«لو كانتِ الدُّنيا تَعْدِلُ عندَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ما سَقَى كافِرًا منها شربةَ ماءٍ».
رواه الترمذي برقم: (2320) واللفظ له، وابن ماجه برقم: (4110)، من حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (5292)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (943).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«جَنَاحُ»:
جَنَاحُ الطَّائر: بمنزلة اليد من الإنسان. المصباح المنير، للفيومي (ص: 62).
وقال ابن سيده-رحمه الله-:
جنَاحُ الطَّائر: ما يخفق به في الطَّيران، والجمع: أجنِحَةٌ وأجْنُحٌ. المحكم(3/ 87).
«بعُوضة»:
البعوضة: صغيرة البَقِّ. كشف المشكل، لابن الجوزي (3/ 430).
«سَقَى»:
السَّقْي: مصدر سقيتُه أسقيه سَقْيًا، والسِّقْي: النَّصيب من المَاء. جمهرة اللغة، لابن دريد (2/ 853).
وقال ابن فارس -رحمه الله-:
سَقَى: السِّين والقاف والحرف المعتل أصل واحد، وهو إشراب الشَّيء الماءَ، وما أشبهه. مقاييس اللغة(3/ 84).
شرح الحديث
قوله: «لو كانت الدُّنيا تَعِدل عند الله جَناح بعوضة»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «لو كانت الدُّنيا تَعِدل» بفتح التَّاء، وكسر الدَّال، أي: تزن وتساوي. مرقاة المفاتيح (8/ 3241).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «تعدل» أي: تزن وتُقابل؛ يعني: لو كان للدُّنيا وقْع وقدْر عند الله بقدر جناح بعوضة. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 283).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «لو كانت الدُّنيا تعدل» وفي لفظ عند أبي نعيم: «لو وُزِنت الدُّنيا». التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 171).
وقال الكنكوهي -رحمه الله-:
قوله: «لو كانت الدُّنيا...» الدُّنيا هي الغفلة من ذِكره سبحانه، ومعنى الحديث: أن أمتعة الدُّنيا لَمَّا كانت أسباب الغفلة زيدت للكفرة، ولو كانت الغفلة عند الله تَزِنُ جناح بعوضة، وهي الصَّغيرة من هذا النَّوع لَمَا أعطى الكُفَّار منها شيئًا. الكوكب الدري (3/ 237).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «جَناح بعوضة» مَثلٌ للقِلَّة والحقارة، أي: لو كان لها أدنى قدْر، ما متَّع الكافر منها أدنى تمتُّع. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3285).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
قيل: قوله -صلى الله عليه وسلم-: «جناح بعوضة» مختصر، والتَّقدير: جناح بعوضة في الخير...، وقيل: لأن البعوض مسخ؛ فلذلك لا تعدل الدُّنيا جناح بعوضة. الأزهار شرح مصابيح السنة مخطوط لوح (433).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
قوله: «بعوضة» فعول من البعض، وهو القطع، غلب على هذا النَّوع من الحيوان المضروب به المثل في الحقارة، وجَناحها في غايتها ومنتهاها. دليل الفالحين (4/ 409).
قوله: «ما سقى كافرًا منها شربة ماء»:
قال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «ما سقى كافرًا منها شربة» لأن الكافر عدوٌّ، ولا يُعطى العدوَّ إلا من الشَّيء الخسيس الذي لا يُلتفت إليه من حقارته. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 283).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «ما سقى كافرًا منها شربة ماء» فإنه لِكفره لا يستحِقُّ ذلك، فما له عند الله مقدار، لكنه لا قدر لها عنده، فأعطى الكُفَّار منها شهواتهم، فالزَّاهد في الدُّنيا ينبغي أن يجعل زهده لأجل حقارتها عند الله، ويعلم أن الرغبة فيها تعظيم لِمَا حقَّره الله تعالى منها. التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 171).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «ما سقى الكافر منها شربة ماء» وحسبك بها هوانًا أن الله قد صغَّرها وحقَّرها، وذمَّها، وأبغضها، وأبغض أهلها ومُحبِّيها، ولم يرضَ لعاقل فيها إلا بالتَّزوُّد منها، والتَّأهُّب للارتحال عنها، ويكفيك من ذلك ما رواه أبو عيسى الترمذي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «الدُّنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذِكر الله وما والاه، أو عالم أو مُتعلِّم» رواه من حديث أبي هريرة، وقال: حديث حسن غريب. المفهم (7/ 108-109).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «ما سقى كافرًا منها» أي: من مياه الدُّنيا «شربة ماء» أي: يمنع الكافر منها أَدنى تمتُّع، فإن الكافر عدوُّ الله، والعدوُّ لا يُعطى شيئًا مما له قدر عند المعطي، فمن حقارتها عنده لا يعطيها لأوليائه، كما أشار إليه حديث: «إن الله يحمي عبده المؤمن عن الدُّنيا، كما يحمي أحدكم المريض عن الماء»، وحديث: «ما زويت الدُّنيا عن أحد إلا كانت خيرة له»...، وفي دعائه -صلى الله تعالى عليه وسلم- الجامع المانع القائم في مقام الرِّضا القانع بما جرى عليه من القضاء: «اللهمَّ ما رزقتني مِمَّا أحبُّ فاجعله قوَّة لي فيما تُحِبُّ، اللهمَّ وما زويت عنِّي مِمَّا أحبُّ فاجعله فراغًا لي فيما تُحِبُّ». ومن دناءتها لديه أن يكثِّرها على الكُفَّار والفُجَّار، بل قال تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} الزخرف: 33 الآية، وقال -صلى الله عليه وسلم- لعمر -رضي الله عنه-: «أمَا ترضى أن يكون لهم الدُّنيا، ولنا الآخرة»، قال تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} آل عمران: 198، {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} طه: 131. مرقاة المفاتيح (8/ 3241).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «ما سقى منها الكافر شربة ماء» أي: لو كان لها أدنى قدْر ما متَّع الكافر منها أدنى تمتُّع، هذا أوضح دليل وأعدل شاهد على حَقارة الدُّنيا، قال بعض العارفين: أدنى علامات الفقر لو كانت الدُّنيا بأَسرها لواحد فأنفقها في يوم واحد، ثم خطر له أنه يمسك منها مثقال حبَّة من خردل لم يصدق في فقره. وقيل لحكيم: أيُّ خلق الله أصغر؟ قال: الدُّنيا؛ إذ كانت لا تعدل عند الله جناح بعوضة، فقال السائل: مَنْ عظَّم هذا الجناح فهو أحقر منه.
وقال علي -رضي الله عنه-: «والله لدنياكم عندي أهون من عُرَاق (جمع عرق وهو العظم عليه شيء من اللحم) خنزير في يد مجذوم».
فعلى العبد أن يذكر هذا قولًا وفعلًا في حالتي العسر واليسر، وبه يصل إلى مقام الزُّهد الموصِّل إلى الرِّضوان الأكبر، وإذا استحضر أنه سبحانه يبغضها مع إباحة ما أحلَّه فيها من مطعم وملبس ومسكن ومنكح، وزهد فيها لبغض الله إياها؛ كان متقرِّبًا إليه ببغض ما بغضه، وكراهة ما كرهه، والإعراض عما أعرض عنه. فيض القدير (5/ 328).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
قوله: «ما سقى كافرًا منها شربة ماء»...ومع كون الدنيا بهذا المقام عند الله سبحانه، فهو يوم القيامة يستوفي لذي الظُّلامة منها ظلامته من ظالمه، ولو كان كافرًا من مؤمن؛ إظهارًا لمزيد العدل. دليل الفالحين (4/ 409-410).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
لو ساوت الدُّنيا جناح بعوضة *** لم يسقِ منها الربُّ ذا الكفرانِ
لكنها والله أحقر عنده *** ذا الجناح القاصر الطَّيرانِ. الكافية الشافية (ص: 917).
وقال الطوفي -رحمه الله-:
وبالجملة فنحن نعلم قطعًا أنَّ مُحِبَّ الدُّنيا مبغوض عند الله -عزَّ وجلَّ-، فالزَّاهد فيها الرَّاغب عنها محبوب له -عزَّ وجلَّ-، ومحبَّةُ الدُّنيا المكروهة: هي إيثارها لقضاء شهوات النَّفس، وأوطارها؛ لأن ذلك يَشغل عن الله -عزَّ وجلَّ-، أمَّا محبَّتُها لفعل الخير وتقديم الآخرة بها عند الله -عزَّ وجلَّ-، ونحو ذلك، فهي عبادة؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: «نِعمَ المال الصَّالح للرَّجل الصَّالح يصل به رحمًا، أو يصنع به معروفًا» أو كما قال.
وفي الأثر: «إذا كان يوم القيامة جمع الله -عزَّ وجلَّ- الذَّهب والفِضَّة كالجبلين العظيمين، ثم يقول: هذا مالُنا عاد إلينا، سَعِدَ به قوم، وشقي به آخرون». التعيين في شرح الأربعين (1/231- 232).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
روى الترمذي: «لو كانت الدُّنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرًا منها شربة ماء».
واعلم: أنَّ من أهل الزُّهد في الدُّنيا من يحصل له بعض فضولها، فيمسكها؛ ليتقرَّبَ بها إلى الله تعالى...، وكان عثمان وعبد الرحمن بن عوف -رضي الله تعالى عنهما- خزانتين من خزائن الله تعالى في أرضه، ينفقان في طاعته، وكانت معاملتهما لله بقلوبهما وعلومهما.
ومنهم مَنْ لا يمسكها اختيارًا، أو مع مجاهدة للنَّفس، وفضَّل ابن السماك والجنيد الأول؛ لتحقُّقِ يقينه بمقام السَّخاء والزُّهد، وابن عطاء الثاني؛ لأن له عملًا ومجاهدة.
ومنهم مَنْ لا يحصل له شيء من الفضول، وهو زاهد في تحصيله مع القدرة أو بدونها، والأَوَّل أفضل؛ ولهذا قال كثير من السلف: «إن عمر بن عبد العزيز كان أزهد من أويس».
واختلف العلماء: أيُّما أفضل: طلبها لفعل الخير أو تركها؟ فرجَّحت طائفة الأَوَّلَ، وطائفة الثاني. الفتح المبين بشرح الأربعين (ص: 514).
وقال الشيخ فيصل ابن المبارك -رحمه الله-:
فيه: حقارة الدُّنيا عند الله تعالى؛ ولهذا ملَّكها تعالى في الغالب للكُفَّار والفُسَّاق لهوانهم عليه، وحَمَى منها في الغالب الأنبياء والصَّالحين؛ لئلا تُدَنَّسَهُم. تطريز رياض الصالحين (ص: 322).