الإثنين 24 رمضان 1446 هـ | 24-03-2025 م

A a

«الرَّحِمُ شِجْنَةٌ، فمن وصَلَهَا وصَلْتُه، ومن قطَعَهَا قطعْتُه».


رواه البخاري برقم: (5989)، من حديث عائشة -رضي الله عنه-.
ورواه البخاري أيضًا برقم: (5988)، من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه- ولفظه: «إنَّ الرَّحم شِجْنَةٌ مِنَ الرَّحمن..».


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«الرَّحِم»:
الراء والحاء والميم أصل واحد يدل على الرِقَّة والعطف، والرَّحم: علاقة القَرابة. مقاييس اللغة، ابن فارس (2/ 498).

«شِجْنَة»:
أي: قَرابة مُشتبكة كاشتباك العُروق. كشف المشكل، لابن الجوزي (3/ 405).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
«شِجْنَة» بكسر المعجمة، وسكون الجيم بعدها نون، وجاء بضم أوله، وفتحه روايةً ولغةً، وأصل الشِّجْنة: عروق الشجر المشتبكة، والشَّجَن بالتحريك واحد الشُّجُون، وهي طُرق الأودية، ومنه قولهم: الحديث ذو شجون، أي: يدخل بعضه في بعض. فتح الباري (10/ 418).


شرح الحديث


قوله: «الرَّحِم»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
الرَّحم: بفتح الراء وكسر الحاء المهملة، يطلق على الأقارب، وهم مَن بينه وبين الآخر نسب، سواء كان يرثه أَم لا، سواء كان ذا محرمٍ أم لا، وقيل: هم المحارم فقط، والأول هو المرجح؛ لأن الثاني يستلزم خروج أولاد الأعمام وأولاد الأخوال مِن ذوي الأرحام، وليس كذلك. فتح الباري (10/ 414).

قوله: «شِجْنَة»:
قال المناوي -رحمه الله-:
يعني: قرابة مشتبكة كاشتباك العروق، شَبَّه بذلك مجازًا واتساعًا، وأصل الشجنة شُعبة من أغصان الشجرة. فيض القدير (4/ 43).
وقال ابن قرقول -رحمه الله-:
«‌شُجْنَة» بضم الشين وكسرِها، وحُكي الفتح، ومعناه: قرابة مشتبكة كالعروق المتداخلة، والأغصان المتداخلة. مطالع الأنوار (6/ 17).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
«شِجنة» أي: اسم اشتق من رحمة الرحمن، أو أَثَر من آثار رحمته مشتبكة بها. الميسر في شرح مصابيح السنة (3/ 1067).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«شِجْنَة» والمراد «من الرحمن» أي: من هذا الاسم، يدلك عليه حديثه الآخر: «أنا الله وأنا الرحمن، خَلَقْتُ الرحم وشققت لها من اسمي» المعنى: الرحم أثر من آثار رحمته مشتبكة بها. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3162).
قال ابن حجر -رحمه الله-:
وقال الإسماعيلي: معنى الحديث أنَّ الرحم اشتُق اسمها من اسم الرحمن فلها به عُلْقة، وليس معناه أنها من ذات الله تعالى. فتح الباري (10/ 418).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
هذا الحديث ‌لا ‌يخلو ‌معناه من أحد شيئين: إما أن يراد أن الحق -عز وجل- يراعي الرحم بوصل من وصلها وقطع من قطعها والأخذ لها بحقها كما يراعي القريب قرابته، فإنه يزيده في المراعاة على الأجانب، أو أن يراد أن الرحم بعض حروف الرحمن، فكأنه عظم قدره بهذا الاسم. كشف المشكل (3/ 405).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
قوله: «من الرحمن» أي: أُخذ اسمها من هذا الاسم، كما في حديث عبد الرحمن بن عوف في السنن مرفوعًا: «أنا الرحمن خلقتُ الرحم وشققتُ لها اسمًا من اسمي» والمعنى: إنها أثر من آثار الرحمة مشتبكة بها، فالقاطع لها منقطع من رحمة الله. فتح الإله في شرح المشكاة (9/621).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
قال أصحاب الغريب في معناه (لفظ شجنة): أي قرابة مشتبكة كاشتباك العروق، وعلى هذا فكأنهم يريدون أنها موهوبة من الرحمن أو مجعولة كذلك، وهذا المعنى صحيح، فإنَّ كل الأشياء من الله خلقًا وإيجادًا، ولكنه ليس بمعنى الحديث، وإنما المراد «من الرحمن» أي: من هذا الاسم، يدلك عليه حديثه الآخر: «شققتُ لها من اسمي». الميسر في شرح مصابيح السنة (3/ 1067).

قوله: «مَن وصلَها وصَلْتُه»:
قال الطبري -رحمه الله-:
أما وَصْل الله -تعالى ذكره- عبدَه: فإنه بعطفه عليه بفضله إما في عاجل دنياه وآجل آخرته إن كان من أهل الإيمان به والطاعة له، وإما في آجل آخرته دون عاجل دنياه. تهذيب الآثار (ص:140).
وقال ابن أبي جمرة -رحمه الله-:
هو كناية عن عظيم الإحسان، فإنَّ أعظم ما يعطي المحبوب لحبيبه الوصال، وهو القُرْب منه، ومساعدته في مرضاته، وهذه الأمور حق مولانا سبحانه، مستحيلة أن تكون على ما نعرف من صفات المحدَث الفاني، بل هي كناية عن قَدْرِ الإحسان منه لعبده...جمع النهاية في بدء الخير والغاية (4/146).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
والعرب تقول إذا تفضل رجل على آخر بمال أو وهبه: وصل فلان فلانًا بكذا، وتسمي العطية صِلة، فتقول: وصَلَت إلى فلان صِلة فلان، وكذلك قوله تعالى في الرِّحم: «من وصلها» يعني: وصلته بفضلي ونِعَمي. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (28/ 278).
وقال ابن الملقن أيضًا -رحمه الله-:
البِرّ (بالأرحام) مراتب ومنازل، وليس من لم يبلغ أعلى تلك المراتب يستحق اسم قاطع، كما من لم يبلغ أعلى منازل الفضل يستحق اسم الذم، فواصِلِ رحمه بماله يستحق اسم واصل، وواصلها بمعونته ونصرته يستحق اسم واصل، وقد بين ذلك قوله -عليه الصلاة والسلام: «بُلُّوا أرحامكم ولو بالسلام»، فأعلم أُمَّته أن المتعاهد لرَحِمه -ولو بالسلام- خارج من معنى القاطع وداخل في معنى الواصل، فواصِلها بما هو أعلى وأكثر أحق أن يكون خارجًا من معنى القاطع. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (28/ 279).
وقال أبو عبد الله القرطبي -رحمه الله-:
فالرحم على وجهين: عامة وخاصة، فالعامة رحم الدِّين، ويجب مواصلتها بملازمة الإيمان والمحبة لأهله، ونصرتهم، والنصيحة، وترك مضارتهم، والعدل بينهم، والنَّصَفة في معاملتهم، والقيام بحقوقهم الواجبة، كتمريض المرضى، وحقوق الموتى مِن غسلهم، والصلاة عليهم، ودفنهم، وغير ذلك من الحقوق المترتبة لهم.
وأما الرحم الخاصة: وهي رحم القرابة مِن طرفي الرَّجُل أبيه وأمه، فتجب لهم الحقوق الخاصة وزيادة، كالنفقةـ وتفقد أحوالهم، وترك التغافل عن تعاهدهم في أوقات ضروراتهم، وتتأكد في حقهم حقوق الرَّحم العامة، حتى إذا تزاحمت الحقوق بُدئ بالأقرب فالأقرب. الجامع لأحكام القرآن (16/247- 248).
وقال النيسابوري -رحمه الله-:
والسبب العقلي في تأكيد رعاية هذا الحق أنَّ القَرابة مظنة الاتحاد والألفة والرعاية والنصرة؛ ولهذا صار كالتابع لحق الوالدين؛ لأن الإنسان إنما يتصل به أقرباؤه بواسطة اتصالهم بالوالدين. غرائب القرآن ورغائب الفرقان (1/ 323).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأمّا صِلّة الرّحم فهي الإحسان إِلى الأقارب على حسب حال الواصل والموصول، فتارة تكون بالمال وتارة بالخدمة، ‌وتارة ‌بالزيارة ‌والسلام ‌وغير ‌ذلك.شرح صحيح مسلم(2/٢٠١).
وقال ابن حجر ـ رحمه الله ـ :
قال ابن أبي جَمْرَة: تكون صلة الرّحم بالمال، وبالعون على الحاجة، وبدفع الضّرر، وبطلاقة الوجه وبالدعاء. والمعنى الجامع إيصال ما أمكن من الخير، ودفع ما أَمكن من الشّر بحسب الطّاقة.
فتح الباري.
قال النووي -رحمه الله-:
قال القاضي عياض: الصِّلة درجات بعضها أرفع من بعض، وأدناها ترك المهاجرة وصِلتها بالكلام، ولو بالسلام ويختلف ذلك باختلاف القُدرة والحاجة؛ فمنها واجب ومنها مستحب لو وصل بعض الصِّلة ولم يصل غايتها لا يُسمى قاطعًا ولو قصر عمَّا يقدر عليه، وينبغي له لا يُسمى واصلًا.شرح صحيح مسلم(16/١١٣).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
ثم المراد بقطيعة الرحم ماذا ؟ فيه اختلاف؛ فقال أبو زرعة الولي بن العراقي: ينبغي أن يختص بالإساءة. وقال غيره: لا ‌ينبغي ‌اختصاصه ‌بذلك، ‌بل ‌ينبغي ‌أن ‌يتعدَّى إلى ترك الإحسان؛ لأن الأحاديث آمرة بالصِّلة ناهية عن القطيعة ولا واسطة بينهما، والصِّلة إيصال نوع من أنواع الإحسان لما فسّرها بذلك غير واحد فالقطيعة ضِدها وهي ترك الإحسان. الزواجر عن اقتراف الكبائر(2/١٢٦)
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
والصلة جاءت في القرآن والسُّنة مطلقة.
وكُل ما أتى وَلَم يُحددِ … بِالشرعِ كالحرِز فالعُرفِ احْدُدِ
وعلى هذا، يرجع إلى العُرف فيها، فما سمُّاه الناس صِلة، فهو صلة، وما سموه قطيعة، فهو قطيعة، وهذا يختلف باختلاف الأحوال والأزمان والأمكنة والأُمم.
إذا كان الناس في حالة فقر وأنت غني، وأقاربك فقراء، فصِلتهم أن تعطيهم بقدِر حالك.
إذا كان الناس أغنياء وكلهم في خير فيمكن أن يكون الذهاب إليهم في الصباح أو المساء مما يعد صلة.
وفي زماننا هذا الصِّلة بين الناس قليلة، وذلك لانشغال الناس في حوائجهم، وانشغال بعضهم عن بعض والصِّلة التَّامة أن تبحث عن حالهم، وكيف أولادهم، وترى مشاكلهم، ولكن هذه الأمور مع الأسف مفقودة عند كثير من الناس. مكارم الأخلاق(ص: 43).
وقال النووي -رحمه الله-:
قال القاضي عياض: واختلفوا ‌في ‌حدّ ‌الرَّحم التي تجب صلتها، فقيل: هو كل رحم محرَّم؛ بحيث لو كان أحدهما ذكرًا والآخر أنثى حَرُمَت مناكحتهما، فعلى هذا لا يدخل أولاد الأعمام ولا أولاد الأخوال، واحتج هذا القائل بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح ونحوه، وجواز ذلك في بنات الأعمام والأخوال، وقيل: هو عام في كُل رَحِم من ذوي الأرحام في الميراث، يستوي المحرم وغيره ويدل عليه قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ثم أدناك أدناك» هذا كلام القاضي. وهذا القول الثاني هو الصواب، ومما يدلُّ عليه الحديث السابق في أهل مصر: «فإن لهم ذِمة ورحمًا» وحديث : «إنّ أَبر البِر أَن يَصل أَهل وِدّ أبيه» مع أَنه لا محرمية والله أعلم. شرح صحيح مسلم(16/ 113).

قوله: «ومن قَطَعَها قَطَعْتُه»:
قال المناوي -رحمه الله-:
أي: أعْرَضْتُ عنه وأبْعَدْتُه عن رحمتي، ولم أزد له في عمره. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 258).
وقال المناوي أيضًا -رحمه الله-:
مَن قطعها انقطع من رأفة الله. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 361).
وقال المناوي أيضًا -رحمه الله-:
أي: أعرضتُ عنه لإعراضه عما أمر به من شدة اعتنائه بِرَحِمِه، وهذا تحذير شديد من قطعها. فيض القدير (4/ 53).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
والمعنى: أنها أَثَرٌ من آثار رحمته مشتبكة بها، فالقاطع منها قاطع من رحمة الله، والواصل فيها واصل إلى رَحْمَتِه تعالى كما بيَّنه -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «فقال الله: من وصلكِ» أي: أيها الرحم بالصلة، «وصَلْتُه» أي: بالرحمة، «ومن قَطَعَكِ قطعتُه» أي: عنها. مرقاة المفاتيح (7/ 3085).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ومن قطعكِ قطعتُه» أي: أعرضتُ عنه، وهو تحذير شديد من القطيعة. التنوير شرح الجامع الصغير (6/ 297).
وقال الكاساني -رحمه الله-:
ومِثْل هذا الوعيد لا يكون إلا بارتكاب المحرَّم، فدلَّ أن قطع الرَّحم حرام، والرحم هو القرابة، سميت القرابة رحمًا إما باعتبار أن الرحم مشتَقٌّ من الرحمة كما جاء في الحديث، والقرابة سبب الرحمة والشفقة على القريب طبعًا، وإما باعتبار العضو المخصوص من النساء المسمى بالرحم محل السبب الذي يتعلق به وجود القرابات، فكان كل قَرابة أو مُطلق القرابة محرَّمة القطع بظاهر النصوص إلا ما خُصَّ أو قُيِّد بدليل. بدائع الصنائع (4/ 48).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
الكبيرة الثالثة بعد الثلاثمائة: قطع الرَّحم.
(ثم قال) عَدُّ هذا هو صريح هذه الأحاديث الكثيرة الصحيحة، بل المتفق على صحة كثير منها. الزواجر عن اقتراف الكبائر(2/١٢٣).
قال النووي -رحمه الله-:
قال القاضي عياض: ولا خلاف ‌أنّ ‌صِلة ‌الرّحم ‌واجبة ‌في ‌الجملة وقطيعتها معصية كبيرة. قال: والأحاديث في الباب تشهد لهذا.شرح صحيح مسلم(16/١١٣).
وقال الذهبي -رحمه الله-:
فمَن قطع أقاربه الضُّعفاء وهجرهم وتكبر عليهم ولم يصلهم ببرهِ وإِحسانه وكان غنيًا، وهُم فقراء فهو داخل في هذا الوعيد محرومٌ عن دخول الجنة إلا أنْ يتوب إلى الله -عزّ وجلّ- ويُحسن إليهم.الكبائر(ص: ٤٧).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
فصلة الأرحام واجبة، وقطعها سبب للعنة والحِرمان من دخول الجنة. شرح الواسطية(2/٣٦٠)
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث من الفقه...: دليل على أنَّ النطق يقرِّب من الأفهام بالأمثال التي تصوره شخصًا؛ ليكون ذلك داعية إلى استيعاب الفهم لذلك المعنى، والرَّحم مشتقة من لفظ الرحمن، كما أن الغُصن يتشعّب مِن أصل. الإفصاح عن معاني الصحاح (6/ 254).


ابلاغ عن خطا