كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إذا سلَّمَ لم يقْعُدْ إلا مِقْدَارَ ما يقولُ: «اللهُمَّ أنتَ السلامُ ومنكَ السلامُ، تبارَكْتَ ذا الجلالِ والإكرامِ»، وفي رواية ابن نُمَيْرٍ: «يا ذا الجلالِ والإكرامِ».
رواه مسلم برقم: (592)، من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«السلام»:
هُوَ اسْم من أَسمَاء الله تَعَالَى، ومَعْنَاهُ: الذي سَلِمَ من كُلِّ عيب. غريب الحديث، لابن الجوزي (1/ 494).
«تباركت»:
قال أبو العباس: تبارك الله أي: تعالى الله. والبركة: النَّماء والعلوُّ. وقال ابن الأنباري: تبارك الله أي: يتبرَّك العباد بتوحيده وذكر اسمه. والتَّبرُّك طلب البركة. الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي، للأزهري (ص: 64).
«ذا الجلال»:
الجلال: العظمة.
ومن أسماء الله تعالى «الجليل»، وهو: الموصوف بنعوت الجلال، والحاوي جميعها هو الجليل المطلق، وهو راجع إلى كمال الصِّفات. النهاية، لابن الأثير (1/ 287-288).
شرح الحديث
قولها: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا سلَّم لم يقعد إلا مقدار ما يقول»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«إذا سلَّم» أي: من الصَّلاة المكتوبة التي بعدها سُنَّة «لم يقعد» أي: بين الفريضة والسُّنَّة «إلا مقدار ما يقول»؛ لأنه صحَّ أنه كان يقعد بعد أداء الصُّبح على مصلَّاه حتى تطلع الشَّمس،... والمعنى إلا قدر زمان يقول هو أو القائل: «اللهم أنت السَّلام». مرقاة المفاتيح (2/ 760).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قولها: «لم يقعد» من جلوسه «إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السَّلام...» إلى آخره؛ يعني: لا يقعد إذا سلَّم من فريضة بعدها سُنَّة إلا هذا المقدار، وهي الظُّهر والمغرب والعِشاء، وأما الصُّبح والعصر فقد جاء الحديث: «أنه -عليه السَّلام- يجلس في المسجد زمانًا مديدًا». المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 174).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
هذا إنما هو في الصَّلاة بعدها راتبة، أما التي لا راتبة بعدها كصلاة الصُّبح فلا، إذ روي أنه كان يقعد بعد الصُّبح على مُصلَّاهُ حتى تطلع الشَّمس. ودلَّ حديث أنس -رضي الله عنه- على استحباب الذِّكر وفضله بعد صلاة الصُّبح إلى الطُّلوع، وبعد صلاة العصر إلى الغروب. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 312).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«كان إذا سلَّم لم يقعد» أي: بين الفرض والسُّنَّة لِمَا صح أنه كان يقعد بعد أداء الصُّبح في مُصلَّاه حتى تطلع الشَّمس. فيض القدير (5/ 142).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
وما تقرَّر من حمل لم يقعد إلا بمقدار ما ذكر على ما بين الفرض والسُّنَّة هو ما ذهب إليه ذاهبون، أي: لم يمكث مستقبل القبلة إلا بقدر ما يقول ذلك، وينتقل، ويجعل يمينه للناس ويساره للقبلة. فيض القدير (5/ 142).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «لم يقعد إلا مقدار» الظاهر أن المراد لم يقعد على هيئته إلا هذا المقدار، ثم ينصرف عن جهة القبلة، وإلا فقد جاء أنه «كان يقعد بعد صلاة الفجر إلى أن تطلع الشَّمس»، وغير ذلك، فلا دلالة في هذا الحديث على أن المصلِّي لا يشتغل بالأوراد الواردة بعد الصَّلاة، بل يشتغل بالسُّنن الرَّواتب، ثم يأتي بالأوراد كما قال بعض العلماء. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه (1/ 297).
وقال محمد المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «إذا سلَّم لا يقعد إلا مقدار ما يقول إلخ» أي: في بعض الأحيان، فإنه قد ثبت قعوده -صلى الله عليه وسلم- بعد السَّلام أزيد من هذا المقدار. تحفة الأحوذي (2/ 165-166).
وقال الصالحي الشامي -رحمه الله-:
والظَّاهر أن هذا القعود الذي كان عليه في الصَّلاة، ثم يجعل يمينه للناس ويساره للقبلة جمعًا بين الأحاديث، فيُحرَّر ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم. سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (8/ 165).
وقال البهوتي -رحمه الله-:
ويكره إطالة القعود للإمام بعد الصَّلاة لضيق المسجد مستقبل القبلة؛ لقول عائشةَ –رضي الله عنها-: «كان -صلى الله عليه وسلم- إذا سلَّم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهمَّ أنت السَّلام، ومنك السَّلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» رواه مسلم؛ ولأنه إذا بقي على حاله رُبَّما سها فظنَّ أنه يسلِّم، أو ظنَّ غيره أنه في الصَّلاة والمأموم والمنفرد على حالهما، «إن لم يكن» هناك «نساء ولا حاجة» تدعو إلى إطالة الجلوس مستقبلًا، كما إذا لم يجد منصرفًا، ولم يمكنه الانحراف. كشاف القناع (1/ 493-493).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
الحديث دليل لمالك: على كراهيته للإمام المقام في موضعه الذي صلَّى فيه بعد سلامه، خلافًا لمن أجاز ذلك، والصَّحيح: الكراهة لهذا الحديث، ولِمَا رواه البخاري من حديث أُمِّ سلمةَ –رضي الله عنها-: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا سلَّم يمكث في مكانه يسيرًا». قال ابن شهاب: فنُرَى -والله أعلم- لكي ينفذ من ينصرف من النِّساء. ووجه التَّمسُّك بذلك أنهم اعتذروا عن المقام اليسير الذي صدر عنه -عليه الصلاة والسلام-، وبيَّنوا وجهه، فدلَّ ذلك: على أن الإسراع بالقيام هو الأصل والمشروع، وأمَّا القعود فإنما كان منه ليستوفي من الذِّكر ما يليق بالسَّلام الذي انفصل به من الصَّلاة، ولينصرف النِّساء. المفهم (2/ 210).
قوله: «اللهُمَّ أنتَ السلامُ، ومنكَ السلامُ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«اللهمَّ أنت السَّلام» أي: من المعائب والحوادث والتَّغيُّر والآفات: «ومنك السَّلام»، أي: منك يرجى ويستوهب ويستفاد. مرقاة المفاتيح (2/ 760-761).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- أيضًا:
«اللهمَّ أنت السَّلام» فطاعتنا لا تسلم من العيوب، «ومنك السَّلام» بأن تقبلها وتجعلها سالمة، وتغفر تقصيرنا المعدَّ من الذُّنوب. مرقاة المفاتيح (2/ 761).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«اللهمَّ أنت السَّلام» أي: المختصُّ بالتَّنزُّهِ عن النَّقائص والعيوب لا غيرك، «ومنك السَّلام» أي: غيرك في معرض النُّقصان، والخوف مفتقر إلى جنابك بأن تؤمِّنَه. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 241).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
«اللهمَّ أنت السَّلام» أي: السَّالم من كُلِّ ما لا يليق بجلال الرُّبوبيَّة وكمال الألوهيَّة.
«ومنك» لا من غيرك؛ لأنك أنت السَّلام الذي تعطي السَّلامة، لا غيرك، وإليك يعود السَّلام، وكُلُّ ما يشاهد من سلامة فإنها لم تظهر إلا منك، ولا تضاف إلا إليك، «السَّلام» أي: منك يرجى ويستوهب، ويستفاد السَّلامة. فيض القدير (5/ 142-143).
وقال ابن سيد الناس -رحمه الله-:
قوله: «أنت السَّلام، ومنك السَّلام» فالأوْلَى: اسم من أسماء الله تعالى كما قال تعالى: {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} الحشر:23 .
والثَّانية: السَّلامة كما قال: {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} الواقعة:91، ومعناه: أن السَّلامة من المعاطب والمهالك إنما تحصل لمن سلَّمه الله تعالى، كما قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ} الأنعام:17. النفح الشذي شرح جامع الترمذي (4/ 559).
وقال محمد المباركفوري -رحمه الله-:
«اللهمَّ أنت السَّلام» هو من أسماء الله تعالى، أي: أنت السَّليم من المعايب والآفات ومن كُلِّ نقص، «ومنك السَّلام» هذا بمعنى السَّلامة، أي: أنت الذي تعطي السَّلامة وتمنعها. تحفة الأحوذي (2/ 166).
قوله: «تبارَكْتَ ذا الجلالِ والإكرامِ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«تباركت» أي: تعاليت أن تُعبد حقَّ عبادتك، وأن تُطاع حقَّ طاعتك. مرقاة المفاتيح (2/ 761).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«تباركت» تعظَّمت وتمجَّدت، أو جئت بالبركة. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 241).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
«تباركت» أي: تعاظمت وارتفعت شرفًا وعِزَّة وجلالًا. فيض القدير (5/ 142).
وقال ابن سيد الناس -رحمه الله-:
قوله: «تباركت» تفاعلت من البركة، وهي الكثرة والنَّماء، ومعناه: تعاظمت إذ كثرت صفات جلالك وكمالك.
قوله: «ذا الجلال» يريد ذا العظمة والسُّلطان، وهو على حذف حرف النِّداء، تقديره: يا ذا الجلال والإكرام، يريد الإحسان وإفاضة النِّعم. النفح الشذي شرح جامع الترمذي (4/ 559).
وفي رواية ابن نمير: «يا ذا الجلالِ والإكرامِ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«يا ذا الجلال» أي: صاحب الانتقام من الفُجَّار، «والإكرام»، أي: صاحب الإنعام على الأبرار. مرقاة المفاتيح (2/ 761).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«يا ذا الجلال والإكرام» لا تستعمل هذه الكلمة في غير الله تعالى عمَّا تتوهَّمه الأوهام، وتتصوَّره العقول والأفهام. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 241).