الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

لما قَدِمَ مُعاذٌ -رضي الله عنه- مِن الشَّامِ سَجَدَ للنبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: «ما هذا يا مُعاذُ؟» قال: أتيتُ الشَّامَ فَوَافَقْتُهُم يسجدونَ لِأَسَاقِفَتِهِم وبَطَارِقَتِهِم، فوَدِدْتُ في نفسي أنْ نَفْعَلَ ذلك بك، فقال رسولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: «فلا تَفْعَلُوا، فإنِّي لو كنتُ آمِرًا أحدًا أنْ يَسْجُدَ لغيرِ اللَّهِ لأمرتُ المرأةَ أنْ تسجدَ لزوجِهَا، والَّذي نَفْسُ محمدٍ بيدِهِ، لا تُؤَدِّي المرأةُ حقَّ ربِّهَا حتَّى تُؤَدِّيَ حقَّ زوجِهَا، ولو سألها نفسَهَا وهي على قَتَبٍ لم تَمْنَعْهُ».


رواه أحمد برقم: (19403)، وابن ماجه (1853) واللفظ له، وابن حبان (4171)، والبيهقي في الكبرى برقم: (14711)، عن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (5295)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (1938).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«لأساقفتهم»:
الأُسْقُفُّ: هو عالمٌ رئيسٌ من علماء النصارى ورؤسائهم، وهو اسم ‌سرياني، ويحتمل أن يكون سُمِّي به لخضوعه وانحنائه في عبادته، والسَّقَفُ في اللغة طولٌ في انحناء. النهاية، ابن الأثير (2/ 379).

«وبطَارِقَتِهِمْ»:
البِطْريق: ‌العظيم ‌من ‌الروم، والبِطْريق: القائد لأهل الشام والروم. العين، للخليل (5/ 257).
هو: الحاذق بالحرب وأمورها بلغة الروم، وهو ذو منصبٌ وتقدمٌ عندهم. النهاية، لابن الأثير (2/ 379).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
البَطَارقة وهم: خواص ملوك الروم وقُوَّادهم. مشارق الأنوار، للقاضي عياض (1/ 87).

«قَتَبٌ»:
القَتَبُ: إكاف الجمَل، والتذكير فيه أعم من التأنيث؛ ولذلك أنَّثُوا المصغّر فقالوا: قُتيبة، والقَتَب ‌قتبٌ صغير على البعير السَّاني (الذي يُستقى عليه)، قال لبيد:
حتى تحيَّرت الدِّبَارُ (مجاري الماء) كأنها ** زَلَفٌ، وأُلقي قتبُها المحزومُ
وقال الفراهيدي -رحمه الله-:
وأَقْتَبَتُ البعير: شددتُ عليه القتَب، والمبعوجُ تُجر أقتابه أي: أمعاؤه، الواحد ‌قَتَب. العين(5/ 131).
وقال القرطبي -رحمه الله-:
معنى القَتَبُ: أن العرب يَعِزُّ عندهم وجودُ كرسي للولادة؛ فيحملون نساءهم على القَتَب عند الولادة. الجامع لأحكام القرآن(1/ 293).


شرح الحديث


قوله: «لما قدم معاذ -رضي الله عنه- من الشام سجد للنبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: «ما هذا يا معاذ؟! قال: أتيت الشام فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فودِدتُ في نفسي أن نفعل ذلك بك؛ فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فلا تفعلوا»:
قال السندي -رحمه الله-:
«فوافَقْتُهم» أي: صادَفْتُهم ووجدتهم، «لأَسَاقِفَتهم وبَطَارِقَتهم» أي: رؤسائهم وأمرائهم. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه (1/ 570).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
وأما فِعل ذلك (أي: السجود لغير الله) تَدَيُّنًا وتقرُّبًا فهذا من أعظم المنكرات، ومن اعتقد مثل هذا قربة وتديُّنًا فهو ضال مفترٍ، بل يُبيَّن له أن هذا ليس بدين ولا قربة، فإن أصر على ذلك استتيب فإن تاب وإلا قُتل. مجموع الفتاوى (1/ 372).
وقال ابن كثير -رحمه الله-:
وقد ‌كان ‌هذا ‌سائغًا ‌في ‌شرائعهم (أي الروم) إذا سلّموا على الكبير يسجدون له، ولم يزل هذا جائزًا من لدن آدم إلى شريعة عيسى -عليه السلام-، فحُرِّم هذا في هذه الملة، وجعل السجود مختصًّا بجناب الرب -سبحانه وتعالى-. تفسير القرآن العظيم (4/ 412).
وقال ابن الحاج -رحمه الله-:
وفي بعض طرق حديث معاذ: «ونهى عن السجود للبشر، وأمرنا بالمصافحة» قلتُ: وهذا السجود المنهي عنه قد اتخذه جهالُ المتصوفة عادةً في سماعهم، وعند دخولهم على مشايخهم، واستغفارهم؛ فترى الواحدَ منهم إذا أخذه الحالُ بزعمه يسجد للأقدام، سواء كان للقبلة أو غيرها، جهالةً منه! ضل سعيهم، وخاب عملهم. المدخل (3/ 94).
وقال القلقشندي -رحمه الله-:
وعن صهيب: «أن معاذًا (لما) قدم من اليمن سجد للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا ‌معاذ، ما هذا؟ قال: إن اليهود تسجد لعظمائها وعلمائها، ورأيت النصارى تسجد لقسيسيها وبطارقتها، قلت: ما هذا؟ قالوا: تحية الأنبياء، فقال -عليه السلام-: كذبوا على أنبيائهم»، وعن سفيان الثوري، عن سماك بن هانئ قال: دخل الجاثليق (حَكيمُ أو رئيس النَّصارَى) على علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، فأراد أن يسجد له، فقال له علي: "اسجد لله ولا تسجد لي".
فلما وردت شريعةُ الإسلام بنسخ التحية بالسجود، وغلب ملوك العجم على الأقطار؛ استصحبوا ما كان عليه الأمر في الأمم الخالية، وعبّروا عنه بتقبيل الأرض فرارًا من اسم السجود، ولورود الشريعة بالنهي عنه، واستمر ذلك تحية الملوك إلى الآن، فاستعار الكُتاب ذلك ونقلوه من الفعل إلى اللفظ، فاستعملوه في مكاتباتهم إلى الخلفاء والملوك، ثم توسعوا في ذلك؛ فكاتبوا به كلَّ من له عظمة بالنسبة إلى المكتوب عنه، ورتَّبوه مراتب على ما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى، ولا خفاء في ما في هذه المكاتبة من الكراهة. صبح الأعشى في صناعة الإنشاء (6/ 327).

قوله: «فإني لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها»:
قال ابن الجوزي -رحمه الله-:
«لو كنتُ آمرًا بشرًا أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» فنهاهم عما عساه يبلغ بهم العبادة، ثم ليس من شرط النهي أن يكون المنهي عنه قد فُعل، وإنما هو منع من أمر يجوز أن يقع. كشف المشكل (1/ 65).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «لو كُنْتُ آمرًا أحدًا أن يسجدَ لأحد...» إلى آخره؛ يعني: لا يجوز لأحد أن يسجدَ لغير الله، ولو جاز أن يسجدَ أحدٌ لغير الله لأَمرتُ المرأةَ أن تسجدَ لزوجها، وإنما ذُكر هذا الحديثُ لبيانِ أنه لا يجوزُ السجودُ لغير الله؛ ولبيانِ تأكيد حقِّ الزوج على الزوجة. المفاتيح في شرح المصابيح (4/ 88).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«فلو كنت آمرًا» بمد الهمزة وكسر الميم مع التنوين اسم فاعل من أَمَرَ. شرح سنن أبي داود (9/ 466).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال القاضي أبو بكر بن العربي في شرحه: وخص كفران العشير من بين أنواع الذنوب لدقيقةٍ بديعةٍ وهي قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها»، فقرن حق الزوج على الزوجة بحق الله، فإذا كفرت المرأةُ حق زوجها وقد بلغ من حقه عليها هذه الغاية كان ذلك دليلًا على تهاونها بحق الله، فلذلك يُطلق عليها الكفر، لكنه كفر لا يخرج عن الملة. فتح الباري (1/ 83).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد» يعني: لو جاز السجود لغير الله «لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها».
وفيه: بيان تأكيد حق الزوج على الزوجة. شرح المصابيح (4/ 16).
وقال العظيم آبادي -رحمه الله-:
«لو كنت آمُرُ» بصيغة المتكلم، وفي بعض النسخ «آمرًا» بصيغة الفاعل، أي: لو صح لي أن آمر أو لو فرض أني كنت آمر «لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن؛ لما جعل الله لهم عليهن من الحق» وفي بعض النُّسخ: «من حقٍ» فالتنوين للتكثير والتعريف للجنس، وفيه إيماء إلى قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} النساء: 34. عون المعبود (6/ 126).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«لو كنت آمرًا» وفي رواية: «لو كنت آمُرُ»، «أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» فيه: تعليق الشرط بالمحال؛ لأن السجود قسمان: سجود عبادة، وليس إلا لله وحده، ولا يجوز لغيره أبدًا، وسجود تعظيم؛ وذلك جائز، فقد سجد الملائكة لآدم تعظيمًا، وأخبر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أن ذلك لا يكون، ولو كان لجعل للمرأة في أداء حق الزوج، وقال غيره (أي ابن العربي): إن السجود لمخلوق لا يجوز، وسجود الملائكة خضوع وتواضع له؛ من أجل عِلْمِ الأسماء الذي علَّمه الله له وأنبأهم بها، فسجودهم إنما هو ائتمام به؛ لأنه خليفة الله، لا سجودَ عبادة. فيض القدير (5/ 329).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«لو» حرف يقتضي امتناع ما يليه واستلزامه لتاليه «كنت آمرًا» بمد الهمزة مضارع من الأمر، والجملة خبر كان، ورأيته في نسخة من (الجامع الصغير) منونًا على أنه وصف خبر مفرد، «أحدًا» أي: من بني آدم «أن يسجد...» تعظيمًا له وأداءً لحقه «لأمرتُ ‌المرأة أن تسجد لزوجها»؛ لما له عليها من عظيم الحق الواجب القيام به. دليل الفالحين (3/ 113).

قوله: «والذي نفس محمد بيده، لا تؤدي المرأةُ حق ربها حتى تؤدي حق زوجها»:
قال محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«والذي نفس محمد بيده» المقدسة «لا تؤدي المرأة حق ربها» وخالقها؛ أي: لا يُقبل منها حق الله تعالى إذا فعلت حق القبول «حتى تؤدي حق زوجها»؛ لأن الله تعالى ساخط عليها، ولو فعلت حقه ما دام زوجها ساخطًا عليها؛ كما في الحديث. مرشد ذوي الحجا والحاجة (11/ 39-40).

قوله: «ولو سألها نفسَها وهي على قَتَب لم تمنعه»:
قال السندي -رحمه الله-:
«ولو سألها» أي: الزوج «نفسَها» أي: الجماع، «على قَتَب» بفتحتين للجَمَل كالإكاف لغيره، ومعناه: الحث على مطاوعة أزواجهن، وأنهن لا ينبغي لهن الامتناع في هذه الحالة، فكيف في غيرها! وقيل: إن نساء العرب كن إذا أردن الولادة جلسن على قتب، ويقال: إنه أسهل لخروج الولد، فأراد تلك الحالة.
قال أبو عبيد: كنا نرى أن المعنى: وهي تسير على ظهر البعير، فجاء التفسير في بعض الحديث بغير ذلك.
وفي الزوائد: رواه ابن حبان في صحيحه. كأنه يريد أنه صحيح الإسناد، وذكر أن بعضهم قالوا: لما قدم معاذ من اليمن. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه (1/ 570).
وقال محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ولو سألها» زوجها، أي: راود «نفسها» للجماع بها «وهي» أي: والحال أنَّها راكبة «على قتب» وهو للجمل كالسَّرج للخيل والإكاف للحمار «لَمْ تمنعه» من الجماع بها من غير عذر شرعي.
ومعنى الحديث: الحث لها على مطاوعة زوجها فيما أراد منها من الاستمتاع، وأنها لا ينبغي لها الامتناع منه في هذه الحالة، فكيف في غيرها؟! مرشد ذوي الحجا والحاجة (11/ 40).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
فالمرأة عند زوجها تشبه الرقيق والأسير؛ فليس لها أن تخرج من منزله إلا بإذنه -سواء أمرها أبوها أو أمها أو غير أبويها- باتفاق الأئمة، وإذا أراد الرجل أن ينتقل إلى مكان آخر مع قيامه بما يجب عليه، وحفظ حدود الله فيها، ونهاها أبوها عن طاعته في ذلك؛ فعليها أن تطيع زوجها دون أبويها؛ فإن الأبوين هما ظالمان؛ ليس لهما أن ينهياها عن طاعة مثل هذا الزوج، وليس لها أن تطيع أمّها فيما تأمرها به من الاختلاع منه، أو مضاجرته حتى يطلقها، مثل: أن تطالبه من النفقة والكسوة والصداق بما تطلبه؛ ليطلقها، فلا يحل لها أن تطيع واحدًا من أبويها في طلاقه إذا كان متقيًا لله فيها. مجموع الفتاوى (32/ 263)


ابلاغ عن خطا