الأحد 23 رمضان 1446 هـ | 23-03-2025 م

A a

يا رسول الله، صلَّى الله عليك، المسكين ليقوم على بابي، فما أَجد له شيئًا أعطيه إياه، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن لم تَجدي له شيئًا تُعْطِينه إياه إلا ظِلفًا مُحْرَقًا، فادفعيه إليه في يَده».


رواه أحمد برقم: (27148)، وأبو داود برقم: (1667) واللفظ له، والترمذي برقم: (665)، والنسائي برقم: (2574)، من حديث أُم بُجيد -رضي الله عنها-.
صحيح الجامع برقم: (1440)، وصحيح سنن النسائي برقم: (2412).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«ظِلْفًا»:
الظِّلْفُ: ظِلْفُ البقرة وغيرها؛ وهو ظُفْرُها. المحيط في اللغة (2/ 389).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
هو للبقر والشاة والظَّبي، وشبهه بمنزلة القدم مِنّا. مرقاة المفاتيح (4/ 1330).


شرح الحديث


قوله: «يا رسول الله صلى الله عليك، المسكين لَيَقوم على بابي، فما أَجد له شيئًا أعطيه إياه»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«المسكين» أي: جنسه، ويحتمل: العهد، «لَيَقف على بابي» أي: ويسأل شيئًا مني، ويكرر سؤاله...؛ ولأجل أنَّ الوقوف على بابٍ يفتح باب الحياء، وبسيف الحياء يحرم أخذ العطاء، كان بعض أصحابنا من الفقراء يسأل على الأبواب، ويقول: يا فتاح، يا رزاق، من غير أن يقف على الباب. مرقاة المفاتيح (4/1330).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
والفقير والمسكين: اسمان مشتركان في وجهٍ واحد، مفترقان في آخر، فقد يكون الفقير مسكينًا، وقد يكون المسكين فقيرًا، وقد يخرج عنه لإشكالهما اشتقاقًا، ولارتباطهما معنىً ولفظًا، جمع الله بينهما في الصدقة، واشتغل الناس لقلة تحقيقهم بأن يطلبوا الفرق بين المسكين والفقير، وليس المقصود هذا حتى تُفنى فيه الأعمار، وتُسوَّد به الأوراق، وإنما المقصود: أنَّ الناس المحتاجين قسمان: قسم لا شيء له، وقسم آخر له شيء يسير، فأعطهما جميعًا من الصدقة، وسمِّهما كيف شئت، فإنما يُعرفان بحالهما، لا بأسمائهما، فافهم هذا، ولا تُضَيِّع زمانك فيه. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 1111).
قال المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «لَيَقف على بابي» أي: سائلًا، وهذا لفظ أحمد، وفي رواية له: «فيقوم على بابي». مرعاة المفاتيح (6/311).

قوله: «إن لم تجدي له شيئًا تُعْطِينه إياه إلا ظِلْفًا مُحْرَقًا، فادفعيه إليه في يده»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «إلا ظِلْفًا مُحْرَقًا» استثناء من قوله: «شيئًا». شرح سنن أبي داود (6/421).
وقال المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «مُحْرَقًا» اسم مفعول من الإحراق. مرعاة المفاتيح (6/311).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
اختلف في تأويله، فقيل: ضرَبَه مثلًا للمبالغة كما جاء: «من بنى لله مسجدًا ولو مثل مَفْحَصِ قَطَاة، بنى الله له بيتًا في الجنة».
وقيل: إنَّ الظِّلف المحرَق كان له عندهم قَدْر، بأنهم كانوا يَسْهَكُوْنَهُ (يدقونه دقًا وهو دون السحق) ويَسُفونه (يأكلونه). عارضة الأحوذي (3/170).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
«ظِلْفٌ محرَق» وفي لفظ: «ولو فرسن شاة» وليسا مما ينتفع بهما، ولا يتصدق بهما، لكن ذكر غير واحد أنهما كانوا يحرقونه، ويستفونه، ويشربون عليه الماء أيام المجاعة. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (24/ 129).
وقال المناوي -رحمه الله-:
فذِكْرُه الظلف مع كونه لا يغني من جوع؛ للمبالغة في القلَّة، ومزيد التحذير من حرمانه الموجِب للخيبة، وعدم النجاح المؤدي إلى فقد الفلاح، ففي خبر يأتي: «لولا أن المساكين يكذبون ما أفلح من ردَّهم» والأمر للندب، وإن كان مضطرًا فللوجوب. فيض القدير (1/ 244).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
ويحتمل: أن يراد الحقيقة، وأنه ينفع السائلَ الظِّلف المحْرَق.
وفي كلام النهج (نهج البلاغة): لا تستح من إعطاء القليل؛ فإن الحرمان أقل منه، قال:
ومتى تفعل الكثير من الخيـ *** ر إذا كنت تاركًا لأَقَلِّه؟! التنوير شرح الجامع الصغير (1/498).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
قوله: «مُحْرَقًا» لأنه مظنة الانتفاع به، بخلاف غيره فقد يلقيه آخذه.
وقيد بالإحراق، أي: الشيء كما هو عادتهم فيه؛ لأن النَّيء قد لا يؤخذ، وقد يرميه آخذه، فلا ينتفع بخلاف المشوي. شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك (4/457).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«مُحْرَقًا» يعني: أعطوه ولو شيئًا قليلًا، ولا تردوه خائبًا، فذكر الظِّلف للمبالغة، والأمر للندب، وقد يجب. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 59).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وهو كناية عن الشيء القليل، والمقصود المبالغة في الحثّ على الصدقة.
والمعنى: تصدّقوا بما تيسّر وإن قلّ، ولا تجعلوا السائل محرومًا، بل أعطوه شيئًا ولو كان شيئًا يسيرًا. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (23/ 81).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وقوله: «إن لم تجدي...» الخ، يعني: أنه لا ينبغي أن يرجع من عندك محرومًا، بل أعطيه ولو شيئًا يسيرًا. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (23/110).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«فادفعيه إليه في يده» أي: يد المسكين، والمقصود مبالغة في غاية ما يُعطى من القلة، ولم يرد صدور هذا الفعل من المسؤول عنه، فإن الظلف المحرق غير منتفع به إلا إذا كان الوقت زمن القحط. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (6/ 525).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«في يده» أي: أعطوه شيئًا، يعني: أوصلوه، ومناولته أفضل. فيض القدير (1/ 243).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
فيه: أنه ينبغي للمسؤول أن لا يرد السائل، ولو ببعض تمرة، أو حبة فول، ونحو ذلك، فإن لم يكن عنده شيء فليدْعُ له أن يرزقه الله وإياه ونحو ذلك.
وقوله: «فادفعيه إليه في يده» فيه: أنَّ من آداب المسؤول -كما قال الحليمي- بأن يدفع الصدقة بيده، ولا يكله إلى غيره.
ولهذا كان بعضهم يبسط كفه بالصدقة؛ ليأخذها الفقير، وتكون يد الفقير هي العليا. شرح سنن أبي داود (8/ 57).
وقال الباجي -رحمه الله-:
حض بذلك -صلى الله عليه وسلم- على أن يعطي المسكين شيئًا، ولا يرده خائبًا، وإن كان ما يعطاه ظلفًا مُحْرَقًا، وهو أقل ما يمكن أن يُعطى، ولا يكاد أن يقبله المسكين، ولا ينتفع به، إلا في وقت المجاعة والشدة. المنتقى شرح الموطأ (7/234).
وقال المباركفوري -رحمه الله-:
وقُيِّد بالإحراق مبالغة في ردِّ السائل بأدنى ما تيسر، أي: تصدقي بما تيسر وإن قلَّ، ولا تَرُدِّيه محرومًا بلا شيء، مهما أمكن، حتى إن وجدتِ شيئًا حقيرًا مثل الظلف المحرق أعطيه إياه. مرعاة المفاتيح (6/311).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
«ولو ظِلْفًا مُحْرَقًا» وإنّما ضربه النّبيُّ -صلّى الله عليه وسلم- مثلًا؛ لأنّ الظِّلْفَ المُحْرق لا يُعْطَى، فدلّ ذلك على أنّ الحديث ليس على ظاهره، كما قال: «من بنى لله مسجدًا، ولو مثل مَفْحَصِ قطاة، بنى الله له بيتًا في الجنّة»، ففي هذا الحديث الحض على فعل الخير، قليلًا كان أو كثيرًا، ويقوِّيهِ الحديث الصّحيح لأبي تميمة الهجيمي، قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- له: «لا تَحْقِرَنَّ من المعروفِ شيئًا، ولو أنّ تَضَعَ من دلْوِكَ في إناءِ المُسْتَقِي».
وقال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} الزلزلة: 7، ولقد أحسن محمود الوراق في قوله:
افْعَلِ الخيْرَ ما اسْتَطَعْتَ وَإنْ كا *** نَ قَلِيلًا فَلَنْ تُطِيقَ بكُلِّهْ
وَمَتَى تَفْعَلُ الكَثِيرَ مِنَ الخيـ *** رِ إذَا كُنْتَ تَارِكًا لأَقَلِّهْ.
وقد تصدّقت عائشة -رضي الله عنها- بحبّتي عِنَبٍ، وقالت: كم فيها من مثقالِ ذَرَّةٍ! المسالك في شرح موطأ مالك (7/407- 408).
وقال السندي -رحمه الله-:
والظاهر: أنَّ هذا مبالغة في المنع عن رده محرومًا، وقوله: «مُحْرَقًا» تتميم لتلك المبالغة، أي: لا ترديه محرومًا بلا شيء مهما أمكن حتى إن وجدتِ شيئًا حقيرًا مثل الظلف المحرق أعطيه إياه.
وتوهُّم أن الظلف المحرق له قيمة عندهم بعيد، أشار إليه الطيبي. فتح الودود في شرح سنن أبي داود (2/ 255).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
أمّا إعطاء السَّائل من الصّدقَة الواجبة ففرضٌ، وأما إعطاؤه من صلب المال فلا يلزم إلَّا على تفصيلٍ يأتي بيانُه في (كتاب أحكام القرآن)، ولكنَّه يُستَحبُّ في الجملة ألَّا يرجع خائبًا؛ لئلّا يتعيّن له حقٌّ فيتوجّه على المسؤول عتاب أو عقاب.
فإنّ السّؤال قد يكون واجبًا، ومندوبًا، أمّا وجوبُه فللمحتاج، وأمّا نَدبُه فلمن تعينه، وتتبيّن حاجتُه إن هو استحيا من ذلك، أو رجاء أن يكون بيانُه أنفع.
وقد كَثُر اليوم السّؤال والإلحاف، ولكن لا يتصوَّرُ الإلحاح من السائل إلَّا إذا أُعطِيَ، وقبل أن يُعطَى ولو سأل يومه كلّه ما كان مُلِحًّا، ولا مُلحِفًا، حتّى لو أُعْطِيَ لا يكون سؤاله بعد الإعطاء إلحاحًا ولا إلحافًا، بشرط أن يأخذ كفايتَهُ. المسالك في شرح موطأ مالك (7/ 597).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
فيه: أن السائل يقف على الباب، رجلًا كان أو امرأة، ولا تدخل المرأة الدار، إلا أن يُؤذن لها.
وقد كثر اليوم على المرء في دخول الدار، فربما أدى ذلك إلى انتهاره، فتكون المفسدة حاصلة للسائل والمسؤول، فنسأل الله العافية. شرح سنن أبي داود (8/ 57).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
وفي الحديث: الحث على عدم رد السائل خائبًا. المنهل العذب المورود شرح سنن الإمام أبي داود: (9/315).
وقال الشيخ سعيد بن وهف القحطاني -رحمه الله-:
في الحديث: رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمساكين، وحثّه على إطعامهم، على حسب القدرة والاستطاعة؛ رحمةً بهم، وشفقةً عليهم. الخُلق الحسن في ضوء الكتاب والسنة (ص: 157).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
فهذا الحديث: يدل على أن السائل يُعطى ولو كان الـمُعطى شيئًا يسيرًا، فما دام أن الإنسان لا يجد إلا هذا القليل، فإنه لا يمتنع من التصدق به، ولا يمتنع أن ينفق مما أعطاه الله، كما قال تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} الطلاق: 7، فهو يُعطي على حسب ما عنده، ولو لم يكن إلا تمرة، كما جاء في قصة المرأة التي جاءت إلى عائشة -رضي الله عنها-، ولم تجد إلا تمرات ثلاث، فأعطتها إياها، وكان معها ابنتان، فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ثم إنها شقت التمرة الثالثة، وأعطت كل واحدة منهما نصفًا.
فيعطى السائل أو المسكين ما تيسر ولو قَلَّ، وجاء في الحديث الآخر: «لا تحقرن جارة لجارتها ولو فِرْسَن شاة» أي: ولو كان شيئًا يسيرًا فلا يستهان به، فالمهم هو الإحسان والبذل...
(وجاء) في الحديث: «ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، والأكلة والأكلتان» أي: الذي يرضى بالشيء اليسير «ولكن المسكين هو الذي لا يجد غِنَى يُغنيه، ولا يفطن الناس له فيتصدقون عليه». شرح سنن أبي داود (203/5).

وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا


ابلاغ عن خطا