«جاءَ سُلَيْكٌ الغَطَفَانِيُّ يومَ الجُمُعةِ، ورسولُ اللهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم- يخطبُ، فجلسَ، فقال له: يا سُلَيْكُ، قُمْ فارْكَعْ ركعتينِ، وتَجَوَّزْ فيهما، ثم قال: إذا جاءَ أحدُكُم يومَ الجُمُعةِ والإمامُ يخطبُ، فليرْكَعْ ركعتينِ، وليَتَجَوَّزْ فيهما».
رواه البخاري برقم: (930)، ومسلم برقم: (875) واللفظ له، من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«تَجَوَّزْ فيهما»:
أي: خفِّفْهُما ولا تُطِلْ. تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي (ص: 85).
يُقال: تجَوَّزَ في الصَّلاة: خفَّفَ، ومنه الحديث: «أَسْمَعُ بكاءَ الصبيِّ فأَتَجوَّزُ في صلاتي» أي: أُخَفِّفُها وأُقَلِّلُها، وفي حديثٍ آخر: «تَجَوَّزوا في الصَّلاة» أي: خفِّفوها، وأَسْرِعوا بها. تاج العروس، للزبيدي (15/ 78).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
وتجوَّزْتُ في الصلاة: ترخَّصْتُ فأتيتُ بأقل ما يكفي. المصباح المنير (1/ 115).
شرح الحديث
قوله: «ورسولُ اللهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم- يخطبُ، فجلسَ»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«والنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يخطبُ» زاد مسلم في رواية جابر أيضًا بلفظ: «...ورسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قاعدٌ على المنبر». شرح سنن أبي داود (5/ 629).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
يحتمل أيضًا: أنْ يكون الراوي تجَوَّزَ في قوله: «قاعد»؛ لأن الروايات الصحيحة كلها مطبقة على أنَّه دخل والنبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب. فتح الباري (2/ 409-410).
وقال التهانوي -رحمه الله-:
يجوز أنْ يكون معنى قوله: «إذا جاء أحدكم والإمام يخطب» أي: يريد أن يخطب «فليركع ركعتين» قبل شروع الإمام في الخطبة...
فالظاهر: أنَّ أمره -صلى الله عليه وسلم- سُلَيْكًا بالركعتين وقوله: «إذا جاء أحدكم..» إلخ، كان كله وهو قاعد قبل شروعه في الخطبة، والظاهر: أنَّه أمسك له النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الخطبة، وانتظره حتى فرغ من صلاته، ثم أخذ في خطبته...، فكل ما ورد فيه «أنَّ سُلَيْكًا جاء ورسول الله يخطب» محمول عندنا على المجاز، بدليل رواية مسلم: «جاء سُلَيْك ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعد على المنبر». إعلاء السنن (2/82).
قوله: «يا سُلَيْكُ، قُمْ فارْكَعْ ركعتينِ»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«فاركع» المراد بالركوع: الصلاة، كما يُعَبَّر عنها بالسجود، وأصل الركوع: الانقياد لما يلزم في دين الله ويُنْدَب. شرح سنن أبي داود(5/ 631).
وقال ابن رسلان -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «قم فاركع» فيه أنَّ تحية المسجد لا تفوت بالجلوس في حق جاهل حكمها. شرح سنن أبي داود (5/ 629).
وقال النووي -رحمه الله-:
وقد أطلق أصحابنا (الشافعية) فواتها بالجلوس، وهو محمول على العالم بأنَّها سُنَّة، أَمّا الجاهل فيتداركها على قُرْب؛ لهذا الحديث. شرح صحيح مسلم (6/ 164).
وقال المحب الطبري -رحمه الله-:
(فيه) دليلُ ظاهرِهِ على أنه قال له ذلك بعد أنْ جلس، وأنَّ تحية المسجد لا تفوت بالجلوس...، وعلى أنْ يُقال: وقتها قبل الجلوس أداء، فإذا جلس فاتت، والحديث محمول على الأمر بالقضاء، والسنن تُقضى على الأصح، أو يُقال: وقتها قبل الجلوس وقت فضيلة، وبعده وقت جواز -والله أعلم. غاية الأحكام (2/567-568).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
ما ذكره المحب الطبري: فيه نظر، بل يُشْرَع لمن لم يُصَلِّ قبل الجلوس نسيانًا أو جهلًا أنْ يصلي بعده مطلقًا، على ظاهر النصوص المذكورة، فإنه -صلى الله عليه وسلم- أمر بالصلاة قبل الجلوس، وأمر مَن لم يُصَلِّ قِبَلَهُ أنْ يقوم فيصلي، ولم يُبيِّن التفصيل الذي ذكره المحب، فتنبَّه -والله أعلم-. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (9/ 164).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
وأما الجلوس قبل أنْ يركعهما فمكروه للعالم بأنَّها سُنة، وأما الجاهل فيُستحب له تداركها على قُرْب، ولا تسقط بمجرد الجلوس، ولا بالنسيان إذا ذكرها على قُرْب. العدة في شرح العمدة (2/ 678).
قوله: «وتَجَوَّزْ فيهما»:
قال ابن هبيرة -رحمه الله-:
قوله: «وتجوَّز فيهما» أي: خَفِّفْهُما ولا تُطِلْ؛ لأجل استماع الخطبة. الإفصاح عن معاني الصحاح (8/ 294).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
قوله: «تجوَّز فيهما» أي: خَفِّفْهُما، وأسرع بهما، ومنه حديث: «أسمع بكاء الصبي فأتجوَّزُ في صلاتي».
وظاهر قوله: «فيهما» أنَّه يُخفِّف في الفرائض والأبعاض والسنن، لا أنَّه يقتصر على الفرائض دون السنن، والمعنى في تخفيفهما ليستمع الخطبة بعدهما. شرح سنن أبي داود (5/ 631-632).
قوله: «ثم قال: إذا جاءَ أحدُكُم يومَ الجُمُعةِ والإمامُ يخطبُ، فليرْكَعْ ركعتينِ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب» أي: يريد، أو يقرُب أن يخطب «فليركع ركعتين». مرقاة المفاتيح (3/ 1046).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
ذهب مالك والليث وأبو حنيفة والثوري وأصحابهما وجمهور عن السلف من الصحابة والتابعين: أنَّه لا يركع (تحية المسجد حال الخطبة)، وهو مروي عن عمر وعثمان وعلي، وحجتهم: الأمر بالإنصات للإمام، وقول ابن شهاب: خروج الإمام يقطع الصلاة، ولم يُخبر عن رأيه، وأنَّ ذلك سُنَّة، وعمل مستفيض في زمن الخلفاء؛ ولقوله للذي رآه يتخطَّى رقاب الناس: «اجلس فقد آذيتَ»، ولم يأمره بركوع، وتأوَّلوا حديث الداخل أنه إنما أمره النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- لأنه كان عُريانًا أتى عليه خِرْقَة، فأمره النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- ليقوم يصلي فيراه الناس، وأنه فعل به ذلك في الثانية وفي الثالثة، وأمر الناس في الثالثة أن يتصدَّقوا بكسوة، رواه أبو سعيد الخدري، وأنَّها قضية في عين، ورجل مخصوص، ولِعِلَّة.
لكن يعارضه الحديث الآخر: أَمْرُهُ -عليه السلام- بذلك من جاء يوم الجمعة، وذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وفقهاء أصحاب الحديث إلى جواز ذلك، وحجتهم هذه الأحاديث، وقاله الحسن وأبو ثور، وقال الأوزاعي: إنما يركعهما من لم يركعهما في بيته على ظاهر الحديث، ورأى بعض المتأخرين من أصحاب الحديث استعمال الحديثين والتخيير للرجل بين الوجهين. إكمال المعلم (3/ 278-279).
وقال النووي -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
هذا تأويل باطل، يَرُدُّهُ صريح قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب، فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما»، وهذا نصٌّ لا يتطرَّق إليه تأويل، ولا أظنُّ عالِمًا يبلغه هذا اللفظ صحيحًا فيخالفه. شرح صحيح مسلم (6/ 164).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
ذهب إلى الأخذ بهذا الحديث في تحية المسجد بركعتين: الشافعي وأحمد وإسحاق، ورواه محمد بن الحسن عن مالك، والجمهور على أنها لا تُفعل، وهو الصحيح، أنَّ الصلاة ( ) إذا شرع الإمام في الخطبة بدليل من ثلاثة أوجه:
الأول: قوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} الأعراف: 204، فكيف يترك الفرض الذي شرع الإمام فيه إذا دخل فيه، ويشتغل بغير فرض.
الثاني: صح عنه من كل طريق أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا قلتَ لصاحبك يوم الجمعة والإمام يخطب: أَنْصِتْ، فقد لغوت»؛ فإذا كان الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر الأصلان المفروضان الزكيان في الملة يحرمان في حال الخطبة، فالنفل أولى بأنْ يحرم.
الثالث: أنه لو دخل والإمام في الصلاة لم يركع، والخطبة صلاة؛ إذ يحرم فيها من الكلام والعمل ما يحرم في الصلاة.
وأما حديث سُلَيْك فلا يعترض على هذا الأصول من أربعة أوجه:
الأول: لأنه خبر يعارضه أخبار أقوى منه، وأصول من القرآن والشريعة، فوجب تركه.
والثاني: أنه يحتمل أن يكون في وقت كان الكلام مباحًا فيه في الصلاة؛ لأنه لا يعلم تاريخه، فكان مباحًا في الخطبة، فلما حرم في الخطبة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر الذي هو أشد فرضية من الاستماع فأقل أن يحرم ما ليس بفرض.
الثالث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كلَّم سُلَيكًا، وقال له: «صَلِّ»؛ فلما كلَّمه وأمره سقط عنه فرض الاستماع؛ إذ لم يكن هناك قول ذلك الوقت منه -صلى الله عليه وسلم- إلا مخاطبته له، وسؤاله، وأمره، وهذا أقوى.
الرابع: أنَّ سُلَيْكًا كان ذا بذاذةٍ وفقرٍ، فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يشهره لتُرَى حاله، فيُغَيَّر منه، وأما فعل الحَسن فيحتمل أنْ يكون خطب الإمام بما لا يجوز، فبادر الحَسن إلى الصلاة، وقد رأيتُ الزُّهَّاد بمدينة السلام والكوفة إذا بلغ الإمام إلى الدعاء لأهل الدُّنيا، قاموا فصلوا، ورأيتهم أيضًا يتكلمون مع جلسائهم فيما يحتاجون إليه من أمرهم، أو في عِلم، ولا يصغون إليهم حينئذٍ؛ لأنه عندهم لغو، فلا يلزم استماعهم، لا سيما وبعض الخطباء يكذبون حينئذٍ، فالاشتغال بالطاعة عنهم واجب. عارضة الأحوذي (2/252-254).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقد تأوَّل أصحابنا (أي: المالكية) حديث جابر تأويلات في بعضها بُعدٌ، وأولى معتمدِ المالكية في ترك العمل به: أنَّه خبر واحد، عارضه عمل أهل المدينة خَلَفًا عن سَلَف، من لدُن الصحابة -رضي الله عنهم- إلى زمان مالك -رحمه الله تعالى-، فيكون العمل بهذا العمل أولى، وهذا أصل مالك -رحمه الله تعالى-، وأما أبو حنيفة: فترك العمل به على أصله أيضًا في ردِّ أخبار الآحاد فيما تَعُمُّ به البلوى -والله أعلم-. المفهم (2/ 514).
وقال ابن حجر -رحمه الله- مُتعقِّبًا صاحب المفهم:
وتُعقِّب بمنع اتفاق أهل المدينة على ذلك، فقد ثبت فعل التحية عن أبي سعيد الخدري، وهو من فقهاء الصحابة من أهل المدينة، وحمله عنه أصحابه من أهل المدينة أيضًا، فروى الترمذي وابن خزيمة وصححاه عن عياض بن أبي سرح: «أنَّ أبا سعيد الخدري دخل ومروان يخطب، فصلى الركعتين، فأراد حرس مروان أنْ يمنعوه، فأبى، حتى صلاهما، ثم قال: ما كنتُ لأدعهما بعد أنْ سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمر بهما» انتهى، ولم يثبت عن أحد من الصحابة صريحًا ما يخالف ذلك. فتح الباري (2/ 411).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
اختلف العلماء في معنى هذا الحديث، فقال قوم بظاهره، وقالوا: مَن جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين؛ وذلك سُنَّة معمول بها، روي هذا عن الحسن ومكحول، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وطائفة من أهل الحديث، وفيه قول ثانٍ: قال الأوزاعي: مَن ركعهما في بيته ثم دخل المسجد والإمام يخطب قعد ولم يركع، وإن لم يكن ركعهما ركعهما في المسجد؛ لأنه -عليه السلام- إنما أمره بالركوع حين ذكر له أنه لم يُصَلِّ في بيته، وفيها قول ثالث: قال أبو مِجْلَز: إنْ شئتَ فاركع، وإنْ شئتَ فاجلس، وفيها قول رابع: أنه يجلس، ولا يركع، وهو قول الجمهور، ذكره ابن أبي شيبة عن عمر وعثمان وعلي بن أبي طالب وابن عباس، ومن التابعين عن عطاء والنخعي وابن سيرين وشريح وعروة وسعيد بن المسيب، وهو قول مالك والليث والكوفيين. شرح صحيح البخاري (2/ 514-515).
وقال ابن حجر -رحمه الله- مُتعقِّبًا ابن بطال:
وأما ما نقله ابن بطال عن عمر وعثمان وغير واحد من الصحابة من المنع مطلقًا- فاعتماده في ذلك على روايات عنهم فيها احتمال، كقول ثعلبة بن أبي مالك: «أدركتُ عمر وعثمان، وكان الإمام إذا خرج تركنا الصلاة»، ووجه الاحتمال: أن يكون ثعلبة عنى بذلك من كان داخل المسجد خاصة، قال شيخنا الحافظ أبو الفضل (العراقي) في شرح الترمذي: «كل مَن نُقل عنه -يعني: من الصحابة- منع الصلاة والإمام يخطب محمول على من كان داخل المسجد؛ لأنه لم يقع عن أحد منهم التصريح بمنع التحية، وقد ورد فيها حديث يخصها، فلا تترك بالاحتمال» انتهى، ولم أقف على ذلك صريحًا عن أحد من الصحابة. فتح الباري (2/ 411).
وقال النووي -رحمه الله-:
وإنْ دخل والإمام في آخر الخطبة وغلب على ظنه أنَّه إنْ صلَّى التحية فاته تكبيرة الإحرام مع الإمام- لم يُصَلِّ التحية، بل يقف حتى تقام الصلاة، ولا يقعد؛ لئلا يكون جالسًا في المسجد قبل التحية، وإنْ أمكنه الصلاة، وإدراك تكبيرة الإحرام صلَّى التحية، هكذا فَصَّلَه المحققون، منهم صاحب الشامل، وأطلق البغوي وجماعة كما أطلق المصنف، وإطلاقهم محمول على التفصيل المذكور. المجموع شرح المهذب (4/ 551).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
لو جاء في آخر الخطبة فلا يصلي؛ لئلا يفوته أول الجمعة مع الإمام. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (10/ 360).
وقال الشافعي -رحمه الله-:
وأرى للإمام أنْ يأمره بصلاتهما، ويزيد في كلامه (أي: في الخُطْبة) بقدر ما يُكَمِّلُهما، فإنْ لم يفعل الإمام، كَرِهْتُ ذلك له، ولا شيء عليه. الأم (1/ 227). ينظر تقديمه
وقال الروياني -رحمه الله-:
فإن قيل: روي في بعض الأخبار أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال لسُلَيْك: «لا تعُوْدَنَّ لمثل هذا»، قلنا: هذه الزيادة ليست في شيء من الأصول، ثم معناه: لا تعوْدَنَّ إلى التأخير. بحر المذهب (2/ 381).
وقال ابن حبان -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تعوْدَنَّ لمثل هذا» أراد الإبطاء في المجيء إلى الجمعة، لا الركعتين اللتين أمر بهما، والدليل على صحة هذا: خبر ابن عجلان...: أنه أمره في الجمعة الثانية أن يركع ركعتين مثلهما. صحيح ابن حبان (6/ 249).
قوله: «وليَتَجَوَّزْ فيهما»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «وليتجَوَّزْ فيهما» أي: فليُخَفِّفْ في الركعتين، باقتصاره على أقلِّ ما يُجزِئ في الصلاة؛ لئلا تشغله عن استماع الخطبة. الكوكب الوهاج (10/ 363).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
هذا الحديث يشتمل على حُكْمين:
أحدهما: أنَّ الكلام في حال الخطبة لا يحرم على الخطيب، وهل يحرم على المستمع؟ فيه عن أحمد روايتان، وإذا قلنا: يحرم، فإنما يحرم عليه إذا كان بحيث يسمع، فأما إذا كان بحيث لا يسمع لم يحرم، وقال أبو حنيفة ومالك: الكلام محظور على الخطيب والمستمع، سواء كان بحيث يسمع أو لا يسمع، وللشافعي قولان: أحدهما مثل هذا، والثاني: لا يحرم ذلك.
والحكم الثاني: استحباب تحية المسجد وإنْ كان الخطيب في الخطبة، وهذا قول أحمد والشافعي وداود، وقال أبو حنيفة ومالك: لا يُستحب. كشف المشكل (3/ 34).
وقال النووي -رحمه الله-:
هذه الأحاديث كلها صريحة في الدلالة لمذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وفقهاء المحدِّثين: أنَّه إذا دخل الجامع يوم الجمعة والإمام يخطب استُحب له أنْ يصلي ركعتين تحية المسجد، ويُكره الجلوس قبل أنْ يصليهما، وأنه يُستحب أنْ يتجَوَّز فيهما؛ ليسمع بعدهما الخطبة، وحُكي هذا المذهب أيضًا عن الحسن البصري وغيره من المتقدِّمِين. شرح صحيح مسلم (6/ 164).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
في هذه الزيادة: دلالة على أنَّ مشروعية تحية المسجد حال الخطبة عامة لِكل داخلٍ، وليست خاصة بسُلَيْك، فما قاله بعضهم من أنها واقعة عين لا عموم لها-، لا وجه له؛ لأن الأصل عدم الخصوصية، وما قالوه من أنه -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم- أَمَرَهُ بالصلاة ليراه القوم وهو قائم فيتصدقون عليه...، لا ينافي جواز التحية حال الخُطبة، على أنَّ مَن قال بعدم جواز تحية المسجد وقت الخطبة لا يقولون بجواز التطوع للتصدُّق. المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (6/ 284).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
قوله: «قُم» فيه أنَّ العالِم إذا أرشد أحدًا إلى فعل خيرٍ يأمرهُ بالأفضل، فإنَّه أمره بالصلاة قائمًا، وإنْ جاز فعلها قاعدًا.
و«صلِّ ركعتين» يؤخذ منه عند القائل بمفهوم العدد: المنع من الزيادة على ركعتين، مع أنها جائزة عند أصحابنا (الشافعية) إذا جمع ركعات بتسليمة واحدة؛ كما في شرح المهذب...
وفي قوله: «صلِّ» دليل على جواز الصلاة في الأوقات المكروهة، بل قد يدل على استحبابها، فإنَّه أدنى مراتب الأمر، وفيه: أنَّ للخطيب أن يأمر وينهى في خطبته، ويُبيِّن الأحكام المحتاج إليها، ولا يقطع ذلك التوالي المشترط فيها. شرح سنن أبي داود (5/ 631).
وقال النووي -رحمه الله-:
في هذه الأحاديث أيضًا: جواز الكلام في الخطبة لحاجة، وفيها: جوازه للخطيب وغيره، وفيها: الأمر بالمعروف والإرشاد إلى المصالح في كل حال وموطن، وفيها: أنَّ تحية المسجد ركعتان، وأنَّ نوافل النهار ركعتان، وأنَّ تحية المسجد لا تفوت بالجلوس في حقِّ جاهل حكمها، وقد أطلق أصحابنا فواتها بالجلوس، وهو محمول على العالِم بأنَّها سُنَّة، أما الجاهل فيتداركها على قُرْب؛ لهذا الحديث، والمستنبط من هذه الأحاديث: أنَّ تحية المسجد لا تُتْرَك في أوقات النهي عن الصلاة، وأنها ذات سبب تُبَاح في كل وقت، ويلحق بها: كُل ذوات الأسباب كقضاء الفائتة. شرح صحيح مسلم (6/ 164).
قال ابن العطار -رحمه الله-:
لأنها لو سقطت في حال من الأحوال، لكان حال استماع الخطبة أولى بالسقوط، فلما لم تُتْرَك في حال هو واجب، وتركه محرم، وقطعت الخطبة من أجله، وأمره بفعله بعد أن قعد؛ لجهله بحكمها- دل على تأكُّدها، وأنها لا تُتْرَك بحال، ولا في وقت من الأوقات، وباقي الصلوات ذوات الأسباب يقاس عليها.
(وفيه) جواز تأخير المجيء إلى الجمعة والإمام يخطب على المنبر. العدة في شرح العمدة (2/ 679).