛ جمعًا بين الأخبار، ويحتمل أن يختص ذلك بالنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه فعل شيئًا ونهى عنه، فيكون فعله له ونهيه لغيره؛ ولذلك لا يستحب مثله لغير النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ولأن النبي لم يتم الصلاة على المنبر، فإن سجوده وجلوسه إنما كان على الأرض، بخلاف ما اختلفنا فيه. المغني (3/ 48).
وقال أبو عبد الله القرطبي -رحمه الله-:
فهؤلاء ثلاثة من الصحابة -رضي الله عنهم- قد أخبروا بالنهي عن ذلك، ولم يحتجَّ أحد منهم على صاحبه بحديث المنبر؛ فدل على أَنه منسوخ، ومما يدل على نسخه: أن فيه عملًا زائدًا في الصلاة، وهو النزول والصعود، فنُسخ كما نسخ الكلام والسلام، وهذا أولى مما اعتَذر به أصحابُنا مِن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان معصومًا مِن الكِبر؛ لأن كثيرًا من الأئمة يوجدون لا كِبْرَ عندهم، ومنهم من علَّله بأن ارتفاع المنبر كان يسيرًا، والله أعلم. الجامع لأحكام القرآن (11/ 85).
وقال الشيرازي-رحمه الله-:
والمستحب ألا يكون موضع الإمام أعلى من موضع المأمومين، إلا أن يريد تعليمهم أفعال الصلاة؛ فالمستحب أن يقف الإمام على موضع عال؛ كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإن تقدم المأموم على الإمام لم تصح صلاته في أصح القولين.
وإن صلَّت المرأة بنسوة قامت وسط الصف. التنبيه في الفقه الشافعي (ص39)
وقال ابن رفعة (الشافعي) -رحمه الله-:
أشار بذلك (أي: الشيرازي) إلى ما رواه سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام عليه -يعني: على المنبر- فكبَّر، وكبَّر الناسُ وراءه، ثم ركع وهو على المنبر، ثم رفع ونزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته، ثم أقبل على الناس فقال: «أيها الناس، إنما فعلتُ هذا لتأتموا بي، وتَعَلَّموا صلاتي» أخرجه البخاري ومسلم؛ ولأن الارتفاع في هذه الحالة أبلغ في الإعلام فكان أولى، فلو خالف الإمامُ وصلى في موضع عالٍ لا لأجل التعليم؛ كان تاركًا للأَوْلى.
وقال أبو حنيفة ومالك: إنه مكروه، وأطلق ابنُ الصباغ والمتولي في ذلك لفظ الكراهة عندنا أيضًا، والمشهور الأول. كفاية النبيه في شرح التنبيه (4/ 67).
قال الشافعي-رحمه الله-:
وأختار للإمام الذي ‌يُعلِّم ‌مَن ‌خلفه أن يصلي على الشيء المرتفع؛ ليراه من وراءه فيقتدون بركوعه وسجوده. الأم(1/ 199 ط الفكر).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وكذا حكى ابنُ المنذر عن الشافعي جوازَه إذا أراد تعليمهم، واختاره ابن المنذر، وقال: إذا لم يُرِد التعليم فهو مكروه؛ لحديث ابن مسعود -رضي الله عنه-.
ومِن أصحابنا مَن حكى رواية عن أحمد كذلك.. فتح الباري (2/ 455).
وقال المظهري -رحمه الله-:
وهذا دليل على أن الخطوة والخطوتين في الصلاة لا تبطلها، وعلى أن كون موضع الإمام أعلى من موضع المأمومين مكروه، والكراهية إنما تكون إذا كان موضعًا أعلى من موضع أهل الصف الذي خلفه، لا من موضع أهل جميع الصفوف.
ويدل أيضًا على أن المداهنة في الدين غير جائزة إذا لم يكن خوف؛ لأن ‌حذيفة لم يؤخر عمارًا إلى فراغه من الصلاة. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 231).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
وهذا يدل على كراهة كون موضع الإمام أعلى من موضع المأمومين، لكن هذه الكراهة إنما تكون لو كان موضعه أعلى من أهل الصف الذي خلفه، لا من موضع أهل جميع الصفوف. شرح المصابيح (2/ 113).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
فيه: النهي عن المنكر باليد والمبادرة إليه وهو في الصلاة ولم يمهله حتى فرغ منها. شرح سنن أبي داود (3/ 670).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-أيضًا:
وفيه: متابعة المصلي مَن نهاه عما لا يجوز في الصلاة، وانقياده إلى الخير.
والفعل القليل في الصلاة لا يُبْطِلها لا سيما إن كان ترك منهي عنه أو لحاجة. شرح سنن أبي داود (3/ 670).
وقال العيني -رحمه الله-:
وبهذا الحديث استدل أصحابنا أن الإمام إذا كان وحدهُ على الدكان يكره ذلك؛ لأنه يُشبه صنيع أهل الكتاب من حيث تخصيص الإمام بالمكان، وكذا إذا كان القوم على الدكان وحدهم؛ لأنه ازدراء بالإمام. شرح سنن أبي داود (3/ 103).
وقال العيني -رحمه الله- أيضًا:
والجواب عن حديث سهل -رضي الله عنه- أنه كان فعله -عليه الصلاة والسلام- للحاجة إلى تعليم القوم وقد قلنا: إنه لا يكره للضرورة، وأيضًا قد يحتمل أنه كان في الدرجة السفلى؛ لأنه لا يحتاج إلى عمل كثير في النزول والصعود، والعمل الكثير مفسد للصلاة بلا خلاف، وأيضًا هو فِعل، والذي قاله الأكثرون قول، والقول مقدَّم على الفعل، وقال ابن قدامة: لاحتمال اختصاصه بفعله -عليه السلام-.
قلتُ: هذا لا يمكن مع قوله: «إنما فعلتُ هذا لتقتدوا بي، ولتعلموا صلاتي» فقد نص -عليه السلام- أنه غير مختص به، بل فعله كذلك لتقتدوا به فيما فعله. البناية شرح الهداية (2/ 453).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
ففي هذا الحديث دليل على منع الإمام من الارتفاع على المؤتم، ولكن هذا النهي يحمل على التنزيه؛ لحديث صلاته -صلى الله عليه وسلم- على المنبر كما وقع في الصحيحين وغيرهما، ومن قال: إنه -صلى الله عليه وسلم- فعل ذلك للتعليم كما وقع في آخر الحديث فلا يفيده ذلك؛ لأنه لا يجوز له في حال التعليم إلا ما هو جائز في غيره، ولا يصح القول باختصاص ذلك بالنبي -صلى الله عليه وسلم-. السيل الجرار (ص: 159).
وقال محمود خطاب السبكي-رحمه الله-:
وهذا الحديث صريح في أن الإمام كان عمارًا، والآخذ له ‌حذيفة -رضي الله عنهما-، والحديث (الآخر) صريح في أن الإمام كان ‌حذيفة والآخذ له أبو مسعود -رضي الله عنهما-، ولا تنافي بينهما لاحتمال تعدد القصة، وعلى تقدير عدم تعددها فالأول أقوى؛ لأن الثاني فيه رجلٌ مجهول. المنهل العذب المورود (4/ 321)


ابلاغ عن خطا